من التاريخ: الماجنا كارتاhttps://aawsat.com/home/article/407006/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AC%D9%86%D8%A7-%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%A7
كلما زاد بحثي في تطور المفاهيم السياسية الإنسانية، رسخ يقيني بأن الأفكار السياسية ما هي إلا انعكاس للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بنشأتها. فعصر سيطرة الكنيسة على الشؤون الدينية في أوروبا كان بسبب ظروفها السياسية في القارة والفراغ السياسي الناجم عن اختفاء أية سلطة مركزية قادرة على مواجهة الأعباء السياسية. وعندما جاءت عصور الحكم المطلق في نفس القارة فإنها كانت نتاجًا طبيعيًا للظروف المرتبطة بضعف السلطة الكنسية ومفهوم الإمبراطورية ومعهما مفهوم الأممية والاندثار التدريجي لطبقة الإقطاع، أما بزوغ المفاهيم الديمقراطية في القرن الثالث عشر فينطبق عليها نفس هذا الناموس الذي يبدو حاسمًا، ولعل خير مثال على ذلك كان ما هو معروفًا بـ«الماجنا كارتا» أو الميثاق العظيم، تلك الوثيقة المهمة الموقعة من قبل الملك «جون» ملك إنجلترا في 1215. ويحسب البعض هذه الوثيقة خطًا أول وثيقة أساسية للحقوق والحكم المحدود، فهذه الوثيقة لم تكن إلا نتاجًا للظروف المحيطة بإنجلترا في ذلك الوقت والخلافات الطبقية والسياسية فيها. والثابت تاريخيًا أنه منذ اعتلاء الملك «وليم الغازي» عرش إنجلترا، فإنه طور طبقة الإقطاع في البلاد ليخلق لنفسه سندًا سياسيًا يستطيع من خلاله أن يضمن الاستقرار للحكم وأن يُحصّل الأموال اللازمة والجند الكثيف من أجل تنفيذ أهدافه، وهي نفس السياسة التي اتبعها الملوك من بعده، إلى أن استفحلت سلطات هذه الطبقة الغنية في البلاد، وبدأت تواجه سلطات الملك في صراع سياسي أصيل، وباعتلاء الملك هنري الثاني سدة الحكم بدأت الأوضاع السياسية والاقتصادية تضطرب خاصة بعدما اضطر الملك لرفع الضرائب المفروضة على هذه الطبقة وبدلات التجنيد وغيرها من النفقات، فدخلت البلاد في حالة صراع مفتوح بين الملك وبين هؤلاء البارونات الإقطاعيين، فلجأ الملك إلى تعديل القوانين المحلية من أجل كبح جماح سلطانهم، وعندما آل الحكم لابنه، ريتشارد قلب الأسد، ساءت الأوضاع أكثر بسبب حروبه الممتدة خارج البلاد سواء في الحملات الصليبية أو في شمال فرنسا ثم أسره بعد ذلك، وأصبحت البلاد على حافة الحرب الأهلية، وهو ما دفع أخاه، الملك جون، لاتباع نفس السياسات من أجل تقويض سلطات هذه الطبقة. واقع الأمر أن الظروف كانت قد تغيرت في مطلع حكم هذا الملك لعدد من الأسباب، فلقد تكتلت طبقة النبلاء ضده ورفضوا بشدة السياسات القديمة، وزاد الأمر تعقيدًا الظروف السياسية الدولية وعداء ملك فرنسا «فيليب أغسطس» لإنجلترا وهزيمة الأخيرة في سلسلة من المعارك التي أدت لفقدان إنجلترا أغلبية مقاطعاتها في شمال فرنسا، ويضاف إلى ذلك أن هذا الملك كان متواضع القدرات ولا يملك من الحيل السياسية التي كانت لكثير من أجداده أو نظرائه، ولكن الطامة الكبرى جاءت عقب صراعه المفتوح مع «إنوشنتي الثالث» بابا الفاتيكان بعد الخلاف الذي دب بينهما بسبب رغبة الملك جون تعيين أحد معارفه كبيرًا لأساقفة الكنيسة الإنجليزية وقيام الملك بتأميم كثير من الأراضي وممتلكات الكنيسة الإنجليزية لينفق منها على حروبه بعدما توترت العلاقات مع البابا، وهو ما دفع الأخير لعزله كنسيًا مما هز بشدة شرعيته ووضعه في صدام مباشر مع الكنيسة وكثيرين من رعيته، وهي الظروف التي استغلها الإقطاعيون في البلاد ودخلوا في صراع مفتوح معه، وعلى الرغم من جنوح الأخير لتسوية أوضاعه مع الكنيسة وتهدئة الجبهة الفرنسية، فإنه لم يستطع حسم الصراع مع هذه الطبقة والتي باتت تريد تحجيم سلطات الملك بأي شكل، وهنا تدخل البابا بعدما ثبّت مرشحه ككبير الأساقفة من أجل تسوية الخلافات الداخلية الإنجليزية، فقام ممثلوه بالتوسط بين الملك جون والبارونات وهو ما أسفر عما عرف بـ«الماجنا كارتا» والتي اضطر الملك جون للتوقيع عليها عن غير اقتناع بسب الظروف السياسية المحيطة به. لعل أهم فقرتين في هذه الوثيقة كانتا الفقرة التاسعة والثلاثين والأربعين، حيث نصت الأولى على منع الاحتجاز التعسفي والمعروف في الفقه القانوني بالـ«Habeas Corpus» دون محاكمة من قبل أمثاله، وهو المعروف في النظام القانوني بالمحلفين، فضلاً عن حق المتهم في المحاكمة العادلة، ولكن الفقرة الأولى في التقدير تعد أهم ما صدر عن هذه الوثيقة من حيث تبعاتها السياسية، فلقد نصت على الحرية المطلقة للكنيسة في إنجلترا بلا أي تدخل من قبل الملك إضافة إلى حظر مصادرة ممتلكاتها على الإطلاق وهو ما قوى من سلطان الكنيسة مقابل العرش، كذلك فقد نظمت هذه الوثيقة عملية التوريث في البلاد وعلى رأسها حقوق الإقطاعيين في الميراث وعدم فرض الغرامات عليهم، كما كفلت الوثيقة أيضا إعادة الممتلكات التي كانت قد صُودرت بغير وجه حق من هذه الطبقة، كذلك فقد نظمت الوثيقة حرية التجارة في البلاد وحق التجار وغيرها من هذه الأمور المهمة والتي وضعت بعض أسس فكرة النظام التجاري الحر، وقد أقرت الوثيقة انتخاب مجلس من خمسة وعشرين بارونًا لصيانة الحقوق التي أقرتها الوثيقة والسلام مع الملك، وفي المقابل تعهد البارونات بسحب كافة قوات المرتزقة من غير الإنجليز والذين تم جلبهم للمساهمة في الجهود العسكرية ضد الملك. وعلى الرغم من مما قد يبدو من حقوق وتنظيم داخلي للدولة الإنجليزية والعلاقة بين الطبقات والقوى السياسية في البلاد في إطار هذه الوثيقة فإن الملكية سرعان ما تنصلت من بعض الحقوق الأساسية الواردة بها، فاستمرت الصراعات بين الأطراف المختلفة على مدار القرون التالية خاصة خلال حكم الملك هنري الثالث، مما أدى إلى تحالف جديد بين البارونات والطبقة الوسطى من أجل الضغط على الملك لتنفيذ أهم التوازنات الواردة في «الماجنا كارتا»، وهو ما أسفر عام 1265 عن إنشاء جمعية بهدف تحجيم سلطات العرش مكونة من ممثلي الأقاليم المختلفة تشمل طبقة النبلاء ورجال الدين وبعض الفرسان والمواطنين، وهو ما عُرف فيما بعد بالبرلمان، وعلى الرغم من وجود بعض السلطات لهذه الجمعية فإن الملك إدوارد الأول استطاع فيما بعد أن يحولها إلى أداة لخدمة العرش ضد البارونات. وكما هو واضح، فإن هذه الوثيقة لم يكن هدفها الأساسي هو الحكم الرشيد أو غيره من الأمور الأخرى بقدر ما كان هدفها الأساسي هو خلق التوازن بين سلطات الملك وطبقة الإقطاعيين، وهو التوازن الذي لم يكتب له النجاح إلا بعد الحرب الأهلية الإنجليزية ومن بعدها «الثورة العظيمة» كما أطلق عليها في نهاية القرن السابع عشر. وقد ضمنت هذه الوثيقة استقلالية الكنيسة عن الدولة استقلالاً تامًا لأهداف الكنيسة ذاتها وعلى غير المصلحة القومية في هذا الإطار وهو ما لم تتخلص منه إنجلترا إلا في عصر هنري الثامن وابنته الملكة إليزابيث من بعده، وهي كلها أمور تعكس بوضوح أن الهدف من ورائها لم يكن المبادئ السياسية والإنسانية بقدر ما كانت المصلحة والموائمة السياسية للأطراف المتداخلة في هذا الأمر، ولكن التطور السياسي والاجتماعي في النهاية هو حصيلة الظروف السياسية في كل دولة وليس نتاجًا للمفاهيم الإنسانية السامية كما يحلو للبعض التشدق بها.
منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسياhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9/5093698-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.
لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.
بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.
الخروج الفرنسي
الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.
يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.
ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.
حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.
وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.
ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.
لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.
وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».
يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.
أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.
الأميركيون أيضاً
حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.
ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.
وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.
وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.
البديل الروسي
لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.
لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.
ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.
وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.
رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.
جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.
استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.
كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.
المفاجأة الأوكرانية
اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.
تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.
لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.
رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي
خطر الإرهاب
في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.
لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.
في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.
في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.
في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».
يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.
ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».