من التاريخ: الماجنا كارتا

من التاريخ: الماجنا كارتا
TT

من التاريخ: الماجنا كارتا

من التاريخ: الماجنا كارتا

كلما زاد بحثي في تطور المفاهيم السياسية الإنسانية، رسخ يقيني بأن الأفكار السياسية ما هي إلا انعكاس للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بنشأتها. فعصر سيطرة الكنيسة على الشؤون الدينية في أوروبا كان بسبب ظروفها السياسية في القارة والفراغ السياسي الناجم عن اختفاء أية سلطة مركزية قادرة على مواجهة الأعباء السياسية. وعندما جاءت عصور الحكم المطلق في نفس القارة فإنها كانت نتاجًا طبيعيًا للظروف المرتبطة بضعف السلطة الكنسية ومفهوم الإمبراطورية ومعهما مفهوم الأممية والاندثار التدريجي لطبقة الإقطاع، أما بزوغ المفاهيم الديمقراطية في القرن الثالث عشر فينطبق عليها نفس هذا الناموس الذي يبدو حاسمًا، ولعل خير مثال على ذلك كان ما هو معروفًا بـ«الماجنا كارتا» أو الميثاق العظيم، تلك الوثيقة المهمة الموقعة من قبل الملك «جون» ملك إنجلترا في 1215. ويحسب البعض هذه الوثيقة خطًا أول وثيقة أساسية للحقوق والحكم المحدود، فهذه الوثيقة لم تكن إلا نتاجًا للظروف المحيطة بإنجلترا في ذلك الوقت والخلافات الطبقية والسياسية فيها.
والثابت تاريخيًا أنه منذ اعتلاء الملك «وليم الغازي» عرش إنجلترا، فإنه طور طبقة الإقطاع في البلاد ليخلق لنفسه سندًا سياسيًا يستطيع من خلاله أن يضمن الاستقرار للحكم وأن يُحصّل الأموال اللازمة والجند الكثيف من أجل تنفيذ أهدافه، وهي نفس السياسة التي اتبعها الملوك من بعده، إلى أن استفحلت سلطات هذه الطبقة الغنية في البلاد، وبدأت تواجه سلطات الملك في صراع سياسي أصيل، وباعتلاء الملك هنري الثاني سدة الحكم بدأت الأوضاع السياسية والاقتصادية تضطرب خاصة بعدما اضطر الملك لرفع الضرائب المفروضة على هذه الطبقة وبدلات التجنيد وغيرها من النفقات، فدخلت البلاد في حالة صراع مفتوح بين الملك وبين هؤلاء البارونات الإقطاعيين، فلجأ الملك إلى تعديل القوانين المحلية من أجل كبح جماح سلطانهم، وعندما آل الحكم لابنه، ريتشارد قلب الأسد، ساءت الأوضاع أكثر بسبب حروبه الممتدة خارج البلاد سواء في الحملات الصليبية أو في شمال فرنسا ثم أسره بعد ذلك، وأصبحت البلاد على حافة الحرب الأهلية، وهو ما دفع أخاه، الملك جون، لاتباع نفس السياسات من أجل تقويض سلطات هذه الطبقة.
واقع الأمر أن الظروف كانت قد تغيرت في مطلع حكم هذا الملك لعدد من الأسباب، فلقد تكتلت طبقة النبلاء ضده ورفضوا بشدة السياسات القديمة، وزاد الأمر تعقيدًا الظروف السياسية الدولية وعداء ملك فرنسا «فيليب أغسطس» لإنجلترا وهزيمة الأخيرة في سلسلة من المعارك التي أدت لفقدان إنجلترا أغلبية مقاطعاتها في شمال فرنسا، ويضاف إلى ذلك أن هذا الملك كان متواضع القدرات ولا يملك من الحيل السياسية التي كانت لكثير من أجداده أو نظرائه، ولكن الطامة الكبرى جاءت عقب صراعه المفتوح مع «إنوشنتي الثالث» بابا الفاتيكان بعد الخلاف الذي دب بينهما بسبب رغبة الملك جون تعيين أحد معارفه كبيرًا لأساقفة الكنيسة الإنجليزية وقيام الملك بتأميم كثير من الأراضي وممتلكات الكنيسة الإنجليزية لينفق منها على حروبه بعدما توترت العلاقات مع البابا، وهو ما دفع الأخير لعزله كنسيًا مما هز بشدة شرعيته ووضعه في صدام مباشر مع الكنيسة وكثيرين من رعيته، وهي الظروف التي استغلها الإقطاعيون في البلاد ودخلوا في صراع مفتوح معه، وعلى الرغم من جنوح الأخير لتسوية أوضاعه مع الكنيسة وتهدئة الجبهة الفرنسية، فإنه لم يستطع حسم الصراع مع هذه الطبقة والتي باتت تريد تحجيم سلطات الملك بأي شكل، وهنا تدخل البابا بعدما ثبّت مرشحه ككبير الأساقفة من أجل تسوية الخلافات الداخلية الإنجليزية، فقام ممثلوه بالتوسط بين الملك جون والبارونات وهو ما أسفر عما عرف بـ«الماجنا كارتا» والتي اضطر الملك جون للتوقيع عليها عن غير اقتناع بسب الظروف السياسية المحيطة به.
لعل أهم فقرتين في هذه الوثيقة كانتا الفقرة التاسعة والثلاثين والأربعين، حيث نصت الأولى على منع الاحتجاز التعسفي والمعروف في الفقه القانوني بالـ«Habeas Corpus» دون محاكمة من قبل أمثاله، وهو المعروف في النظام القانوني بالمحلفين، فضلاً عن حق المتهم في المحاكمة العادلة، ولكن الفقرة الأولى في التقدير تعد أهم ما صدر عن هذه الوثيقة من حيث تبعاتها السياسية، فلقد نصت على الحرية المطلقة للكنيسة في إنجلترا بلا أي تدخل من قبل الملك إضافة إلى حظر مصادرة ممتلكاتها على الإطلاق وهو ما قوى من سلطان الكنيسة مقابل العرش، كذلك فقد نظمت هذه الوثيقة عملية التوريث في البلاد وعلى رأسها حقوق الإقطاعيين في الميراث وعدم فرض الغرامات عليهم، كما كفلت الوثيقة أيضا إعادة الممتلكات التي كانت قد صُودرت بغير وجه حق من هذه الطبقة، كذلك فقد نظمت الوثيقة حرية التجارة في البلاد وحق التجار وغيرها من هذه الأمور المهمة والتي وضعت بعض أسس فكرة النظام التجاري الحر، وقد أقرت الوثيقة انتخاب مجلس من خمسة وعشرين بارونًا لصيانة الحقوق التي أقرتها الوثيقة والسلام مع الملك، وفي المقابل تعهد البارونات بسحب كافة قوات المرتزقة من غير الإنجليز والذين تم جلبهم للمساهمة في الجهود العسكرية ضد الملك.
وعلى الرغم من مما قد يبدو من حقوق وتنظيم داخلي للدولة الإنجليزية والعلاقة بين الطبقات والقوى السياسية في البلاد في إطار هذه الوثيقة فإن الملكية سرعان ما تنصلت من بعض الحقوق الأساسية الواردة بها، فاستمرت الصراعات بين الأطراف المختلفة على مدار القرون التالية خاصة خلال حكم الملك هنري الثالث، مما أدى إلى تحالف جديد بين البارونات والطبقة الوسطى من أجل الضغط على الملك لتنفيذ أهم التوازنات الواردة في «الماجنا كارتا»، وهو ما أسفر عام 1265 عن إنشاء جمعية بهدف تحجيم سلطات العرش مكونة من ممثلي الأقاليم المختلفة تشمل طبقة النبلاء ورجال الدين وبعض الفرسان والمواطنين، وهو ما عُرف فيما بعد بالبرلمان، وعلى الرغم من وجود بعض السلطات لهذه الجمعية فإن الملك إدوارد الأول استطاع فيما بعد أن يحولها إلى أداة لخدمة العرش ضد البارونات.
وكما هو واضح، فإن هذه الوثيقة لم يكن هدفها الأساسي هو الحكم الرشيد أو غيره من الأمور الأخرى بقدر ما كان هدفها الأساسي هو خلق التوازن بين سلطات الملك وطبقة الإقطاعيين، وهو التوازن الذي لم يكتب له النجاح إلا بعد الحرب الأهلية الإنجليزية ومن بعدها «الثورة العظيمة» كما أطلق عليها في نهاية القرن السابع عشر. وقد ضمنت هذه الوثيقة استقلالية الكنيسة عن الدولة استقلالاً تامًا لأهداف الكنيسة ذاتها وعلى غير المصلحة القومية في هذا الإطار وهو ما لم تتخلص منه إنجلترا إلا في عصر هنري الثامن وابنته الملكة إليزابيث من بعده، وهي كلها أمور تعكس بوضوح أن الهدف من ورائها لم يكن المبادئ السياسية والإنسانية بقدر ما كانت المصلحة والموائمة السياسية للأطراف المتداخلة في هذا الأمر، ولكن التطور السياسي والاجتماعي في النهاية هو حصيلة الظروف السياسية في كل دولة وليس نتاجًا للمفاهيم الإنسانية السامية كما يحلو للبعض التشدق بها.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.