كارل بوبر... سيرة ذاتية حافلة بـ«أطايب» الأمزجة الفكرية والاستكشافات الفلسفية

يعدُّ أحد أعمدة فلسفة المنهج العلمي

كارل بوبر (متحف البورتريه الوطني - بريطانيا)
كارل بوبر (متحف البورتريه الوطني - بريطانيا)
TT

كارل بوبر... سيرة ذاتية حافلة بـ«أطايب» الأمزجة الفكرية والاستكشافات الفلسفية

كارل بوبر (متحف البورتريه الوطني - بريطانيا)
كارل بوبر (متحف البورتريه الوطني - بريطانيا)

منذ قرابة عقدين من السنوات وقراءةُ كتاب في السيرة الذاتية صارت تقليداً ثابتاً لديّ أحرصُ عليه ولا أفارقه. قد لا أقرأ رواية أو مسرحية أو كتاباً فلسفياً أو علمياً لبضعة أسابيع؛ لكنْ لا يمكنُ إلا أن يكون في قائمة مقروئاتي كتابٌ يتناول سيرة ذاتية (أو سيرة أحياناً) منشورة حديثاً بلغة إنجليزية أو عربية.
أظنُّ أنّ منبع الاهتمام الفائق بأدب السيرة الذاتية يكمنُ في حقيقة أننا كائنات مصيرها الانطفاء بعد حين قد يطول أو يقصر، وتزخر الفترة الزمنية بين لحظتي الولادة والانطفاء بصراعات وتحوّلات فكرية ومفاهيمية لا يمكن تحصيلها إلا بمشقة، وليس من المنطقي أو المعقول تركها تذبل وتذوي في قعر النسيان مع غياب صاحبها عن مسرح الوجود البشري. تدوين السيرة الذاتية بهذا السياق هو نوعٌ من محاولة ترك بصمة في هذا العالم، فضلاً عن كون هذا التدوين ينطوي على فعل كرم وطيب روح: أنت تسعى لتمرير خبرتك المتحصلة بمشقة إلى آخرين بكيفية أشبه بخبرة جاهزة حتى توفّر عليهم بعضاً من الأثمان الفكرية التي يمكن تجاوزها. ثمة أمرٌ آخر: يتاحُ للمرء في العادة وهو يدوّن سيرته الذاتية الإفصاح عن وقائع وقناعات فكرية وأطروحات مفاهيمية، ربما ما كان متاحاً له الإفصاح عنها في أماكن أخرى .
كلّ هذه التفاصيل نراها متجسدة في السيرة الذاتية التي نشرها فيلسوف العلم كارل بوبر Karl Popper عام 1976 بعنوان: بحثٌ لم ينتهِ: سيرة ذاتية فكرية Unended Quest: Intellectual Autobiography
صدرت الترجمة العربية لهذه السيرة الذاتية عام 2022 عن دار المدى. تأخّرت الترجمة العربية كثيراً بالطبع وخاصة أنها لفيلسوف منهج علمي ذائع عالمياً؛ أعني بذلك مبدأ قابلية الدحض Refutability وقابلية التكذيب Falsifiability، وهما المبدآن اللذان يميزان كل معرفة علمية حقيقية عن معرفة زائفة (أو آيديولوجيا إذا شئنا الحديث بلغة منهجية البحث العلمي)؛ لكن يبدو أنّ دور النشر العربية رأت في هذه السيرة الذاتية كتاباً ثقيلاً عسيراً على بلوغ مستويات قرائية مقبولة. تمكّن بوبر في هذه السيرة الذاتية من تعشيق وقائع سيرته مع الخط التطوري للفلسفة العلمية، ويجب في هذا الشأن عدم نسيان أنّ بوبر أكبر من فيلسوف علم؛ فهو مؤرخ وسوسيولوجي ذو إلمام واسع بالرياضيات والفيزياء والموسيقى والتعليم .

أعترف أنّ قراءة سيرة بوبر الذاتية عمل شاق بمثل ما هي عملية منعشة للعقل، ويبدو أنّ بوبر حدس بطبيعة موضوعاته التي تنطوي على قدر غير قليل من التعقيد المفاهيمي فارتأى أن يوزّع السيرة على موضوعات قصيرة بعناوين محدّدة حتى لا تتحوّل الوقائع المتداخلة إلى كتلة صلبة غير متجانسة تثقلُ كاهل القارئ غير الصبور وغير المتمرّس بأدبيات فلسفة المنهج العلمي. توزّعت السيرة على أربعين جزءاً قصيراً (يتراوح الجزء الواحد بين خمس وعشر صفحات) أتبعها بوبر بتذييل عن الماركسية. الكتاب بمجمله لا يتجاوز الثلاثمائة صفحة إلا ببضع صفحات؛ وبهذا فهو مما يمكن قراءته بهدوء ومتعة. يمكن للقارئ أن يختار ما يشاء من أجزاء بغير ترتيب مسبق من غير أن يتوجّس من ضياع السلسلة الفكرية لأجزاء السيرة.
تتناول الأجزاء العشرة الأولى جوانب من طفولة وشباب وتعليم بوبر في المدرسة والجامعة، ثم تعقبها أربعة فصول عن الموسيقى؛ أما الفصول المتبقية فتتوزع بين موضوعات فلسفية محدّدة (مثل: نظرية المعرفة ومنطق الاكتشاف العلمي، والواقعية ونظرية الكم، والموضوعية والفيزياء، المجتمع المفتوح وعقم المذهب التاريخي) . يتناول الجزء الثلاثون نقاشات بوبر مع الفيزيائي اللامع إرفين شرودنغر، وثمة أيضاً موضوعات فيزيائية ذات إشكالية فلسفية كبرى (مثل: الإنتروبيا وسهم الزمن)، ولن ننسى بالطبع زيارة بوبر الأولى إلى الولايات المتحدة ولقاءه مع آينشتاين. إنها سيرة ذاتية حافلة بأطايب الأمزجة الفكرية والاستكشافات الفلسفية.
يرسم بوبر في فصل (التأثيرات المبكرة) صورة حية عن الجو الذي نشأ فيه: «كان الجو الذي نشأت فيه مليئاً بالكتب. فقد كان والدي الدكتور سيمون سيغموند كارل بوبر، مثل شقيقيه، دكتوراً في القانون في جامعة فيينا ولديه مكتبة كبيرة، وثمة كتب في كل مكان باستثناء غرفة الطعام، حيث كان هناك بيانو حفلات ضخم... كان هناك العديد من أعمال باخ وهايدن وبيتهوفن وشوبرت وبرامز... اهتم والدي اهتماما كبيرا بالفلسفة؛ فما زلت أمتلك من مكتبته أعمال أفلاطون وبيكون وديكارت وسبينوزا ولوك وكانت وشوبنهاور... كانت الكتب جزءاً من حياتي قبل وقت طويل من قدرتي على قراءتها...». لن ينسى بوبر الإشارة بتوقير خاص لكتاب (مغامرات نيلز الرائعة) للكاتبة السويدية اللامعة سلمى لاغيرلوف.
يوجّه بوبر نقداً شديداً لمدرسته الأولى المعروفة بالجمنازيوم، وعلى عكس توقعنا بأنه كان طالباً متفوقاً في مدرسته، فقد فكر كثيراً بترك المدرسة، وتركها بالفعل ليعود لاحقاً ويلتحق بالجامعة. كانت المدرسة بالنسبة له مكاناً لإضاعة الوقت بشكل صادم ويبعث على الملل لأقصى الحدود المتصورة: «كان هناك موضوع واحد فقط لدينا فيه معلم مبدع وملهم حقاً، الموضوع هو الرياضيات... عندما عدتُ للمدرسة بعد مرض استمرّ لأكثر من شهرين وجدتُ أنّ صفي لم يحرز أي تقدّم تقريباً ولا حتى في الرياضيات. شكّل هذا الحدث نقطة فارقة أنارت بصيرتي وجعلتني أتوق إلى ترك المدرسة...». أرى أنّ بوبر في هذا الموضوع يضع إصبعه على مسألة إشكالية شديدة الخطورة؛ إذ لطالما قرأنا أنّ معظم صنّاع الفكر والثقافة كانوا ممّن يميلون للتعليم الذاتي ولم يكونوا يتوافقون مع النُظُم المدرسية التقليدية. ترك بوبر المدرسة لاحقا وعمل نجاراً، ويصف تجربته الحِرَفية لاحقاً في سيرته بأنها كانت عونا فكريا عظيما له؛ لأنها كشفت له عن أماكن من الفكر لم يكن ليستطيع بلوغها في سياق تطوره الأكاديمي التقليدي.
نشأ بوبر ماركسياً، وعدّ الماركسية دوماً أحد المعالم المفصلية في تطوره الفكري، ثمّ أدرك بعدئذ أنه إنما كان يطاردُ حلماً يوتوبياً جميلاً، وهو يصفُ هذه المغامرة الفكرية بالعبارات الحاسمة التالية: «بقيتُ اشتراكياً لعدة سنوات حتى بعد رفضي للماركسية، وإذا كان من الممكن وجود شيء من قبيل الاشتراكية مقترنة بالحرية الفردية فكنت سأظل اشتراكياً؛ إذ لا شيء يمكن أن يكون أفضل من عيش حياة بسيطة وحرة في مجتمع قائم على المساواة. استغرق الأمر مني بعض الوقت لأدرك أن هذا ليس أكثر من حلم جميل، وأنّ الحرية أهم من المساواة، وأنّ محاولة تحقيق المساواة تعرّض الحرية للخطر، وأنه إذا ضاعت الحرية فلن تكون هناك مساواة حتى بين غير الأحرار...».
كان بوبر في فورة شبابه في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى بكلّ أوزارها الثقيلة، ويصف تلك السنوات وصفاً درامياً رائعاً: «لم نكن حينها سعداء، وما كان لدى معظمنا آمال أو خطط؛ فقد عشنا في بلد فقير للغاية... كنا في معظم الوقت مكتئبين ومحبطين ومشمئزين؛ لكننا كنا نتعلّم، وعقولنا نشطة وتنمو. كنا نقرأ بشراهة ونهم ونتناقش، ونغيّر آراءنا... كنا نستمع إلى الموسيقى ونذهب إلى الجبال النمساوية الجميلة لنتنزه، ونحلم بعالم أفضل...».
بوبر شخصية فكرية متعشقة الاهتمامات، وللموسيقى نصيب عظيم في تطوره الفكري، وهو عندما يتحدث عن الموسيقى فهو يقرن الرؤى الفلسفية بالمعرفة الموسيقية تاريخاً وتقنيات. من الوقائع المثيرة التي يذكرها بوبر ويستفيض في شرح تفاصيلها هي تفضيله باخ، ووضعه في مقام أعلى من بيتهوفن وفاغنر: «شعرتُ أنّ بيتهوفن جعل الموسيقى أداة للتعبير عن الذات، وبالنسبة له في يأسه ربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة له للاستمرار في العيش... شعرتُ أن ليس هناك خطر أكبر على الموسيقى من محاولة جعل طرق بيتهوفن مثالاً أو معياراً أو نموذجاً...».
السيرة الذاتية لكارل بوبر عملٌ جليل فخم زاخر بالمتعة العقلية الفائقة لأنها نتاجُ عقل فلسفي رصين يعدُّ أحد أعمدة فلسفة المنهج العلمي الذي طوّر أسسه في كتابه المرجعي (منطق الاكتشاف العلمي)، كما ترك لنا كتبا مرجعية أخرى مثل (المجتمع المفتوح وأعداؤه) أودعها ذخيرة عقله الشغوف.


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق
TT

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

صدر حديثاَ للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب بعنوان «موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق»، عن دار أهوار للنشر والتوزيع في بغداد، وهو يقع في 224 صفحة.

ويضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي مع التركيز على حالة العراق. ويعالج الكتاب قضايا مثل نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يتناول الكتابات الماركسية الجديدة والنمو الحضري في البلدان النامية، اللاجئون العراقيون في أوروبا: تحليل مقارن، اتجاهات الهجرة الطلابية من البلدان العربية وتحولاتها، تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة، العلاقة بين الخصوبة السكانية ومكانة المرأة في المجتمع، العراق مثالاً، وجفاف الدلتا في العراق وآثاره.

ومن المواضيع الأخرى صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها، والعلاقة بين الديمقراطية والتنمية، والتعافي الاقتصادي بعد الجائحة، وعصر التنوير والجغرافيا، والجغرافيا والثقافة، وغيرها.

ويقول المؤلف إن هذه الموضوعات كُتبت أو تُرجمت في أوقات مختلفة، وارتأى جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والقراء عموماً.

يركز الباحث على تحليل تطور نمو سكان الحضر في العراق زمانياً ومكانياً، ويمهد لذلك بخلفية نظرية تخص التحضر الهامشي وعلاقته بتوسع النظام الرأسمالي، ويتناول توزيع سكان الحضر على مستوى المحافظات، ويحلل مكونات النمو الحضري خصوصاً الهجرة الريفية - الحضرية إلى المدن الكبيرة مثل بغداد، ومدى مساهمتها في تضخم عدد سكانها، ويدرس الهجرة القسرية، ويتوقف عند التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن نمو سكان الحضر وما أفرزته من مشكلات كبيرة على مستوى أزمة السكن، خصوصاً السكن العشوائي والفقر والبطالة، ومساهمة ذلك بعد عام 2003 في تغذية الموقف السلبي من قبل الشباب تجاه الأحزاب الدينية والسياسية الحاكمة، وعلاقة ذلك باندلاع «انتفاضة تشرين 2019»، كما يعالج إشكالية هيمنة المدن الكبيرة على الشبكة الحضرية ونتائجها.

وبالنسبة إلى هجرة العراقيين يذكر الباحث أن هناك كثيراً من الأسباب المتشابكة التي تقف وراء موجات هجرة العراقيين القسرية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق. ولعل أبرز الأسباب يكمن في فشل الدولة العراقية الحديثة والخلل في بناء الدولة - الأمة، وعدم الاستقرار السياسي نتيجة تعاقب الأنظمة المستبدة الفاقدة للشرعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وإقامة نظام الحزب الواحد المتمثل في حزب البعث وانتهاجه سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي، والحروب الداخلية والخارجية التي ساهم هذا النظام في اندلاعها، وكذلك احتلال العراق في عام 2003 وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة وإقامة نظام يتبنى المحاصصة الطائفية والإثنية، وشيوع ظاهرة الإرهاب والفساد وارتفاع معدلات البطالة وتدني الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العراقيين وخصوصاً الشباب، إلى طلب اللجوء لأوروبا خاصة.