من هو المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟

كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
TT

من هو المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟

كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)
كتاب «حصن المسلم» وراية «داعش» وجهاز كومبيوتر تعرض كأدلة في محكمة بلجيكية ديسمبر 2022 (د.ب.أ)

لطالما طُرح هذا السؤال في التسعينات، بصورة مكثفة لم تكن موجودة من قبل: من هو المرشد الأعلى للصحوة (الإسلامية)؟ كنا نتساءل صادقين عن المرجعية. عندنا في السعودية، كان يقال إن سلمان العودة وسفر الحوالي هما من قام بهذه الوظيفة. إلا أن هذا الجواب يرد عليه أن في كل قطر عربي هناك أسماء تقوم بنفس مهمة الحوالي والعودة. كل هؤلاء في دائرة واحدة، مجرد بيادق ومرجعيات صغرى. كل هؤلاء لا يصلون إلى مرتبة المرشد، بل كلهم يقومون بوظائف أقل، ويستندون إلى اسم أكبر منهم كلهم.
برز لفترة اسم محمد سرور زين العابدين، الشيخ السوري الذي كان شيخاً للعودة والحوالي، إلا أن التحليل البسيط للمشهد يدل على أن سرور كان أقل قيمة من تلميذيه العودة والحوالي، وأن من يعرفونه ويعرّفون به ليسوا سوى تلاميذه ومنهم العودة والحوالي. أما هو فلا يكاد يكون معروفاً إلى اليوم عند أحد، لولا محاولات التلميع الأخيرة التي حدثت في آخر حياته، عندما قبل الظهور على إحدى القنوات الإخوانية مع عزام التميمي.
انتقل السؤال إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، لكن الجواب جاء سريعاً بأن مرشد «الإخوان المسلمين» لا يملك سلطة على أصغر مشايخ الدين السعوديين، ولا على أمثالهم في بقية الدول العربية والإسلامية. كل بلد من البلدان العربية لديها مرجعياتها التي تصرّح بتحفظات ليست بالقليلة على نهج «الإخوان» وميوعتهم المبالغ فيها.
هذا ينطبق أيضاً على القرضاوي الإخواني الخارج بدوره عن سلطة مرشده. فالقرضاوي لا يمثل سلطة عليا على رجال الدين في السعودية وبقية الدول العربية والإسلامية. هناك «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، الذي ترأسه القرضاوي وكان نائبه سلمان العودة، وأصبح يرأسه اليوم أحمد الريسوني بعد وفاة القرضاوي، لكن هذا الاتحاد الصوري، بالإضافة إلى أنه حديث العهد، لا يملك أي مرجعية حقيقية ولا سلطة مؤثرة، ولدى الإسلاميين من التحفظات على هذا الاتحاد وأفكاره، ما يطول مقام حصره.
هل يمكن أن يكون سيد قطب وكتابه في «ظلال القرآن»، هو المرشد؟ واقعاً، لا. ينظر الإسلاميون إلى قطب على أنه رجل أدب وبلاغة وليس بشيخ دين، بمعنى أن الثقة لا يمكن أن تكون كاملة بما يصدر عنه مما يصنّف على أنه فتاوى شرعية، وإن كان بعضهم لا يستطيع كبت الافتتان برؤيته ورؤية أخيه محمد قطب عن جاهلية القرن العشرين وتكفير الحكومات القائمة، فاختلط الشِعري بالشرعي، رغم ما تعاني منه حججهما من ضعف شديد في إثبات دعواهما. فدعواهما عن كفر الحاكم لو طبقناها على خليفة المسلمين عمر بن الخطاب للزم القطبيين أن يكفّروه، لأن عمر قد غيَّر بعض الأحكام فعلاً، أسقط حد قطع يد السارق في زمن المجاعة، وهذه يمكن أن يجاب عنها بأن المجاعة لها أحكام خاصة لا تطبق في الظروف العادية. وأسقط عمر بن الخطاب حكم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وهذه لا يمكن الإجابة عنها لأن الحاجة للمؤلفة قلوبهم ستظل قائمة للأبد، ولا يمكن أن يقال إن الله قد أغنانا عنهم، فقد يعود الإسلام لمثل حاله الأولى في وقت الضعف، فيحتاج إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنه. وغيَّر عمر في حكم الطلاق، فصارت الطلقات الثلاث في مجلسٍ واحد ثلاثاً، فعل هذا من باب التأديب، وهذه لو اجتمع القطبيون كلهم ليجيبوا عنها، ما أجابوا عنها علمياً.
النص القرآني واضح (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، أي أن الرجل إذا طلق امرأته ألف مرة فهي طلقة واحدة، ولا تقع عليها الطلقة الثانية إلا بعد المراجعة والصلح كفرصة ثانية، فإن طلقها بعد ذلك ثم راجعها وصالحها، فإنها ترجع وليس له بعدها إلا طلقة واحدة هي التسريح بإحسان.
استطردت في هذه القضية لأوضح سذاجة وسطحية وسُقم فهم سيد قطب وأخيه محمد للإسلام، فهما يتصوران أن أي تغيير في الحكم، ولو حُكماً واحداً، يلزم منه تكفير الحاكم. وهذا ما مارسوه ومارسه أتباعهم فعلاً خلال العقود الماضية، دون أن يحاول واحد منهم أن يجيب على سؤال أكرر طرحه منذ عشرين سنة: لماذا لم يكفّروا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، إذا كان تغيير الحكم يلزم منه تكفير الحاكم؟
من هو إذن المرشد الأعلى للصحوة الإسلامية؟
لم يعد لدي شك في أن ابن تيمية أحمد بن عبد السلام، هو من كان يقوم بهذه المهمة طوال الوقت. ابن تيمية هو المرشد الحقيقي لطريقة التعامل مع الحاكم ومع المحكومين، وهو رجل ينطبق عليه وصف «الإسلامي السياسي» بكل وضوح، وطريقته شديدة التعقيد، ولا تخلو من المراوغات الطويلة والانطلاق من الإيمان بأن رجل الدين شريك في الحكم. هذا ما اعترف به راشد الغنوشي نفسه في أحد كتبه.
لا يمكن أبداً أن ننسى واقعة الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي وقع أسيراً في يد جماعة «داعش» فقاموا بإحراقه على مشهد كل القنوات الإخبارية، مستندين في ذلك على فتوى لابن تيمية تبيح مثل هذا الفعل الشنيع، من باب المعاملة بالمثل. وقد منعت الحكومة الأردنية بيع كتب ابن تيمية بعد هذه الحادثة التي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة.
هل يمكن أن ندافع عن ابن تيمية في هذا المضمار؟ الواقع أنه ليس من حق الإرهابيين والدواعش أن يحتجوا بابن تيمية في قضية التكفير، لأنه لم يُكفّر الحكام المماليك الذين عاش في كنفهم في الشام ومصر، وأنه كان متعاوناً مع الدولة، بل إنه في بعض نصوصه شبَّه حكم السلطان محمد بن قلاوون حاكم مصر والشام والحجاز وبعض أفريقيا بأنه على منهج الخلافة الراشدة.
هنا يتضح خداع التكفيريين، وما أكثرهم، ممن يحاولون أن ينتزعوا من ابن تيمية عبارة تصلح للقياس، بحيث يكفرون الحكومات العربية اعتماداً عليه واحتجاجاً بقوله. ومع ذلك لن يجدوا في كل ما كتب ما يدعم توجههم، فموقفه واضح، هو مع الدولة وليس ضدها، ولم يحدث أبداً أن كفّر أحد السلاطين، مع أن كلامه في الجاشنكير بيبرس الثاني كان شديداً للغاية.
سيظل الإرهابيون يحتجون به على كل حال، سواء أرَضينا بذلك أم لا. وعند الباحث الصادق مع نفسه، سوف ستبقى قضية إقامة الحدود مشكلة، لأنه هو الفقيه الذي خالف الأئمة الأربعة وكل فقهاء المسلمين، عندما قرر أن إقامة الحدود لا تترك للأمراء (أي لا تترك للدولة)، بل يجوز للأفراد أن يقوموا بها، ليسوا أي أفراد، وإنما من يُظن بهم الفقه والدين. بطبيعة الحال، يمكن أن نلتمس العذر لابن تيمية بأن زمنه كان زمن ثورات وفتن، ولم يكن الاستقرار السياسي على الدرجة المطلوبة، فما كان الناس يفرغون من صد عدوان الصليبيين، حتى يحتاجوا إلى التعبئة العامة لمواجهة التتار، وفي مثل هذه الظروف قد تحدث البلبلة والفوضى وشتات الفكر.
قضية ابن تيمية وإقامة الحدود من قبل الأفراد لها قصة، هي قصة عساف النصراني، الذي ادعى عليه أشخاص أنه في وسط الشام الإسلامي سب الإسلام ونبي الإسلام، فقام ابن تيمية مع هؤلاء الأشخاص وتقدموا بشكوى للدولة، وطالبوا بقتل عساف، إلا أن الأخير أثبت للدولة أن من رفعوا عليه القضية ابتداءً، انطلقوا من عداوة شخصية ولم يقولوا الحقيقة. لا يوجد مصدر تاريخي واحد ممن نقلوا القصة أنكر أن عسافاً أثبت الخصومة هنا، فما كان من نائب السلطان الأمير في الشام إلا أن جلد ابن تيمية ومن معه لأنه رأى أنهم افتروا على الرجل.
إذا ثبت أن تلك الدعوى كانت كيدية، فهذا يعني أن حكم الأمير صحيح. ومع هذا فقد عاد وطيّب خاطر ابن تيمية ومن معه بشيء من المال، إلا أن نفسه لم تطب، وأحزنه أن يجلد أمام الملأ بهذه الصورة، فخرج ليكتب كتابه «الصارم المسلول». نص غاضب للغاية، قرر فيه وفي غيره مبادئ كارثية للغاية، مثل قوله «لا تسلم الحدود إلى السلطان إذا كان مضيّعاً لها أو عاجزاً عنها مع إمكان حفظها من دونه». ويقول: «وقول من قال (لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه)، إذا كانوا قادرين قائمين بالعدل، كما يقول الفقهاء (الأمر إلى الحاكم) إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيّعاً لأموال اليتامى، أو عاجزاً عنها فلا يجب تسليمها إليه مع إمكان إقامتها من دونه».
كلام واضح لا لبس فيه، وصريح أدى إلى تقرير الفوضى وإقرارها، وأنه يجوز لمن يظن في نفسه العلم والدين أن يقتل وأن يجلد دون ارتباط بالدولة. هذه الجرأة لم تقع من أي فقيه من فقهاء السنة الأربعة، ومن هنا بالضبط بدأت قصة عشق الإرهابيين لنصوص ابن تيمية.
* باحث سعودي



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.