من هو المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟

كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
TT

من هو المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟

كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)

لطالما طُرح هذا السؤال في التسعينات، بصورة مكثفة لم تكن موجودة من قبل: من هو المرشد الأعلى للصحوة (الإسلامية)؟ كنا نتساءل صادقين عن المرجعية. عندنا في السعودية، كان يقال إن سلمان العودة وسفر الحوالي هما من قام بهذه الوظيفة. إلا أن هذا الجواب يرد عليه أن في كل قطر عربي هناك أسماء تقوم بنفس مهمة الحوالي والعودة. كل هؤلاء في دائرة واحدة، مجرد بيادق ومرجعيات صغرى. كل هؤلاء لا يصلون إلى مرتبة المرشد، بل كلهم يقومون بوظائف أقل، ويستندون إلى اسم أكبر منهم كلهم.
برز لفترة اسم محمد سرور زين العابدين، الشيخ السوري الذي كان شيخاً للعودة والحوالي، إلا أن التحليل البسيط للمشهد يدل على أن سرور كان أقل قيمة من تلميذيه العودة والحوالي، وأن من يعرفونه ويعرّفون به ليسوا سوى تلاميذه ومنهم العودة والحوالي. أما هو فلا يكاد يكون معروفاً إلى اليوم عند أحد، لولا محاولات التلميع الأخيرة التي حدثت في آخر حياته، عندما قبل الظهور على إحدى القنوات الإخوانية مع عزام التميمي.
انتقل السؤال إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، لكن الجواب جاء سريعاً بأن مرشد «الإخوان المسلمين» لا يملك سلطة على أصغر مشايخ الدين السعوديين، ولا على أمثالهم في بقية الدول العربية والإسلامية. كل بلد من البلدان العربية لديها مرجعياتها التي تصرّح بتحفظات ليست بالقليلة على نهج «الإخوان» وميوعتهم المبالغ فيها.
هذا ينطبق أيضاً على القرضاوي الإخواني الخارج بدوره عن سلطة مرشده. فالقرضاوي لا يمثل سلطة عليا على رجال الدين في السعودية وبقية الدول العربية والإسلامية. هناك «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، الذي ترأسه القرضاوي وكان نائبه سلمان العودة، وأصبح يرأسه اليوم أحمد الريسوني بعد وفاة القرضاوي، لكن هذا الاتحاد الصوري، بالإضافة إلى أنه حديث العهد، لا يملك أي مرجعية حقيقية ولا سلطة مؤثرة، ولدى الإسلاميين من التحفظات على هذا الاتحاد وأفكاره، ما يطول مقام حصره.
هل يمكن أن يكون سيد قطب وكتابه في «ظلال القرآن»، هو المرشد؟ واقعاً، لا. ينظر الإسلاميون إلى قطب على أنه رجل أدب وبلاغة وليس بشيخ دين، بمعنى أن الثقة لا يمكن أن تكون كاملة بما يصدر عنه مما يصنّف على أنه فتاوى شرعية، وإن كان بعضهم لا يستطيع كبت الافتتان برؤيته ورؤية أخيه محمد قطب عن جاهلية القرن العشرين وتكفير الحكومات القائمة، فاختلط الشِعري بالشرعي، رغم ما تعاني منه حججهما من ضعف شديد في إثبات دعواهما. فدعواهما عن كفر الحاكم لو طبقناها على خليفة المسلمين عمر بن الخطاب للزم القطبيين أن يكفّروه، لأن عمر قد غيَّر بعض الأحكام فعلاً، أسقط حد قطع يد السارق في زمن المجاعة، وهذه يمكن أن يجاب عنها بأن المجاعة لها أحكام خاصة لا تطبق في الظروف العادية. وأسقط عمر بن الخطاب حكم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وهذه لا يمكن الإجابة عنها لأن الحاجة للمؤلفة قلوبهم ستظل قائمة للأبد، ولا يمكن أن يقال إن الله قد أغنانا عنهم، فقد يعود الإسلام لمثل حاله الأولى في وقت الضعف، فيحتاج إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنه. وغيَّر عمر في حكم الطلاق، فصارت الطلقات الثلاث في مجلسٍ واحد ثلاثاً، فعل هذا من باب التأديب، وهذه لو اجتمع القطبيون كلهم ليجيبوا عنها، ما أجابوا عنها علمياً.
النص القرآني واضح (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، أي أن الرجل إذا طلق امرأته ألف مرة فهي طلقة واحدة، ولا تقع عليها الطلقة الثانية إلا بعد المراجعة والصلح كفرصة ثانية، فإن طلقها بعد ذلك ثم راجعها وصالحها، فإنها ترجع وليس له بعدها إلا طلقة واحدة هي التسريح بإحسان.
استطردت في هذه القضية لأوضح سذاجة وسطحية وسُقم فهم سيد قطب وأخيه محمد للإسلام، فهما يتصوران أن أي تغيير في الحكم، ولو حُكماً واحداً، يلزم منه تكفير الحاكم. وهذا ما مارسوه ومارسه أتباعهم فعلاً خلال العقود الماضية، دون أن يحاول واحد منهم أن يجيب على سؤال أكرر طرحه منذ عشرين سنة: لماذا لم يكفّروا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، إذا كان تغيير الحكم يلزم منه تكفير الحاكم؟
من هو إذن المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟
لم يعد لدي شك في أن ابن تيمية أحمد بن عبد السلام، هو من كان يقوم بهذه المهمة طوال الوقت. ابن تيمية هو المرشد الحقيقي لطريقة التعامل مع الحاكم ومع المحكومين، وهو رجل ينطبق عليه وصف «الإسلامي السياسي» بكل وضوح، وطريقته شديدة التعقيد، ولا تخلو من المراوغات الطويلة والانطلاق من الإيمان بأن رجل الدين شريك في الحكم. هذا ما اعترف به راشد الغنوشي نفسه في أحد كتبه.
لا يمكن أبداً أن ننسى واقعة الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي وقع أسيراً في يد جماعة «داعش» فقاموا بإحراقه على مشهد كل القنوات الإخبارية، مستندين في ذلك على فتوى لابن تيمية تبيح مثل هذا الفعل الشنيع، من باب المعاملة بالمثل. وقد منعت الحكومة الأردنية بيع كتب ابن تيمية بعد هذه الحادثة التي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة.
هل يمكن أن ندافع عن ابن تيمية في هذا المضمار؟ الواقع أنه ليس من حق الإرهابيين والدواعش أن يحتجوا بابن تيمية في قضية التكفير، لأنه لم يُكفّر الحكام المماليك الذين عاش في كنفهم في الشام ومصر، وأنه كان متعاوناً مع الدولة، بل إنه في بعض نصوصه شبَّه حكم السلطان محمد بن قلاوون حاكم مصر والشام والحجاز وبعض أفريقيا بأنه على منهج الخلافة الراشدة.
هنا يتضح خداع التكفيريين، وما أكثرهم، ممن يحاولون أن ينتزعوا من ابن تيمية عبارة تصلح للقياس، بحيث يكفرون الحكومات العربية اعتماداً عليه واحتجاجاً بقوله. ومع ذلك لن يجدوا في كل ما كتب ما يدعم توجههم، فموقفه واضح، هو مع الدولة وليس ضدها، ولم يحدث أبداً أن كفّر أحد السلاطين، مع أن كلامه في الجاشنكير بيبرس الثاني كان شديداً للغاية.
سيظل الإرهابيون يحتجون به على كل حال، سواء أرَضينا بذلك أم لا. وعند الباحث الصادق مع نفسه، سوف ستبقى قضية إقامة الحدود مشكلة، لأنه هو الفقيه الذي خالف الأئمة الأربعة وكل فقهاء المسلمين، عندما قرر أن إقامة الحدود لا تترك للأمراء (أي لا تترك للدولة)، بل يجوز للأفراد أن يقوموا بها، ليسوا أي أفراد، وإنما من يُظن بهم الفقه والدين. بطبيعة الحال، يمكن أن نلتمس العذر لابن تيمية بأن زمنه كان زمن ثورات وفتن، ولم يكن الاستقرار السياسي على الدرجة المطلوبة، فما كان الناس يفرغون من صد عدوان الصليبيين، حتى يحتاجوا إلى التعبئة العامة لمواجهة التتار، وفي مثل هذه الظروف قد تحدث البلبلة والفوضى وشتات الفكر.
قضية ابن تيمية وإقامة الحدود من قبل الأفراد لها قصة، هي قصة عساف النصراني، الذي ادعى عليه أشخاص أنه في وسط الشام الإسلامي سب الإسلام ونبي الإسلام، فقام ابن تيمية مع هؤلاء الأشخاص وتقدموا بشكوى للدولة، وطالبوا بقتل عساف، إلا أن الأخير أثبت للدولة أن من رفعوا عليه القضية ابتداءً، انطلقوا من عداوة شخصية ولم يقولوا الحقيقة. لا يوجد مصدر تاريخي واحد ممن نقلوا القصة أنكر أن عسافاً أثبت الخصومة هنا، فما كان من نائب السلطان الأمير في الشام إلا أن جلد ابن تيمية ومن معه لأنه رأى أنهم افتروا على الرجل.
إذا ثبت أن تلك الدعوى كانت كيدية، فهذا يعني أن حكم الأمير صحيح. ومع هذا فقد عاد وطيّب خاطر ابن تيمية ومن معه بشيء من المال، إلا أن نفسه لم تطب، وأحزنه أن يجلد أمام الملأ بهذه الصورة، فخرج ليكتب كتابه «الصارم المسلول». نص غاضب للغاية، قرر فيه وفي غيره مبادئ كارثية للغاية، مثل قوله «لا تسلم الحدود إلى السلطان إذا كان مضيّعاً لها أو عاجزاً عنها مع إمكان حفظها من دونه». ويقول: «وقول من قال (لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه)، إذا كانوا قادرين قائمين بالعدل، كما يقول الفقهاء (الأمر إلى الحاكم) إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيّعاً لأموال اليتامى، أو عاجزاً عنها فلا يجب تسليمها إليه مع إمكان إقامتها من دونه».
كلام واضح لا لبس فيه، وصريح أدى إلى تقرير الفوضى وإقرارها، وأنه يجوز لمن يظن في نفسه العلم والدين أن يقتل وأن يجلد دون ارتباط بالدولة. هذه الجرأة لم تقع من أي فقيه من فقهاء السنة الأربعة، ومن هنا بالضبط بدأت قصة عشق الإرهابيين لنصوص ابن تيمية.
* باحث سعودي



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي