من التاريخ: الماجنا كارتا

من التاريخ: الماجنا كارتا
TT

من التاريخ: الماجنا كارتا

من التاريخ: الماجنا كارتا

كلما زاد بحثي في تطور المفاهيم السياسية الإنسانية، رسخ يقيني بأن الأفكار السياسية ما هي إلا انعكاس للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بنشأتها. فعصر سيطرة الكنيسة على الشؤون الدينية في أوروبا كان بسبب ظروفها السياسية في القارة والفراغ السياسي الناجم عن اختفاء أية سلطة مركزية قادرة على مواجهة الأعباء السياسية. وعندما جاءت عصور الحكم المطلق في نفس القارة فإنها كانت نتاجًا طبيعيًا للظروف المرتبطة بضعف السلطة الكنسية ومفهوم الإمبراطورية ومعهما مفهوم الأممية والاندثار التدريجي لطبقة الإقطاع، أما بزوغ المفاهيم الديمقراطية في القرن الثالث عشر فينطبق عليها نفس هذا الناموس الذي يبدو حاسمًا، ولعل خير مثال على ذلك كان ما هو معروفًا بـ«الماجنا كارتا» أو الميثاق العظيم، تلك الوثيقة المهمة الموقعة من قبل الملك «جون» ملك إنجلترا في 1215. ويحسب البعض هذه الوثيقة خطًا أول وثيقة أساسية للحقوق والحكم المحدود، فهذه الوثيقة لم تكن إلا نتاجًا للظروف المحيطة بإنجلترا في ذلك الوقت والخلافات الطبقية والسياسية فيها.
والثابت تاريخيًا أنه منذ اعتلاء الملك «وليم الغازي» عرش إنجلترا، فإنه طور طبقة الإقطاع في البلاد ليخلق لنفسه سندًا سياسيًا يستطيع من خلاله أن يضمن الاستقرار للحكم وأن يُحصّل الأموال اللازمة والجند الكثيف من أجل تنفيذ أهدافه، وهي نفس السياسة التي اتبعها الملوك من بعده، إلى أن استفحلت سلطات هذه الطبقة الغنية في البلاد، وبدأت تواجه سلطات الملك في صراع سياسي أصيل، وباعتلاء الملك هنري الثاني سدة الحكم بدأت الأوضاع السياسية والاقتصادية تضطرب خاصة بعدما اضطر الملك لرفع الضرائب المفروضة على هذه الطبقة وبدلات التجنيد وغيرها من النفقات، فدخلت البلاد في حالة صراع مفتوح بين الملك وبين هؤلاء البارونات الإقطاعيين، فلجأ الملك إلى تعديل القوانين المحلية من أجل كبح جماح سلطانهم، وعندما آل الحكم لابنه، ريتشارد قلب الأسد، ساءت الأوضاع أكثر بسبب حروبه الممتدة خارج البلاد سواء في الحملات الصليبية أو في شمال فرنسا ثم أسره بعد ذلك، وأصبحت البلاد على حافة الحرب الأهلية، وهو ما دفع أخاه، الملك جون، لاتباع نفس السياسات من أجل تقويض سلطات هذه الطبقة.
واقع الأمر أن الظروف كانت قد تغيرت في مطلع حكم هذا الملك لعدد من الأسباب، فلقد تكتلت طبقة النبلاء ضده ورفضوا بشدة السياسات القديمة، وزاد الأمر تعقيدًا الظروف السياسية الدولية وعداء ملك فرنسا «فيليب أغسطس» لإنجلترا وهزيمة الأخيرة في سلسلة من المعارك التي أدت لفقدان إنجلترا أغلبية مقاطعاتها في شمال فرنسا، ويضاف إلى ذلك أن هذا الملك كان متواضع القدرات ولا يملك من الحيل السياسية التي كانت لكثير من أجداده أو نظرائه، ولكن الطامة الكبرى جاءت عقب صراعه المفتوح مع «إنوشنتي الثالث» بابا الفاتيكان بعد الخلاف الذي دب بينهما بسبب رغبة الملك جون تعيين أحد معارفه كبيرًا لأساقفة الكنيسة الإنجليزية وقيام الملك بتأميم كثير من الأراضي وممتلكات الكنيسة الإنجليزية لينفق منها على حروبه بعدما توترت العلاقات مع البابا، وهو ما دفع الأخير لعزله كنسيًا مما هز بشدة شرعيته ووضعه في صدام مباشر مع الكنيسة وكثيرين من رعيته، وهي الظروف التي استغلها الإقطاعيون في البلاد ودخلوا في صراع مفتوح معه، وعلى الرغم من جنوح الأخير لتسوية أوضاعه مع الكنيسة وتهدئة الجبهة الفرنسية، فإنه لم يستطع حسم الصراع مع هذه الطبقة والتي باتت تريد تحجيم سلطات الملك بأي شكل، وهنا تدخل البابا بعدما ثبّت مرشحه ككبير الأساقفة من أجل تسوية الخلافات الداخلية الإنجليزية، فقام ممثلوه بالتوسط بين الملك جون والبارونات وهو ما أسفر عما عرف بـ«الماجنا كارتا» والتي اضطر الملك جون للتوقيع عليها عن غير اقتناع بسب الظروف السياسية المحيطة به.
لعل أهم فقرتين في هذه الوثيقة كانتا الفقرة التاسعة والثلاثين والأربعين، حيث نصت الأولى على منع الاحتجاز التعسفي والمعروف في الفقه القانوني بالـ«Habeas Corpus» دون محاكمة من قبل أمثاله، وهو المعروف في النظام القانوني بالمحلفين، فضلاً عن حق المتهم في المحاكمة العادلة، ولكن الفقرة الأولى في التقدير تعد أهم ما صدر عن هذه الوثيقة من حيث تبعاتها السياسية، فلقد نصت على الحرية المطلقة للكنيسة في إنجلترا بلا أي تدخل من قبل الملك إضافة إلى حظر مصادرة ممتلكاتها على الإطلاق وهو ما قوى من سلطان الكنيسة مقابل العرش، كذلك فقد نظمت هذه الوثيقة عملية التوريث في البلاد وعلى رأسها حقوق الإقطاعيين في الميراث وعدم فرض الغرامات عليهم، كما كفلت الوثيقة أيضا إعادة الممتلكات التي كانت قد صُودرت بغير وجه حق من هذه الطبقة، كذلك فقد نظمت الوثيقة حرية التجارة في البلاد وحق التجار وغيرها من هذه الأمور المهمة والتي وضعت بعض أسس فكرة النظام التجاري الحر، وقد أقرت الوثيقة انتخاب مجلس من خمسة وعشرين بارونًا لصيانة الحقوق التي أقرتها الوثيقة والسلام مع الملك، وفي المقابل تعهد البارونات بسحب كافة قوات المرتزقة من غير الإنجليز والذين تم جلبهم للمساهمة في الجهود العسكرية ضد الملك.
وعلى الرغم من مما قد يبدو من حقوق وتنظيم داخلي للدولة الإنجليزية والعلاقة بين الطبقات والقوى السياسية في البلاد في إطار هذه الوثيقة فإن الملكية سرعان ما تنصلت من بعض الحقوق الأساسية الواردة بها، فاستمرت الصراعات بين الأطراف المختلفة على مدار القرون التالية خاصة خلال حكم الملك هنري الثالث، مما أدى إلى تحالف جديد بين البارونات والطبقة الوسطى من أجل الضغط على الملك لتنفيذ أهم التوازنات الواردة في «الماجنا كارتا»، وهو ما أسفر عام 1265 عن إنشاء جمعية بهدف تحجيم سلطات العرش مكونة من ممثلي الأقاليم المختلفة تشمل طبقة النبلاء ورجال الدين وبعض الفرسان والمواطنين، وهو ما عُرف فيما بعد بالبرلمان، وعلى الرغم من وجود بعض السلطات لهذه الجمعية فإن الملك إدوارد الأول استطاع فيما بعد أن يحولها إلى أداة لخدمة العرش ضد البارونات.
وكما هو واضح، فإن هذه الوثيقة لم يكن هدفها الأساسي هو الحكم الرشيد أو غيره من الأمور الأخرى بقدر ما كان هدفها الأساسي هو خلق التوازن بين سلطات الملك وطبقة الإقطاعيين، وهو التوازن الذي لم يكتب له النجاح إلا بعد الحرب الأهلية الإنجليزية ومن بعدها «الثورة العظيمة» كما أطلق عليها في نهاية القرن السابع عشر. وقد ضمنت هذه الوثيقة استقلالية الكنيسة عن الدولة استقلالاً تامًا لأهداف الكنيسة ذاتها وعلى غير المصلحة القومية في هذا الإطار وهو ما لم تتخلص منه إنجلترا إلا في عصر هنري الثامن وابنته الملكة إليزابيث من بعده، وهي كلها أمور تعكس بوضوح أن الهدف من ورائها لم يكن المبادئ السياسية والإنسانية بقدر ما كانت المصلحة والموائمة السياسية للأطراف المتداخلة في هذا الأمر، ولكن التطور السياسي والاجتماعي في النهاية هو حصيلة الظروف السياسية في كل دولة وليس نتاجًا للمفاهيم الإنسانية السامية كما يحلو للبعض التشدق بها.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.