المقدس السياسي ومستقبل الديمقراطية في أميركا

أنصار الرئيس السابق بعد اقتحام «الكابيتول» في 6 يناير 2021 (أ.ف.ب)
أنصار الرئيس السابق بعد اقتحام «الكابيتول» في 6 يناير 2021 (أ.ف.ب)
TT

المقدس السياسي ومستقبل الديمقراطية في أميركا

أنصار الرئيس السابق بعد اقتحام «الكابيتول» في 6 يناير 2021 (أ.ف.ب)
أنصار الرئيس السابق بعد اقتحام «الكابيتول» في 6 يناير 2021 (أ.ف.ب)

في مثل هذا الشهر قبل عامين، فوجئ معظم الأميركيين، صباح 6 يناير (كانون الثاني) 2021، بالهجوم على مبنى الكونغرس من قبل بعض الجماعات المتمردة التي رفضت قبول نتيجة الانتخابات الرئاسية. المخاوف العامة التي تصاعدت وقتئذ كانت تتجاوز الانتماءات الحزبية والسياسية إلى «جوهر» ما يمتلكه المواطنون الأميركيون من «قوة»، وهو بكلمة واحدة: «الديمقراطية» التي هددت في أهم رمز من رموزها.
إذ إن قوة أميركا الحقيقية ليست في قدرتها النووية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية، فهذه هي القوة وليست سببها أو مصدرها، لكن ديمقراطيتها ودستورها وقوانينها هي التي منحتها القوة التي مكنتها من كل شيء.
(1)
تنامي الغرائز السياسية فوق العقلانية في الطيف السياسي الأميركي شديد الاستقطاب، كان يشي منذ عقود بأن ما يبدو على السطح شيء، وما تضطرب به الأعماق شيء آخر، لكن انفجار هذه المشاهد الصادمة التي تابعها العالم عبر الفضائيات والإنترنت، أكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن هناك أزمة بنيوية في آليات الديمقراطية الأميركية، بصرف النظر عن هوية الحزب الفائز أو شخصية الرئيس الجالس في البيت الأبيض.
صحيح أن الديمقراطية في العالم اليوم تواجه معضلات غير مسبوقة، حسب الخبير الفرنسي دومينيك مويزي الذي رأى أن «أغلب مواطني الديمقراطيات في العالم الغربي والهند قد توصلوا منذ فترة إلى قناعة راسخة بأن الديمقراطية لا توفر حلولاً سحرية لمشكلاتهم، وهذا أحد أسباب تنامي (الحركات الشعوبية والدينية) واليمين المتطرف بصفة خاصة، وهذه «الحركات» بدورها أصبحت مصدر التهديد الرئيسي للمؤسسات الديمقراطية المتقدمة»، ناهيك عن أن اليمين المتطرف كان أكبر من استفاد من أدوات الديمقراطية، عبر الإنترنت والميديا التفاعلية، وصارت هي البديل القادم بسرعة الضوء (للبرلمانات التمثيلية المنتخبة).
لكن يبدو أن ما يحدث في الداخل الأميركي (وهو مجتمع متعدد الإثنيات والأعراق والثقافات) يثير مخاوف أكبر من ملاحظات «مويزي» القيمة، فمن ناحية تغيرت أميركا خلال العقود الأخيرة، لا سيما مع اكتساب الأقليات (والمهاجرين) المزيد من السلطة السياسية؛ حيث استطاع أحد الحزبين الرئيسيين الاستحواذ على مكاسبهم السياسية. بينما لم يعد الحزب الآخر المنافس له -فضلاً عن أنصاره بالطبع- مستعداً للتخلي عن سلطتهم السياسية في ظل هذه المتغيرات الديموغرافية المتزايدة.
وفاقم المشكلة تعقيداً «القيم» الأخرى (والمستجدة) التي يعتنقها البعض ويشجعها أحد الحزبين، بالتزامن مع تأييد الحزب المنافس حرية امتلاك الأسلحة ما يزيد من استخدام العنف في المجتمع ودون تمييز، وفي الحالتين يتم تدريجياً تقويض القيم الديمقراطية بشكل أكبر؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة تصاعد وتيرة الحرب الثقافية في أميركا حول: الجنس والنوع والعرق، بل المجاهرة في الميديا من قبل قطاع كبير من الأميركيين بمعارضة: الإجهاض وهجرة الحدود المفتوحة وأجندة المثليين والمتحولين جنسياً.
وعلى ذلك لم تعد المشكلة تتعلق بـ«هوية الحزب الحاكم» أو من هو الأجدر على قيادة أميركا في الألفية الثالثة وسط هذه المتغيرات، وإنما وبالأساس مدى «التوافق فوق الحزبي» وقدرة العقلاء السياسيين من الحزبين على «إدارة التناقضات والخلافات» في المجتمع، في محاولة للحفاظ على نظام سياسي لم يعد - بمعنى ما - يتوافق مع واقع المجتمع الأميركي.
فقد نبه الهجوم على مبنى الكونغرس الأذهان إلى أن «الديمقراطية» في الولايات المتحدة ليست مجرد نظام سياسي وانتهى الأمر! وإنما هي أشبه بـ«العقيدة» التي تضع شروطاً واضحة ومحددة (للجميع ودون استثناء)، ما يعني أن يتخلى المرء (المواطن) عن رغباته الخاصة، ويتنازل عن نضالاته السياسية المضادة، وهذا هو بيت القصيد.

(2)
المخاوف من أن تصبح السياسة والقضايا الخلافية في أميركا غير قابلة للتفاوض أو التوافق، ما يشجع على استخدام العنف والقوة خارج القانون وضد الدولة، تفسر على المستوى الفلسفي أسباب العودة المحمومة والمتجددة للفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 - 1704) في الحياة الفكرية الأميركية، الذي أطلقت عليه كلير ريدل أرسيناس، أستاذة التاريخ في جامعة مونتانا: «فيلسوف أميركا» عنواناً لكتابها الجديد*.
المفارقة هنا أن استلهام أفكار لوك - على مدار ثلاثة قرون - لتناسب احتياجات الوضع التاريخي الراهن في الولايات المتحدة، جعل الأميركيين على اختلافهم يسمونه بأبي الليبرالية ورمز اليمين في نفس الوقت!
ميزة لوك الكبرى - في تصوري - أنه انتصر لـ«سلطة الدولة» على حساب كل السلطات الأخرى - لا سيما المؤسسة الدينية في أوروبا وقتئذ - ووقف بحزم ضد كل ما يهدد السلم المجتمعي، وذلك في عصر لم تكن فيه المجتمعات الأوروبية من النضج لتقبل أفكاره، بينما كان المجتمع الأميركي الجديد - وهو في رحم الغيب - عبر الضفة الأخرى من الأطلنطي، يتطلع بشغف لتطبيق أفكاره على الفور!
وضع لوك - أكبر المؤيدين لمفهوم «التسامح» - ضوابط صارمة من يتعداها لا يمكن التسامح معه تحت أي ظرف من الظروف، وهي الترويج لمعتقدات تهدد السلم المجتمعي، والأفعال العنيفة (الإرهاب) تجاه مؤسسات الدولة والمواطنين الآخرين، والولاء للحكام الخارجيين (الخيانة العظمى)، وهي «ضوابط» في مجملها تخص الدولة فقط.
لذا رأى أن التسامح اللامحدود يدمر التسامح نفسه، وهي الفكرة المحورية التي عالجها بالتفصيل الفيلسوف الأميركي جون رولز في كتابه «نظرية العدالة» متسائلاً: هل ينبغي التسامح مع غير المتسامحين؟ وهو سؤال له شقان: الأول، هل ينبغي للجماعات العنفية والإرهابية أن تتذمر عندما لا يجري التسامح معها؟ والشق الثاني: هل للسلطة السياسية الحق في ألا تتسامح مع غير المتسامحين؟
إجابة السؤال الأول منبثة في القاعدة الذهبية: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به».. وبالتالي ليس للجماعات غير المتسامحة الحق في أن تتذمر عندما لا يجري التسامح معها. أما إجابة السؤال الثاني، فقد رأى رولز أنه حين لا يتهدد سريان الدستور العادل، فمن الأفضل التسامح مع غير المتسامحين.
(3)
فكرة أن الديمقراطية في أميركا أشبه بـ«العقيدة» أكثر منها مجرد نظام سياسي، لها جذورها العميقة في الدستور الأميركي نفسه. وأبرز من كشف عن حضورها في صلب الديمقراطية الليبرالية هو الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي طبق استراتيجيته في التفكيك على نص «الدستور»، ووجد أنه يحيل إلى الكتاب المقدس، في محاولة للبحث عن مسوغ لاهوتي لمشروعية الميلاد السياسي لأميركا.
فقد ألقى دريدا محاضرة في مؤتمر عقد بجامعة فرجينيا بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لإعلان الاستقلال الأميركي (عام 1776)، صارت مقالاً فيما بعد تحت عنوان «سير ذاتية». وحسب كريستوفر نوريس، في كتابه عن دريدا، فإن أسئلة دريدا ركزت أولاً: على الوضع الشرعي والقانوني لوثيقة الاستقلال، التي انبثق بموجبها كيان سياسي هو الولايات المتحدة الأميركية. ثانياً: «حيثية» المواطنين والنواب (وكلاء الشعب) الذين مهروا توقيعاتهم على هذه الوثيقة، ومن ثم دار السؤال حول: من الذي أمد توقيعاتهم بسلطة؛ حيث من المفترض أن مصدر الدستور الوحيد لهذه السلطة كان (هم أنفسهم)؟
أضف إلى ذلك، أن عبارة «فليبارك الرب أميركا» - حسب دريدا - لا تستند إلى «دستور مكتوب، إذ لم يكن الموقعون (على وثيقة إعلان الاستقلال) لحظة التوقيع مزودين ديمقراطياً بسلطة تؤهلهم للعب هذا الدور، فكان لا بد من شاهد حاسم ذي شرعية قانونية («السير الذاتية» ص - 9)، وهذا الشاهد هو (الله) قاضي العالم الأعلى. وعلى ذلك فقد كان الحل الوحيد لتمرير هذا الإعلان وتلك الوثيقة هو: الالتجاء إلى «مدلول متعال» وقوة أسمى تضمن هذه التوقيعات وتمنحها قوة «الكلمة المزودة بسلطة قادرة على مجابهة تقلبات الزمن.
إن أهمية تفكيك دريدا للدستور الأميركي، إضافة إلى أفكار جون لوك عن التسامح وسلطة الدولة، تكمن في كونهما يلقيان الضوء على خصوصية الديمقراطية الأميركية دون سواها، والتي يصعب تطبيقها على أي مجتمع آخر لا تتوفر له نفس الخصائص والظروف التاريخية لحظة الميلاد وما بعدها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإذا لم تكن الديمقراطية السياسية في المجتمع الأميركي أشبه بـ(العقيدة) بالمعنى الذي أشرنا إليه، فقد نواجه على الأرجح سيناريوهين مختلفين في المستقبل: إما انقسام البلاد على أسس آيديولوجية وثقافية، أو نظام حكم (غير ديمقراطي) يؤمل أن يضمن حقوقاً متساوية (لكن متناقصة) للجميع.
* باحث مصري
** Claire Rydell Arcenas:
America’s Philosopher:
John Locke in American Intellectual Life،
The University of Chicago Prees 2022.



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية