منذ الإعلان عن تعيين الجنرال سيرغي سوروفيكين قائداً لـ«القوات المشتركة» الروسية والحليفة في أوكرانيا، يوم الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدأ هذا الضابط الصارم مسار إطلاق استراتيجية جديدة في إدارة المعارك. قاد عملية الانسحاب من مدينة خيرسون. ولم يهتم كثيراً بالهزة المعنوية التي أحدثها التقهقر في منطقة استراتيجية خطيرة، كونها ترتبط بالشريط البري الوحيد مع شبه جزيرة القرم. أيضاً لم يتوقف كثيراً أمام انتقادات واسعة للتراجع في مدينة وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل بضعة أسابيع على ذلك بأنها ستبقى «روسية» إلى الأبد. لقد نفذ المهمة الصعبة بصمت، ومن دون أن تظهر على وجهه الصخري أي تعابير وهو يقدم تقريره الدوري إلى «القائد الأعلى». وبعد ذلك، بدأ مسار التحول الكبير في العمليات، إذ شنت روسيا حرباً لا هوادة فيها على البنى التحتية المدنية، وخلال أسابيع معدودة غرقت المدن الأوكرانية في الظلام، وتعطلت شبكات الاتصال وتحولت مياه الشرب إلى عملة نادرة.
سيرغي فلاديميروفيتش سوروفيكين، الرجل الذي وصف بأنه قائد «سياسة المدن المحروقة»، عَبَرَ مع هذه السمعة من الشيشان إلى سوريا إلى أوكرانيا. وهو «صاحب القبضة الفولاذية»، التي استخدمها لسحق أعدائه بلا هوادة. ثم إن تاريخه الشخصي والحربي مليء بأحداث وشبهات جعلت منه رجل المهام الصعبة، الذي عُين في المنصب في توقيت صعب بالنسبة إلى روسيا. إنه أيضاً ذلك العسكري الصارم الذي تفوق في دراسته، وصعد سلم الترقيات، ونال بشكل مبكر جوائز وميداليات يصعب أن يتلقاها من كان في عمره.
وُلد سوروفيكين عام 1966 في مدينة نوفوسيبيرسك، كبرى مدن سيبيريا، التي تقع في وسط روسيا. وفي عام 1987 تخرج بميدالية ذهبية من مدرسة أومسك العليا لقيادة الأسلحة، وسرعان ما بدأت خدمته الميدانية كقائد لفصيلة بنادق آلية.
في هذا الموقع برزت للمرة الأولى مواهب القائد العسكري الشاب، ومدى استعداده لاتخاذ قرارات حاسمة وسريعة. ذلك أنه عام 1989، أثناء إجراء بعض التدريبات اشتعلت النيران بعربة قتال كانت تقل بعض عناصر المشاة، فما كان من قائد الفصيلة إلا أنه اقتحم ألسنة اللهب وأبعد الجنود عن الخطر، وقاد المركبة المحملة بالذخائر إلى منطقة آمنة. كانت تلك خطوة رفعت الضابط الشاب مرة واحدة إلى مقام «الأبطال» وحصل بعد تلك الحادثة على ميداليته الأولى في حيته العسكرية.
منعطف مهم آخر
لكن سوروفيكين كان على موعد آخر مع القدر، بعد ذلك بسنتين فقط، ليدخل اسمه في تاريخ القوات المسلحة الروسية وهو ما زال في بداية خطواته العملية، وليظهر أيضاً شخصيته القوية التي سوف ترافقه بعد ذلك خلال كل سنوات خدمته في كل المناطق الساخنة التي خدم فيها.
في أغسطس (آب) من عام «الانهيار الكبير» 1991 عندما كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان سوروفيكين برتبة نقيب، وقد شغل للتو منصب قائد كتيبة البنادق الآلية الأولى التابعة لقوات الحرس.
وكانت البلاد مشتعلة على خلفية محاولة انقلاب نفذتها «لجنة الطوارئ الحكومية» التي حاولت السيطرة على مقاليد الحكم وإطاحة الرئيس - يومذاك - ميخائيل غورباتشوف ومعه كل النخبة الليبرالية التي عملت على هدم الدولة السوفياتية في ذلك الوقت. غير أن الانقلابيين واجهوا تحركاً احتجاجياً واسعاً في العاصمة موسكو، وأقدم محتجون على قطع بعض الطرق والاستيلاء على عربات الجيش.
في تلك اللحظة الحاسمة كُلف سوروفيكين بنشر حاجز ميداني وقطع الطريق أمام المحتجين. وهكذا أرسلت الكتيبة المكونة من 20 عربة قتالية مصفحة، لنصب الحاجز، ولكن أثناء مرور الموكب العسكري في نفق وسط موسكو ليلة 20 - 21 أغسطس، أوقف المتظاهرون الطابور العسكري، ونصبوا حواجز بشرية أمامه.
في تلك اللحظة لم يتردد سوروفيكين طويلاً، إذ وقف على ظهر العربة المصفحة التي تحمل رشاشاً آلياً، ووجّه تحذيراً صارماً إلى المحتجين، منبهاً إلى أن العربات مزودة بسلاح حي. ومن ثم، أمر بفتح الطريق والسماح للقافلة بالمرور، كما أطلق طلقتين تحذيريتين من مسدسه، وأمر جزءاً من القافلة (12 مركبة عسكرية) باختراق أنقاض الدرع الحاجزة ما أوقع مواجهات دموية.
قُتل يومذاك في «المعركة» ثلاثة متظاهرين أحدهم سحقته العربات المصفحة، واثنان لقيا حتفهما بطلقات نارية. وفي المقابل أحرق المتظاهرون عربة مشاة قتالية، وألحقوا أضراراً بأخرى، كما أصيب 6 جنود.
على الأثر اعتبرت الأوساط الليبرالية والديمقراطية ما حدث «مجزرة» للديمقراطية، الأمر الذي أسهم في تشويه سمعة «لجنة الطوارئ» التي لم تلبث أن انهارت بعد يومين. وهكذا، بعد هزيمة محاولة الانقلاب ألقي القبض على سوروفيكين وظل في الحجز لمدة 7 أشهر إبان التحقيق الأولي. لكن أقداراً خفية تدخلت لإنقاذه. وبنتيجة التحقيق أسقطت التهمة الموجهة ضده لأنه فقط «كان ينفذ أوامر قيادته العسكرية». والأكثر من ذلك، أنه لم يطلق سراحه فحسب، بل جرت ترقيته بأمر مباشر من رئيس روسيا - آنذاك - بوريس يلتسين؛ إذ قال يلتسين أمام كاميرات التلفزيون في واحدة من خطبه الحماسية التي احتفل بها بانتصار «الديمقراطية» هاتفاً: «أطلقوا سراح الرائد سوروفيكين على الفور»... مانحاً إياه ترقية في الرتبة العسكرية على الهواء مباشرة.
ولاء مطلق وثابت
منذ ذلك الحين كان القائد العسكري الذي برز نجمه بقوة يقف بحزم بولاء كامل خلف القائد المتربع في الكرملين مباشرة، وينفذ المهام الموكلة إليه بصمت وبدقة وبقسوة بالغة إذا اقتضى الأمر.
أثناء دراسة سوروفيكين في أكاديمية فرونزي العسكرية في سبتمبر (أيلول) 1995 أدانته المحكمة العسكرية التابعة لحامية موسكو بالتواطؤ في الاستحواذ وحمل الأسلحة النارية والذخيرة من دون تصريح، وحُكم عليه بالسجن لمدة سنة مع وقف التنفيذ، ولكن مجدداً «العدالة» تدخلت مرة أخرى لإنقاذه، ولم يلبث التحقيق أن أثبت براءته. وفي وقت لاحق أسقطت التهمة وألغي قرار الإدانة نهائياً من سجله. ولاحقاً، مع أن بعض كارهي سوروفيكين، ربما داخل المؤسسة العسكرية، حاولوا أن يثيروا الملف مجدداً عبر نشر معطيات عن أنه في تلك اللحظة كان يمارس بيع أسلحة ومعدات لجهات غير معروفة، لم تثبت صحة هذه الاتهامات، وجرى دحضها سريعاً، وحصل سوروفيكين على قرار من المحكمة يبيض صفحته.
بعد الأكاديمية، خدم سوروفيكين الصاعد بقوة في طاجيكستان كقائد لكتيبة بنادق آلية، ثم كرئيس أركان فوج الآليات. ومن ثم تنقل في مناصب ومهام عدة داخل روسيا وخارجها في القواعد المنتشرة بمنطقة آسيا الوسطى حتى عام 2002 عندما تخرج بمرتبة الشرف من الأكاديمية العسكرية التابعة لهيئة الأركان العامة. وعند هذا المفصل غدا الضابط المثالي جنرالاً ولم يكمل بعد عقده الرابع.
في عام 2004 كان قائداً لفوج عسكري عندما وقعت جريمة قتل في مكتبه. وعلى أثر ذلك فتح التحقيق بعد إعلان عن وجود شبهات حول «انتحار» نائب قائد الفوج بإطلاق النار من مسدس حربي داخل مكتب القائد. ومرة أخرى خرج سوروفيكين من القضية مثل خروج الشعرة من العجين. بيد أن الاقدار التي سببت المصائب أينما حل، لاحقته مجدداً في العام التالي، بعدما عُين قائداً للفرقة 42 للحرس الآلي في الشيشان، وفي 21 فبراير (شباط) 2005، قال مسؤولون إن تسعة من أفراد وحدة الاستطلاع التابعة للفوج قتلوا وأصيب عشرات آخرون نتيجة انهيار جدران وسقف مزرعة دواجن قديمة في قرية بريغورودنوي كانت تستخدم مقراً ميدانياً للتحرك العسكري. وعند سؤالهم عن سبب الانهيار، جاءت إجابات ممثلي وزارة الداخلية وهيئة الأمن الفيدرالي ووزارة الدفاع مختلفة تماماً، وثمة مَن حمّل «العصابات الشيشانية الإرهابية» المسؤولية بعد اتهامها بشن هجوم ناري، بينما قال آخرون إن الانهيار ناجم عن تقادم البنية التحتية. إلا أنه وفق الرواية الرسمية، أطلق مسلحون النار من قاذفة قنابل يدوية.
هكذا صار سوروفيكين على الفور نجماً تلفزيونياً بعدما أقسم أمام كاميرات التلفزيون على أنه مقابل كل جندي قتيل سيقتل ثلاثة إرهابيين. ولكن لم يمر وقت طويل حتى كشف تحقيق موسع أجرته صحيفة «نوفايا غازيتا» المعارضة أن المنطقة لم تشهد أي عمليات قصف أو مواجهات أو معارك، وأن الحادث الدامي وقع بسبب إطلاق «أحد العسكريين» قاذفة قنابل عن طريق الخطأ داخل المبنى. مع هذا، لم يؤخذ بصحة ما ورد في التحقيق، وبعد مرور أسابيع نفذ جنود من كتيبة «فوستوك» التابعة لفرقة البنادق الآلية 42 عملية «عقابية» في قرية بوروزدينوفسكايا الشيشانية.
مناصب حساسة ورفيعة
بين 2005 و2008 تنقل سوروفيكين بين مناصب ومواقع عدة، عُين بعدها قائداً لسلاح الحرس في منطقة فورونيج (وسط البلاد، قبل أن يغدو بسرعة رئيساً لمديرية العمليات الرئيسية لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية. ومن هذا المنصب تنقل في رئاسة الأركان بغالبية المواقع الرئيسة في روسيا. ثم في عام 2012، قاد مجموعة عمل تابعة لوزارة الدفاع الروسية لإنشاء شرطة عسكرية مع احتمال إضافي للتعيين في منصب رئيس المديرية الرئيسة للشرطة العسكرية. وبناءً على نتائج العمل، أنشأ هيئة موظفين بهيكل جديد ودخل في تصنيف أكثر الأشخاص تأثيراً في روسيا في عام 2012، وفقاً لمركز أبحاث الرأي العام لعموم روسيا ومجلة «ريبورتر» الروسية. ومن ثم في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 عين الجنرال البارز قائداً للمنطقة العسكرية الشرقية. وبهذه المهمة نفذ في العام التالي أولى عملياته العسكرية الواسعة في أوكرانيا.
وفقاً للسياسي ليونيد فولكوف، في عام 2014 الذي اندلعت فيه الأزمة الأوكرانية وأعلن إقليما دونيتسك ولوغانسك انفصالاً من جانب واحد عن سلطات كييف، عمل سوروفيكين بنشاط في منطقة روستوف الحدودية على إعداد وإرسال وحدات دبابات تابعة له إلى شرق أوكرانيا. وكان ذلك الانخراط الأول له في الحرب الأوكرانية، وهو سيعود إلى أوكرانيا مجدداً مرتين في وقت لاحق، لكن بعد أن يخوض تجربة مثيرة جديدة في سوريا هذه المرة.
مهامه في سوريا
خلال الفترة بين مارس (آذار) وديسمبر (كانون الأول) 2017 عين الجنرال، الذي أظهر إرادة فولاذية في أوكرانيا، قائداً لمجموعة القوات الروسية في سوريا. ومع أنه لا يتوافر الكثير من التفاصيل المعلنة عن نشاطه في تلك الفترة، فإن تقريراً أعدته منظمة «هيومن رايتس ووتش» ونُشر في أكتوبر من عام 2020 أكد أن سوروفكين قد يكون أحد المسؤولين المباشرين عن تنفيذ جرائم حرب هناك، بما في ذلك الهجمات على المنازل والمدارس والمستشفيات والأسواق العامة. وسيعود اسم سوروفيكين إلى الظهور مجدداً في سوريا خلال فترات لاحقة، ولكن بصفته قائداً عاماً للقوات الجوية الروسية وهو المنصب الذي أسند إليه عام 2017. وقالت المنظمة الحقوقية الدولية إن الجنرال الروسي في هذا المنصب قد يتحمل المسؤولية عن سلسلة من الانتهاكات الخطيرة التي وقعت خلال الهجمات على إدلب بين عامي 2019 و2020. وطبعاً لم يلبث الجنرال أن كوفئ على «شجاعته» في سوريا، وتقرر في نهاية 2017 منحه «النجمة الذهبية لبطل الاتحاد الروسي».
بصفة عامة، يعد سوروفيكن أكثر الضباط الروس الرفيعي المستوى خدمة في سوريا، فهو عاد قائداً للمجموعة الروسية هناك في 2019. وظل محتفظاً بمنصب قائد القوات الجوية، وذلك قبل أن يعين في وقت لاحق قائداً للمجموعة الجنوبية في القوات المسلحة الروسية.
بعدها، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا انخرط فيها سوروفيكين بشكل قوي. وفي 24 يونيو (حزيران) أفادت وزارة الدفاع الروسية بأن سوروفيكين، كقائد للمجموعة الجنوبية، قاد بنفسه تطويق القوات المسلحة الأوكرانية في مدينتي غورسكوي وزولوتي في منطقة لوغانسك.
أيضاً، لمع اسم الجنرال بصفته أحد أبرز «الصقور» الذين أفرزتهم الحرب الشيشانية، يليه رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي تلعب قواته دوراً رئيساً في معارك جنوب وشرق أوكرانيا تحت إمرة سوروفيكين. ولذلك لم يكن غريباً عندما اتخذ الأخير قرار الانسحاب من خيرسون وتعرض لهجوم بعض مراكز القوى المنافسة في السلطة العسكرية الروسية، أن ينبري قديروف للدفاع عنه. وحقاً وصف قديروف سوروفيكين بأنه «جنرال حقيقي ومحارب قادر على تحسين الوضع في القتال في أوكرانيا». ويذكر أن قديروف نفسه كان قد انتقد أداء الجيش والقيادة العسكرية الروسيين قبل تعيين سوروفيكين، وهدد بأنه «سيبلغ بوتين بما يجري على أرض الواقع في الميدان».
بالتالي، كان من الطبيعي أن يجر تعيين سوروفيكين على رأس القوات في أوكرانيا، تعليقات كثيرة داخل روسيا وخارجها، لعل أبرزها ما جاء على لسان ضابط كبير في الاستخبارات العسكرية البريطانية قال لصحيفة «بوليتيكو» إن «تكتيكاته العسكرية تنتهك قواعد الحرب تماماً، لكنها للأسف أثبتت فاعليتها في سوريا».
من ناحية ثانية، عقد ديفيد رونديل رئيس البعثة الأميركية السابق في منطقة الخليج، ومايكل جفيلر المستشار السياسي السابق للقيادة الوسطى الأميركية، في مقالة مشتركة نشرتها مجلة «نيوزويك»، مقارنة بين سوروفيكين والجنرال الأميركي ويليام شيرمان، الذي حسم معه أبراهام لنكولن الحرب الأهلية الأميركية. هذا القائد العسكري، وفقاً للخبيرين الأميركيين، جاء لـ«ينقذ روسيا». وكان قد أعلن بوضوح أنه «لن يكون هناك أنصاف إجراءات». ومن ثم «بدأ في تدمير البنية التحتية للعدو... بالطريقة ذاتها التي اعتمدها الجنرال شيرمان عندما دمر شبكة السكك الحديدية للعدو».
في المقابل، قال القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني، عن الجنرال الروسي معلقاً: «مع الاحترام للسيد سوروفيكين، إذا نظرت إليه، فستراه قائداً عادياً من عصر بطرس الأكبر (...) إنه العسكري الذي يظن أن عليه إنجاز المهمة وإلا انتهى».