من هو المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟

كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
TT

من هو المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟

كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)

لطالما طُرح هذا السؤال في التسعينات، بصورة مكثفة لم تكن موجودة من قبل: من هو المرشد الأعلى للصحوة (الإسلامية)؟ كنا نتساءل صادقين عن المرجعية. عندنا في السعودية، كان يقال إن سلمان العودة وسفر الحوالي هما من قام بهذه الوظيفة. إلا أن هذا الجواب يرد عليه أن في كل قطر عربي هناك أسماء تقوم بنفس مهمة الحوالي والعودة. كل هؤلاء في دائرة واحدة، مجرد بيادق ومرجعيات صغرى. كل هؤلاء لا يصلون إلى مرتبة المرشد، بل كلهم يقومون بوظائف أقل، ويستندون إلى اسم أكبر منهم كلهم.
برز لفترة اسم محمد سرور زين العابدين، الشيخ السوري الذي كان شيخاً للعودة والحوالي، إلا أن التحليل البسيط للمشهد يدل على أن سرور كان أقل قيمة من تلميذيه العودة والحوالي، وأن من يعرفونه ويعرّفون به ليسوا سوى تلاميذه ومنهم العودة والحوالي. أما هو فلا يكاد يكون معروفاً إلى اليوم عند أحد، لولا محاولات التلميع الأخيرة التي حدثت في آخر حياته، عندما قبل الظهور على إحدى القنوات الإخوانية مع عزام التميمي.
انتقل السؤال إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، لكن الجواب جاء سريعاً بأن مرشد «الإخوان المسلمين» لا يملك سلطة على أصغر مشايخ الدين السعوديين، ولا على أمثالهم في بقية الدول العربية والإسلامية. كل بلد من البلدان العربية لديها مرجعياتها التي تصرّح بتحفظات ليست بالقليلة على نهج «الإخوان» وميوعتهم المبالغ فيها.
هذا ينطبق أيضاً على القرضاوي الإخواني الخارج بدوره عن سلطة مرشده. فالقرضاوي لا يمثل سلطة عليا على رجال الدين في السعودية وبقية الدول العربية والإسلامية. هناك «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، الذي ترأسه القرضاوي وكان نائبه سلمان العودة، وأصبح يرأسه اليوم أحمد الريسوني بعد وفاة القرضاوي، لكن هذا الاتحاد الصوري، بالإضافة إلى أنه حديث العهد، لا يملك أي مرجعية حقيقية ولا سلطة مؤثرة، ولدى الإسلاميين من التحفظات على هذا الاتحاد وأفكاره، ما يطول مقام حصره.
هل يمكن أن يكون سيد قطب وكتابه في «ظلال القرآن»، هو المرشد؟ واقعاً، لا. ينظر الإسلاميون إلى قطب على أنه رجل أدب وبلاغة وليس بشيخ دين، بمعنى أن الثقة لا يمكن أن تكون كاملة بما يصدر عنه مما يصنّف على أنه فتاوى شرعية، وإن كان بعضهم لا يستطيع كبت الافتتان برؤيته ورؤية أخيه محمد قطب عن جاهلية القرن العشرين وتكفير الحكومات القائمة، فاختلط الشِعري بالشرعي، رغم ما تعاني منه حججهما من ضعف شديد في إثبات دعواهما. فدعواهما عن كفر الحاكم لو طبقناها على خليفة المسلمين عمر بن الخطاب للزم القطبيين أن يكفّروه، لأن عمر قد غيَّر بعض الأحكام فعلاً، أسقط حد قطع يد السارق في زمن المجاعة، وهذه يمكن أن يجاب عنها بأن المجاعة لها أحكام خاصة لا تطبق في الظروف العادية. وأسقط عمر بن الخطاب حكم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وهذه لا يمكن الإجابة عنها لأن الحاجة للمؤلفة قلوبهم ستظل قائمة للأبد، ولا يمكن أن يقال إن الله قد أغنانا عنهم، فقد يعود الإسلام لمثل حاله الأولى في وقت الضعف، فيحتاج إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنه. وغيَّر عمر في حكم الطلاق، فصارت الطلقات الثلاث في مجلسٍ واحد ثلاثاً، فعل هذا من باب التأديب، وهذه لو اجتمع القطبيون كلهم ليجيبوا عنها، ما أجابوا عنها علمياً.
النص القرآني واضح (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، أي أن الرجل إذا طلق امرأته ألف مرة فهي طلقة واحدة، ولا تقع عليها الطلقة الثانية إلا بعد المراجعة والصلح كفرصة ثانية، فإن طلقها بعد ذلك ثم راجعها وصالحها، فإنها ترجع وليس له بعدها إلا طلقة واحدة هي التسريح بإحسان.
استطردت في هذه القضية لأوضح سذاجة وسطحية وسُقم فهم سيد قطب وأخيه محمد للإسلام، فهما يتصوران أن أي تغيير في الحكم، ولو حُكماً واحداً، يلزم منه تكفير الحاكم. وهذا ما مارسوه ومارسه أتباعهم فعلاً خلال العقود الماضية، دون أن يحاول واحد منهم أن يجيب على سؤال أكرر طرحه منذ عشرين سنة: لماذا لم يكفّروا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، إذا كان تغيير الحكم يلزم منه تكفير الحاكم؟
من هو إذن المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟
لم يعد لدي شك في أن ابن تيمية أحمد بن عبد السلام، هو من كان يقوم بهذه المهمة طوال الوقت. ابن تيمية هو المرشد الحقيقي لطريقة التعامل مع الحاكم ومع المحكومين، وهو رجل ينطبق عليه وصف «الإسلامي السياسي» بكل وضوح، وطريقته شديدة التعقيد، ولا تخلو من المراوغات الطويلة والانطلاق من الإيمان بأن رجل الدين شريك في الحكم. هذا ما اعترف به راشد الغنوشي نفسه في أحد كتبه.
لا يمكن أبداً أن ننسى واقعة الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي وقع أسيراً في يد جماعة «داعش» فقاموا بإحراقه على مشهد كل القنوات الإخبارية، مستندين في ذلك على فتوى لابن تيمية تبيح مثل هذا الفعل الشنيع، من باب المعاملة بالمثل. وقد منعت الحكومة الأردنية بيع كتب ابن تيمية بعد هذه الحادثة التي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة.
هل يمكن أن ندافع عن ابن تيمية في هذا المضمار؟ الواقع أنه ليس من حق الإرهابيين والدواعش أن يحتجوا بابن تيمية في قضية التكفير، لأنه لم يُكفّر الحكام المماليك الذين عاش في كنفهم في الشام ومصر، وأنه كان متعاوناً مع الدولة، بل إنه في بعض نصوصه شبَّه حكم السلطان محمد بن قلاوون حاكم مصر والشام والحجاز وبعض أفريقيا بأنه على منهج الخلافة الراشدة.
هنا يتضح خداع التكفيريين، وما أكثرهم، ممن يحاولون أن ينتزعوا من ابن تيمية عبارة تصلح للقياس، بحيث يكفرون الحكومات العربية اعتماداً عليه واحتجاجاً بقوله. ومع ذلك لن يجدوا في كل ما كتب ما يدعم توجههم، فموقفه واضح، هو مع الدولة وليس ضدها، ولم يحدث أبداً أن كفّر أحد السلاطين، مع أن كلامه في الجاشنكير بيبرس الثاني كان شديداً للغاية.
سيظل الإرهابيون يحتجون به على كل حال، سواء أرَضينا بذلك أم لا. وعند الباحث الصادق مع نفسه، سوف ستبقى قضية إقامة الحدود مشكلة، لأنه هو الفقيه الذي خالف الأئمة الأربعة وكل فقهاء المسلمين، عندما قرر أن إقامة الحدود لا تترك للأمراء (أي لا تترك للدولة)، بل يجوز للأفراد أن يقوموا بها، ليسوا أي أفراد، وإنما من يُظن بهم الفقه والدين. بطبيعة الحال، يمكن أن نلتمس العذر لابن تيمية بأن زمنه كان زمن ثورات وفتن، ولم يكن الاستقرار السياسي على الدرجة المطلوبة، فما كان الناس يفرغون من صد عدوان الصليبيين، حتى يحتاجوا إلى التعبئة العامة لمواجهة التتار، وفي مثل هذه الظروف قد تحدث البلبلة والفوضى وشتات الفكر.
قضية ابن تيمية وإقامة الحدود من قبل الأفراد لها قصة، هي قصة عساف النصراني، الذي ادعى عليه أشخاص أنه في وسط الشام الإسلامي سب الإسلام ونبي الإسلام، فقام ابن تيمية مع هؤلاء الأشخاص وتقدموا بشكوى للدولة، وطالبوا بقتل عساف، إلا أن الأخير أثبت للدولة أن من رفعوا عليه القضية ابتداءً، انطلقوا من عداوة شخصية ولم يقولوا الحقيقة. لا يوجد مصدر تاريخي واحد ممن نقلوا القصة أنكر أن عسافاً أثبت الخصومة هنا، فما كان من نائب السلطان الأمير في الشام إلا أن جلد ابن تيمية ومن معه لأنه رأى أنهم افتروا على الرجل.
إذا ثبت أن تلك الدعوى كانت كيدية، فهذا يعني أن حكم الأمير صحيح. ومع هذا فقد عاد وطيّب خاطر ابن تيمية ومن معه بشيء من المال، إلا أن نفسه لم تطب، وأحزنه أن يجلد أمام الملأ بهذه الصورة، فخرج ليكتب كتابه «الصارم المسلول». نص غاضب للغاية، قرر فيه وفي غيره مبادئ كارثية للغاية، مثل قوله «لا تسلم الحدود إلى السلطان إذا كان مضيّعاً لها أو عاجزاً عنها مع إمكان حفظها من دونه». ويقول: «وقول من قال (لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه)، إذا كانوا قادرين قائمين بالعدل، كما يقول الفقهاء (الأمر إلى الحاكم) إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيّعاً لأموال اليتامى، أو عاجزاً عنها فلا يجب تسليمها إليه مع إمكان إقامتها من دونه».
كلام واضح لا لبس فيه، وصريح أدى إلى تقرير الفوضى وإقرارها، وأنه يجوز لمن يظن في نفسه العلم والدين أن يقتل وأن يجلد دون ارتباط بالدولة. هذه الجرأة لم تقع من أي فقيه من فقهاء السنة الأربعة، ومن هنا بالضبط بدأت قصة عشق الإرهابيين لنصوص ابن تيمية.
* باحث سعودي



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.