(حوار سياسي)
باريس: ميشال أبو نجم
اعتبر البروفسور برتراند بادي، أستاذ العلاقات الدولية البارز في معهد العلوم السياسية في باريس، في حديث مطول خص به «الشرق الأوسط» أن النظام الإيراني «مهدد» وأن سياسة القمع القصوى التي يتبعها و«التنازلات» التي يقدمها تبين أنه «على طريق الضياع» وأنه «فقد ثقة المواطنين».
وتناول بادي الحرب في الحرب في أوكرانيا، مشدداً على أن الخروج منها لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مؤتمر موسع يوفر الضمانات الأمنية للجميع بمن فيهم روسيا.
ورأى بادي، وهو صاحب مجموعة واسعة من الكتب المخصصة للعلاقات الدولية، أن الغرب ارتكب خطأ عقب سقوط حلف وارسو، وأن السلم والأمن الدوليين لم يعودا رهناً بتوازن القوى بل بوجود ميزان الثقة بين الأطراف. ونبه من أن الرئيس الروسي يراهن على عامل الزمن الذي يرى أنه يلعب لصالحه، مضيفاً أنه إذا نجح الغرب في سياسة فرض العقوبات والعزل على روسيا فإن ذلك «سيتحول إلى سلاح الردع المستقبلي».
وفيما يلي نص المقابلة:
> كيف ستنتهي الحرب الروسية على أوكرانيا؟ انتصار طرف على آخر؟ الجلوس إلى طاولة المفاوضات؟ تجميد النزاع؟
- سؤال بالغ الأهمية، وهو اللغز المحير في نظرتنا لكيفية انتهاء هذه الحرب. ومصدر الصعوبة أن مرجعيتنا التاريخية تعود إلى حروب سابقة كان فيها، من جهة، منتصر يفرض شروط السلام في المفاوضات، ومن جهة ثانية منهزم يفرض عليه قبول هذه الشروط ويجهد الثاني، خلال المفاوضات والمناورات الدبلوماسية لتلطيفها. لكن هذه الصيغة لم تعد فاعلة. فالحروب التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية لم تنته وفق الصيغة التقليدية. الانتصارات كانت نادرة، والحروب توقفت غالباً بسبب الإنهاك وليس الهزيمة العسكرية. هذه كانت حال الأميركيين في فيتنام، ولاحقاً في أفغانستان وفرنسا في الجزائر والاتحاد السوفياتي في أفغانستان أيضاً.
اليوم، السيناريو مختلف والذهاب إلى المفاوضات لوضع حد لنزاع وفق صيغ الماضي لم يعد أمراً محسوماً، وذلك لثلاثة أسباب: الأول، أن قضم أرض بلد آخر لم يعد أمراً مقبولاً في العالم، بسبب مبدأ معمول به على الصعيد العالمي، وهو عدم المس بالحدود القائمة، وبالتالي فإن أي مفاوضات يكون هدفها فرض تخلي المهزوم عن أراضٍ تابعة له ستكون فاشلة؛ والثاني، أن أسلوب التفاوض الماضي، الذي كان يتكفل به مبعوثون كاملو الصلاحيات انتهى إلى غير رجعة؛ والثالث، بروز دور المجتمعات التي أصبحت أكثر تطلباً. فالرئيس الأوكراني، لو توفرت فرصة الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لن يكون قادراً على السير بأي قرار ينص على التخلي عن أراضٍ كشبه جزيرة القرم مقابل السلام، لأنه سيواجه ثورة اجتماعية يمكن أن تطيح بما هو عازم عليه أو حتى الإطاحة بحكومته.
لذا، ثمة أمران غير محسومين: كيفية إنهاء الحرب لأن السلاح لم يعد وحده ما يقرر مصير النزاع من جهة؛ ومن جهة ثانية لأن المفاوضات نفسها لم تعد مضمونة، بالنظر إلى أن العناصر التي كانت توفر إمكانية حصولها وقبول نتائجها تغيرت جذرياً.
> لكن ثمة عناصر جديدة خاصة بالحرب الروسية على أوكرانيا، وأبرزها العقوبات الدولية متعددة الأشكال المفروضة على روسيا، التي ستلعب دوراً أساسياً في الدفع إلى المفاوضات وإنهاء الحرب. ألا توافق على هذه القراءة؟
- أنا أفضل الحديث عن العزل على الحديث عن العقوبات. القوى الغربية تسعى لعزل روسيا من «الفضاء العالمي» على الصعد كافة: الاقتصاد، الطاقة، الدورة المالية، المؤسسات الدولية، الرياضة، الثقافة والإعلام، بحيث تتحول روسيا إلى دولة منبوذة. وإذا كان للعزل فعالية جدية، وهو أمر ليس محققاً بعد، فإنه سيتحول إلى سلاح الردع المستقبلي. حتى اليوم، ليس هناك شيء مؤكد.
ولكن أود التنبيه إلى أن سياسة العزل الكلي، ترتدي طابعاً بنيوياً وكلياً، بمعنى أن فرض العزلة على الطرف الآخر ستكون له تأثيرات في الوقت عينه على الطرف الذي يفرضه. وهذا الأمر يشكل اليوم التحدي الأكبر بالنسبة للغرب، الذي يتخوف من أن تفضي ارتداداته إلى حراك اجتماعي واقتصادي وسياسي تكون أوروبا ضحيته، ومن شأنه أن يدفع القادة الأوروبيين إلى التخلي عن بعض مبادراتهم. ويعي الرئيس بوتين التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية العكسية، ويحاول استغلالها ضد الغرب. يضاف إلى ذلك أن ثمة طرفاً ثالثاً يمكن أن يكون له تأثير حاسم على سياسة العزل، ويتمثل بكتلة واسعة متشكلة من دول مثل الصين والهند ودول العربية وبعض أميركا اللاتينية ودول أفريقية. ويسعى الغرب التي دفعهم للسير في ركابه والتقيد بالعقوبات التي فرضها على موسكو (كما برز ذلك خلال قمة العشرين الأخيرة في بالي، إندونيسيا). ومصير سياسة العزل مرهون إلى حد كبير بمواقف هذه الكتلة، التي من شأنها أن تغير موازين القوى لصالح هذا الطرف أو ذاك. واللافت للنظر أن الغربيين المتمترسين وراء الحلف الأطلسي لا يرون كفاية الشرخ الجديد والعميق على مستوى العالم.
> الحرب تدور منذ 11 شهراً على الأراضي الأوروبية. ما هي، وفق نظرتك، صورة أوروبا المستقبلية التي سترى النور عقب انتهائها؟ ما هي الهندسة الأمنية التي يمكن التوصل إليها لاحقاً لضمان الأمن والسلم في القارة القديمة؟
- إن اندلاع الحرب الأوكرانية مرده، في نظري، لكوننا لم نأخذ بالاعتبار التطورات، التي حصلت منذ انهيار حائط برلين، والفراغ الذي برز مع اندثار النظام الأمني القديم عقب سقوط حلف وارسو ومعه موت الثنائية القطبية (الحلف الأطلسي مقابل حلف وارسو).
الواقع أن الرئيس بوتين جعل من هذه المسألة حصان طروادة سياسياً، أي جعل استعادة روسيا لدورها ومكانتها وهيمنتها العلامة الفارقة لسلطته وقيادته، ونجح في أن يستخدم هذا الطرح كرافعة للقيام بمبادرات قادرة على تعبئة الروس خلفه. واعتقادي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان مصيباً في طرحه، حين اعتبر أنه سيكون من الصعب تصور نظام أمني جديد (في أوروبا) ونظام أمني عالمي من غير التأكيد على أهمية الأمن الجماعي لما بعد الثنائية القطبية، بما في ذلك توفير ضمانات أمنية لروسيا. ولكن ليست روسيا وحدها المحتاجة لضمانات. هناك دول كثيرة أخرى، أولها أوكرانيا، ودول أوروبا الوسطى التي تستشعر تهديد أمنها، والتي ترى أنها قد تعاني مما تعاني منه أوكرانيا اليوم. ويمكن توسيع الدائرة لتطال، أبعد من أوروبا، دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
نحن نعيش في عالم متداخل، حيث إذا غاب الأمن الجماعي، لا أحد يمكنه أن يكون في مأمن. وهذا في نظري يمثل القطيعة الرئيسية مع الماضي، حيث كان هناك نوع من التوازن بين كتلتين. لكن اليوم، لا أمن ولا سلام إلا إذا شعر الكل، جماعياً، أنهم في حال آمنة. ولذا، المفاوضات الثنائية ليست الحل، بل ثمة حاجة لمفاوضات جماعية لأن من شأنها المساهمة في وضع حد لهذه الحرب، وليس فقط توفير الضمانات لهذه الجهة أو تلك.
> كثيرون يرون أن أحد أهداف هذه الحرب، من الجانب الغربي، ليس فقط منع روسيا من ضم أراضٍ أوكرانية، بل إضعافها منهجياً لا بل إسقاط بوتين. ما هي رؤيتك؟
- أعتبر أن هذه القراءة للعلاقات الدولية قديمة، حيث لا نعيش اليوم في عالم يحكمه ميزان القوى بل في عالم ممنهج، مترابط ومتداخل. وبالنسبة للسؤال المطروح، أرى أن إضعاف روسيا أو إسقاط بوتين لن يحل مشكلة روسيا نفسها. ما ستكون عليه صورة هذا البلد الضعيف والمهان في عالم الغد؟ أتصور أن ما حصل في عام 1991 سوف يستنسخ مرة ثانية، وسيأتي ببوتين جديد يمكن أن يكون أكثر تطرفاً من الحالي. وأود أن أعيد التأكيد على أنه في عالم يتمتع بالأمن الجماعي، فإن المهم ليس تعيين رابح أو خاسر، بل الوصول إلى عالم لا يحكمه ميزان القوى، بل توازن الثقة، أي أن يشعر كل طرف بالأمن وألا يتخوف من ضرب استقراره، ويعني أيضاً إدارة التداخل بين كل القوى والعناصر المؤثرة في عالم معولم. مفتاح التوازن غداً هو إدارة واعية ومنسجمة حيث يشعر كل طرف أن مصالحه مضمونة وأنه لا خوف على استقراره.
العالم تغير، واليوم هزيمة الآخر تخلق صعوبات ومشاكل أكثر من إيجاد الحلول، وهذا ما يبين الحاجة لاستنباط حلول شاملة، لا تدفع أحداً ليشعر بأنه منبوذ. خطأ الغربيين أنهم اعتقدوا أنهم قادرون على استثمار انتصارهم على الطريقة القديمة، أي استغلاله لفرض السيطرة والهيمنة. هذا ما فعله جورج بوش الأب خريف عام 1991. عندما تمسك بالإبقاء على الحلف الأطلسي وتوسيعه واستيعاب دول حلف وارسو المنهار. واليوم نرى التجليات المعقدة للفهم السابق للانتصار ونحن اليوم ندفع ثمنه المرتفع.
> كيف تنظر إلى تواصل تدفق المليارات الأمير كية على أوكرانيا، مقروناً بدفق أسلحة لم نرَ مثيلاً له منذ الحرب العالمية الثانية؟
- ثمة أسباب نبيلة وأخرى أقل نبلاً لما تقوم به واشنطن. في السياق الأول، ثمة رغبة أميركية بمساعدة بلد اعتدي عليه، وروسيا تحاول وضع اليد على أراضٍ تابعة لدولة تتمتع بالسيادة، الأمر الذي يحرمه القانون الدولي. كذلك تعتبر واشنطن أنه تقع على عاتقها مسؤولية المحافظة على التوازن الدولي والنظام العالمي.
في السياق المقابل، تسعى الولايات المتحدة للاستمرار في التحكم بالنظام العالمي، ولكن هذه المرة من غير الانخراط مباشرة في النزاع، الذي تستبدله بتوفير الدعم المكثف مختلف الأنواع والأشكال كما في حالة أوكرانيا. لكن علينا التنبه لوجود مجتمع أميركي لم نسبر غوره كفاية، وهو يعتبر أن للعولمة ثمناً باهظاً، إذ إن تكلفتها مرتفعة وعائداتها ضعيفة، مما يفسر إلى حد كبير بروز ظاهرة الرئيس ترمب والنزعات الانعزالية الجديدة وشعار «أميركا أولاً». والانسحاب من العراق وأفغانستان، ورفض الانخراط العسكري في الحروب بما في ذلك أوكرانيا، تندرج في هذا الإطار. ومع ذلك لا تريد أميركا التخلي عن وضعها راعية للنظام الدولي.
وتستفيد واشنطن من قدراتها المالية والتسليحية لتكون الداعم الأكبر لأوكرانيا، وبالتالي لإبقاء أوروبا تحت عباءتها وعباءة الحلف الأطلسي. وكل ذلك منطقي حتى اليوم. لكن إذا تواصلت الحرب فإن المجتمع الأميركي سيطرح تساؤلات (وقد بدأ بذلك) حول تكلفة دعم أوكرانيا، وبالتالي فإن غريزة العزلة والحمائية يمكن أن تدفع الإدارة الأميركية إلى التراجع. وثمة العديد من الأصوات (خصوصاً من صفوف الحزب الجمهوري) التي أخذت بطرح التساؤلات والتعبير عن القلق. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى المقولة الكيسينجيرية القائلة بضرورة المفاوضات والمحافظة على ماء الوجه لروسيا. ولا شك أن بوتين يرى أن عامل الوقت لصالحه، ويمكنه استغلاله (في حربه مع الغرب).
> ما هي بنظرك التحديات الرئيسية التي سيواجهها العالم في عام 2023؟
- النزاع الروسي - الأوكراني بالغ الأهمية. ولكن المشكلة تكمن في أنه، بسبب أهميته، غطى على التحديات الأخرى التي تواجه العالم والعلاقات الدولية. ثمة تحديان رئيسيان يواجهان عالم اليوم والغد: أفريقيا من جهة والشرق الأوسط من جهة أخرى. في أفريقيا، خارطة النزاعات مترامية: بلدان الساحل، حوض الكونغو، القرن الأفريقي، وبلدان أخرى كلها تعاني من حالة غليان وفوهة يمكن أن تنفجر. ثم فيما خص الشرق الأوسط، فإن قوس الأزمات يمتد من اليمن وصولاً إلى أفغانستان.
لقد أفضت العولمة إلى قيام عالم بالغ التعقيد. والحال أن هذه العولمة تحمل في طياتها مخاطر بنيوية ومنهجية، لا نعرف بعد كيف التعاطي معها، وهي تندرج تحت تسميات التحديات الشاملة، والأمن الشامل ومنها تحديات الأمن الغذائي والصحي والاقتصادي والبيئوي. بيد أننا، نتناسى للأسف كل ذلك فيما انتباهنا مركز على أزمة واحدة رغم خطورتها.
وأريد أن أذكر بعض الأرقام بالغة الدلالة: فقدان الأمن الغذائي يتسبب بوفاة 10 ملايين نسمة كل عام، في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا ومناطق أخرى. وإلى جانب ذلك، هناك أكثر من مليار نسمة يعانون من سوء التغذية، الذي يزيد التعرض من الأمراض على أنواعها، وبالتالي التعرض للوفاة. وهذا الواقع يفضي إلى مخاطر بنيوية بالغة التهديد، وذلك لسبيين: الأول، أن هذه المخاطر تتغذى من بعضها البعض، فالخطر البيئوي له انعكاساته على الأمن الغذائي والصحي والحياة بكافة أشكالها وأنواعها؛ والثاني، عنوانه أن مخاطر الحروب والنزاعات في أفريقيا والشرق الأوسط، التي أشرنا إليها، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالتحديات الشاملة وانعدام الأمن بمعناه العام. والأمثلة كثيرة وأحدها أن التصحر، في منطقة الساحل وانعدام الأمن المائي من جانب، والفيضانات التي تضرب بلداناً مثل باكستان وبنغلاديش ومدغشقر من جانب آخر، يولدان اهتزازات اجتماعية واقتصادية ويتسببان بهجرات واسعة، وكل ذلك يمهد لأزمات واندلاع نزاعات.
ومثال آخر يفيد بأن الدراسات المعمقة، بينت وجود علاقة بين الأزمة الزراعية والغذائية في سوريا. وهذه الأزمة دفعت إلى هجرات واسعة من الأرياف باتجاه المدن وساهمت في التعبئة التي أفضت إلى اندلاع الحرب الأهلية لاحقاً.
واسمح لي أن أضيف رقمين بالغي الدلالة: دراسات منظمة الصحة العالمية تبين أن الوفيات المترتبة على المخاطر البيئوية تبلغ ثمانية ملايين شخص في العام، بينما الوفيات المترتبة على الأعمال الإرهابية المختلفة تتراوح ما بين 10 آلاف ضحية و40 ألفاً. والحال أن العالم كله يتحدث عن الإرهاب وضرورة محاربته، وقليلون يتحدثون عن انعدام الأمن الغذائي أو الصحي... ثم إن الأمم المتحدة تعتبر أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يفترض توفير مبلغ 100 مليار دولار في العام، الأمر الذي لا يتحقق. وبالمقابل، فإن حدثاً رياضياً مثل كأس العالم لمباريات كرة القدم الأخيرة بلغت ميزانيته 220 مليار دولار. وأترك لك تقدير فائدة مبلغ كبير كهذا، لو استخدم لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والبيئوي والتحديات الأخرى التي تواجه العالم.
> هل ترى أن القوتين العظميين حالياً في العالم، الولايات المتحدة والصين، ذاهبتان نحو المواجهة؟
- بداية، أريد أن أقول إن الصين والولايات المتحدة لا تقرآن العالم بالطريقة نفسها. الصين فهمت العالم المعولم والممنهج قبل غيرها، وهي تعي أن مستقبلها مرتبط في هذه الفترة بحيوية الاقتصاد العالمي ولذا، فإنها ليست بحاجة لأي أزمة كبيرة، وأن أي حرب كلاسيكية ستكلفها الكثير من نجاحاتها وتطيح باقتصادها المعولم. بكين وعت كيفية الاستفادة من العولمة وسياستها الواقعية عملت على اجتياح العالم عن طريق ما سمته «الطريق» و«الحزام»، مما مكنها من توفير قوة فاعلة، وحضور متصاعد، وقضم الهيمنة الأميركية، والإفلات من صيغة العالم القديم وريث «الوستفالية» المعروفة. والشوكة الوحيدة في قدم الصين هي فضاؤها الإقليمي. واللافت أنها تتصرف بطريقة حديثة جداً في أفريقيا، وحتى في أوروبا، لفرض سيطرتها، لكنها بالمقابل تتعاطى بالطريقة القديمة في فضائها الإقليمي. من هنا، نزاعاتها مع تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وأستراليا.
ورغم ما سبق، أتوقع أن بكين ستبقى في سياق سياسة ضبط النفس، لأن حرباً تبدأها ضد تايوان سيكون من نتائجها القضاء على كل ما راكمته من فوائد منذ عقود. وأذكّر بقول لرئيس الوزراء الصيني الأسبق شو إن لاي للكاتب المصري محمد حسنين هيكل، حول أميركا وفيتنام إذ قال له: «بالنظر لصعوبات أميركا في فيتنام، لن نسعى لهيمنة عسكرية شاملة لأنها تكلف الكثير ولا توفر شيئاً، ولذا نحن لسنا طرفاً في نزاعات الشرق الأوسط».
> لكن واشنطن ترى في بكين منافساً منهجياً شاملاً وتريد احتواءه، لأنها ترى فيه تهديداً لهيمنتها. أليس كذلك؟ ثم إن التهديد الصيني العسكري لتايوان قائم.
- هذا صحيح. التهديد العسكري الصيني قائم وهو وسيلة من وسائل الضغط على تايوان. ولكن للصينيين رؤية مغايرة لرؤيتنا لعامل الزمن وهم يعتقدون أنه، في نهاية المطاف، سيتغير الوضع الذي يعانون منه اليوم، بمعنى أن تايوان ستعود للصين يوماً ما، ولذا أستبعد حرباً تتواجه فيها القوات الصينية والأميركية.
> الرئيس بوتين يدعو بشكل دائم إلى قيام نظام دولي «متعدد الأقطاب». هل نحن على الطريق الصحيح؟
- نظرية الأقطاب مبدأ يعود للعالم القديم، ولا أحبذ استخدامه أو تطبيقه على عالم اليوم. فزمن الحرب الباردة، كانت الثنائية القطبية فاعلة، وسمحت بتنظيم العالم وتوفير التوازن رغم أن أحد القطبين (الغربي) كان الأقوى. لكن اليوم، الأمور تغيرت، إذ إن كل دولة أو قوة تسعى للعب دورها بشكل شبه مستقل. والدليل على ذلك أن قوى إقليمية متوسطة لم تعد تسعى للحصول على حماية الكبار، بل إنها تتبع سياسة متحركة وغير دائمة، مع هذه الجهة أو تلك وفقاً لمصالحها. لقد انتقلنا من واقع الزواج الرسمي الدائم إلى العلاقة الحرة. يكفي أن ننظر إلى أداء الرئيس التركي إردوغان كيف يعدل سياساته وفق الظروف والمصالح.
أما بالنسبة للرئيس بوتين، فأعتقد أن دعوته لعالم متعدد الأقطاب، تدل على هشاشة وضعه، ورغبته في أن يقدم نفسه على أنه الجهة التي تحمي العالم من الهيمنة الأميركية، كما أنه يحلم أن تبقى روسيا قوة فوق الآخرين، وأن يستعيد وضع الاتحاد السوفياتي سابقاً بحيث يكون قطباً إلى جانب أقطاب أخرى.
> أعرف أنك تتابع الوضع الإيراني عن كثب. هل النظام الإيراني مهدد؟ ما قراءتك لما يجري اليوم وما يمكن أن يحصل غداً؟
- أعتبر أن النظام الإيراني اليوم مهدد، ولدينا أدلة على ذلك، ومنها التقلبات (في التعامل مع الحراك الاجتماعي)، حيث يتأرجح بين القمع الأقصى وتقديم التنازلات التي لم يكن أحد يتوقعها. وعندما نرى أن نظاماً يغالي في سياسة القمع، ويوازي ذلك مع تنازلات، فهذا يعني أنه على طريق الضياع لأنه فقد ثقة المواطنين. المجتمع الإيراني بكافة شرائحه عبر عن مواقف رافضة. كثيرون يرون أنها «ثورة النساء»، ولكن هذا التوصيف غير صحيح تماماً: إنها ثورة النساء ولكن أيضاً ثوة الأقليات الإثنية، وثورة الطلاب والعمال و«البازار» والمدن الوسطى، أي كل شرائح المجتمع، التي أظهرت أنها على طلاق ليس مع الجمهورية الإسلامية، بل مع نظام محافظ ومغالٍ في التشدد.
والمفارقة أن المجتمع الإيراني هو الأكثر مطالبة وتمسكاً بالعولمة، وهذا النظام هو الأكثر انغلاقاً. وقد ساهمت أخطاء ترمب في تعزيز دفعه إلى الانغلاق بعد خروجه من اتفاق عام 2015 النووي. الاتفاق المذكور كان فتح الباب لتطبيع العلاقات بين إيران والعالم، وبتمزيقه أنقذ ترمب مجموعة الأوليغارشية، التي تدور في فلك خامنئي، وبالنسبة لهؤلاء، فإن الحجاب هو علامة انتصارهم وقوتهم وليس رمزاً دينياً. لكن ثمة انعداماً لليقين بشأن هذه النقمة الاجتماعية غير الموجهة وغير المدارة سياسياً، مما يجعلها شبيهة إلى حد كبير بالربيع العربي، أي أنها تعبير عفوي يفتقد للقيادة السياسية وللقاعدة الآيديولوجية، مما يجعل وصولها إلى السلطة إشكالياً.