ويندي شيرمان: مفاوضة إيران الأولى

انتماؤها لعائلة يهودية معروفة لم يهدئ مخاوف إسرائيل من الاتفاق النووي

ويندي شيرمان: مفاوضة إيران الأولى
TT

ويندي شيرمان: مفاوضة إيران الأولى

ويندي شيرمان: مفاوضة إيران الأولى

مع إبرام الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى في فيينا أمس، يعود الوزراء والعشرات من أعوانهم والمفاوضين والخبراء إلى عواصمهم ودوائرهم بعد أسابيع من المفاوضات الماراثونية. إلا أن واحدة منهم، التي مكثت 27 يوما في فيينا، لن تعود إلى عملها التقليدي ومكتبها في واشنطن.

* قبل شهرين، أعلنت ويندي شيرمان، وكيلة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية أنها ستتقاعد مباشرة بعد التوقيع على اتفاقية الأسلحة النووية الإيرانية. لكن، أجلت شيرمان تقاعدها، مرة تلو الأخرى، كلما تمددت المفاوضات، موعدا نهائيا بعد موعد نهائي.
ونقلت تقارير إخبارية أن شيرمان قالت، الأسبوع الماضي، لوزير الخارجية كيري إنه، إذا أمرهم الرئيس باراك أوباما بالعودة إلى واشنطن، وإعلان فشل المفاوضات، ستتقاعد في الحال.
في كل الحالات، ارتبط اسم شيرمان بالمفاوضات مع إيران، منذ قبل أن يعينها الرئيس أوباما في منصبها الحالي، قبل عامين. وهو عينها في المنصب لأكثر من سبب، على رأسها لإصراره على حسم المشكلة مع إيران، ولخبرتها في التفاوض مع كوريا الشمالية. وبما أن شيرمان كانت سياسية قبل أن تكون دبلوماسية، وعملت في الكونغرس الأميركي، فهي تفهم أهمية التبعات السياسية للمناورات الدبلوماسية.
وعند تعيينها في هذا المنصب، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» أن شيرمان «ربما أفضل من يقود المفاوضات مع الإيرانيين. ليس فقط لأن عندها خبرة في الموضوع، ولكن لأنها سياسية قبل أن تكون دبلوماسية.. كان المعنى الخفي هو أن الإيرانيين ليسوا دبلوماسيين في تصرفاتهم، ويميلون نحو المناورات والمراوغات. لهذا، يحتاجون إلى سياسي، يعرف كيف يناور ويراوغ».
وكان هناك سبب خفي آخر، لم يعلنه البيت الأبيض، ولم تتحدث عنه «واشنطن بوست»، ولا شيرمان نفسها. وهي أنها تنتمي إلى عائلة يهودية غنية ومهمة في نيويورك. لم يتحدثوا كلهم علنا عن هذا الموضوع. (قد تأدبا، ربما خوفا). لكن، صار مفهوما أن أوباما يريدها أولا، تطمئن اللوبي اليهودي في واشنطن، وثانيا، أن تطلع الإسرائيليين على المفاوضات، خطوة بعد خطوة. وكانت شيرمان، وهي تتولى ثالث أرفع منصب في الخارجية الأميركية، تتواصل مع الإسرائيليين من موقع قوة.
وفي أواخر العام الماضي، نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية تقريرا تحت عنوان: «اليهودية التي تقود المفاوضات مع إيران». ووضعتها في أعلى قائمة أهم اليهود خلال عام 2014.
وفعلا، في بداية هذا العام، ذهبت شيرمان إلى مؤتمر يهودي في واشنطن، وقالت لهم: «أحس بالفخر لأني أنتمي إلى الجالية اليهودية - الأميركية. وأود أن أنقل لكم أن الرئيس أوباما يحس بالفخر لعلاقاته القوية مع اليهود، ومع إسرائيل». وكان واضحا أنها لا تؤيد غضب كثير من اليهود (خاصة في إسرائيل) على أوباما، من قبل أن يحاول التقرب نحو إيران (ولأسباب كثيرة أخرى).
في ذلك المؤتمر، وفي مؤتمرات بعده مع اليهود، كررت العبارة الآتية: «اتفاق مع إيران يحد من قدرتها على إنتاج قنابل نووية أفضل من عدم اتفاق يسمح لإيران لتواصل إنتاج قنابل نووية».
في الشهر الماضي، انتقدت صحيفة «جيروزاليم بوست» شيرمان. لم يكن النقد مباشرا، بل انتقدت موقف شيرمان تجاه كوريا الجنوبية. كانت شيرمان اقترحت أن «تتساهل» كوريا الجنوبية مع كوريا الشمالية بهدف كسب ثقتها.
وعن هذا الموقف، كتبت «جيروزاليم بوست» تحت عنوان: «الحياة تحت مظلة الحماية الأميركية»، وقالت: «كيف يحس الكوريون الجنوبيون عندما تنتقدهم شيرمان باسم الدولة التي تحميهم؟ نأمل ألا يأتي اليوم الذي ستقول فيه لنا شيرمان ذلك».
وبعد فترة وجيزة من توليها قيادة المفاوضات مع إيران، توجهت شيرمان إلى ألماتي (في كازاخستان) في ربيع 2013، حيث التقت ضمن مجموعة الدول الخمس زائد واحد وزير الخارجية الإيراني حينها علي أكبر صالحي، وكبير المفاوضين الإيرانيين حسين جليلي. وقالت للصحافيين كلاما جديدا، وهو أن الهدف هو «الحوار مع النظام الإيراني من دون العمل على تغييره أو إسقاطه». كما سلطت الضوء على فتوى المرشد الأعلى للثورة، آية الله على خامنئي، بتحريم صناعة السلاح النووي، لإثبات حسن النيات الإيرانية.
وصار واضحا أن شيرمان (مثلما فعلت مع الكوريين الشماليين) تريد كسب ثقة الإيرانيين، قبل الوصول إلى اتفاق معهم. لكن، أزعج ذلك الإسرائيليين، واللوبي اليهودي في واشنطن.
في العام الماضي، كجزء من قرار أوباما باطلاع الإسرائيليين على المفاوضات أولا بأول، زارت شيرمان إسرائيل، مع سوزان رايس، مستشارة أوباما للأمن الوطني. في ذلك الوقت، نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تصريحات لمسؤولين إسرائيليين انتقدوا رايس انتقادات مباشرة (وشيرمان انتقادات غير مباشرة). وكرروا سياسة إسرائيل المتشددة برفض أي تسوية مع إيران بوجود أي مواد نووية والمطالبة بالتخلص من كل اليورانيوم المخصب، وتفكيك كل أجهزة الطرد المركزية (مفاعل قم، ومفاعل أراك).

* إساءة الإيرانيين
رغم محاولة شيرمان كسب ثقة الإيرانيين، أغضبت شيرمان الإيرانيين مرات عدة، أبرزها عندما تحدثت، خلال جلسات استماع في الكونغرس في أكتوبر (تشرين الأول) 2013، عن صعوبة التفاوض مع الإيرانيين، قائلة «نعرف أن الخداع جزء من جينات الإيرانيين». ومرة أخرى تحدثت عن «تجار السجاد الإيرانيين» (عبارة غربية نمطية عن التفاوض مع الإيرانيين، وغيرهم من الشرق أوسطيين). وناقش مجلس الشورى الإسلامي في إيران تصريحات شيرمان. وطلب من الرئيس حسين روحاني «اتخاذ موقف حازم وثوري للرد على هذه التصريحات السخيف». وجاء في التصريحات: «تكشف الإساءات التي وجهتها هذه المسؤولة الأميركية النزعة الأميركية الاستكبارية والشريرة».
ثم زاد الطين بلة عندما قدم رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور الديمقراطي روبرت منينديز، مشروع قانون لفرض عقوبات إضافية على إيران «خلال ستة شهور، إذا فشلت الإدارة في التوصل إلى اتفاق يوقف جميع أنواع التخصيب».
هذه المرة، خلال جلسة استماع في لجنة منينديز، لم تدافع شيرمان عن الإيرانيين، طبعا. لكنها كررت تصريحات كان قالها الرئيس أوباما عن أن «الاتفاق مع إيران أفضل لإسرائيل من عدم الاتفاق». ومن عمل مع شيرمان عن كثب يشيد بهدوئها، ولكن يقر بأنها صارمة في التعامل، ولا تتهاون مع من يفاوضها، أو يعمل معها.

* حقبة «كوريا الشمالية»
قبل عامين تقريبا عندما تولت شيرمان منصبها الحالي، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز»: «استطاعت شيرمان أن تجمع بين السياسة والدبلوماسية. وأن تجمع بين النظريات والأفعال. ها هي سياسية الغرف الخلفية في بولتيمور (ولاية ماريلاند) تفاوض الإيرانيين. وها هي تجمع بين سنواتها الاستشارية في واشنطن، ووزارة الخارجية. هذه هي المرة الثانية التي تفعل فيها ذلك».
قصدت الصحيفة أن شيرمان، في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، قادت الوفد الأميركي للمفاوضات مع كوريا الشمالية حول أسلحتها النووية.
وفي ذلك الوقت، كانت إدارة كلينتون وصلت، للمرة الأولى، إلى إطار اتفاق (عام 1994). فعلا، وافقت كوريا الشمالية على تجميد وتفكيك برنامجها للأسلحة النووية، بما في ذلك المفاعل الرئيسي في يونغبيون. في وقت لاحق، افتخرت شيرمان بدورها، وقالت: «خلال إدارة كلينتون، لم تضف أوقية واحدة من البلوتونيوم لمخزون كوريا الشمالية».
في آخر عام لكلينتون في البيت الأبيض، وبعد مفاوضات سرية مع الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ إيل، وعد بعدم «إنتاج، أو اختبار، أو نشر» صواريخ يزيد مداها على 300 ميل. حدد هذا عدم قدرة كوريا الشمالية على إطلاق صواريخ يمكن أن تضرب الولايات المتحدة، بل إن كوريا الشمالية عرضت وقف بيع صواريخ، أو مكونات صواريخ، أو تكنولوجيا صواريخ، أو التدريب على صواريخ. وكان ذلك جزءا من مساعي الولايات المتحدة لعدم انتشار الصواريخ، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
في ذلك الوقت، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» افتتاحية أشادت بشيرمان. وقالت: «صار السبيل الوحيد لاتفاق الولايات المتحدة حول البرامج المتنازع عليها مع كوريا الشمالية، ومنعها من الحصول على قدرات نووية، هو من خلال الدبلوماسية. يبدو أن كيم جونغ إيل صار على استعداد لتقديم التزامات تاريخية».
لكن، مع بداية عهد الرئيس جورج دبليو بوش تغير الوضع. وصارت شيرمان، في نظر قادة الحزب الجمهوري «شبه خائنة» إن لم تكن «خائنة». من بين الذين انتقدوها جيمس بيكر، وزير خارجية بوش الأب، ومن كبار مستشاري بوش الابن. انتقدها بالاسم. وقال إنها تسير على سياسة «الترضية» والتراخي مع بيونغ يانغ.
آخر مفاوضات.. بإدارة أوباما
ها هو التاريخ يعيد نفسه. وها هم قادة ومعلقون جمهوريون ينتقدون قيادة شيرمان للمفاوضات مع إيران وكثيرا ما يوجهون الانتقادات لشيرمان.
قال إدوارد لاسكي، في دورية «أميركان ثنكار» (المفكر الأميركي): «في عام 1999، توصلت وندي شيرمان إلى اتفاق مع كوريا الشمالية مقابل مئات الملايين من الدولارات قيمة شحنات الطعام والمساعدات الطبية للكوريين الشماليين الجوعى. ننظر اليوم، ونرى أنهم أكلوا ما أرسلنا إليهم، ثم تنكروا لما اتفقنا عليه معهم. الآن، جاء دور الإيرانيين مع وندي شيرمان».
وبدوره، كتب إيثان إبشتاين في مجلة «ويكلي ستاندراد»: «تخلط ويندي شيرمان بين المنظمات الخيرية التي كانت تترأسها في شوارع بولتيمور لمساعدة الفقراء، وبين دولة آيات الله الإيرانية. سيفتح الإيرانيون أفواههم للالتهام، بعد رفع العقوبات، ثم سيتنكرون للاتفاقية التي وقعونها معنا. على الأقل، فقراء شوارع بولتيمور يحترمون من يعطف عليهم». وكانت شيرمان قد عملت في مجال العمل الاجتماعي للدفاع عن الفقراء والضعفاء في المجتمع في مدينة بولتيمور.
واعتادت شيرمان على هذه الانتقادات من الجمهوريين، وأكدت التزامها بأداء المهمة الأخيرة لإدارة أوباما قبل أن تستقيل من منصبها. ولكن بدأت من الآن التكهنات حول إمكانية عودة شيرمان إلى الدبلوماسية ودائرة المفاوضات مستقبلا..في حال فازت المرشحة الديمقراطية للانتخابات الأميركية هيلاري كلينتون والتي عينتها في هذا منصب وكيلة وزير الخارجية الأميركي عام 2011 عندما تولت كلينتون حقيبة الخارجية الأميركية.

* ويندي شيرمان.. في سطور
* الاسم الكامل: ويندي روث شيرمان
* المنصب الرسمي: وكيلة وزير الخارجية الأميركية
* ولدت عام 1949
* درست في ثانوية «سميث كولدج» في بوسطن.
* حصلت على بكالوريوس من جامعة بوسطن.
* حصلت على ماجستير في العمل الاجتماعي من جامعة ماريلاند
* تفرغت للعمل الاجتماعي في الأحياء الفقيرة في بالتيمور (ولاية ماريلاند)
* صارت مديرة منظمة «ايميلي» لمساعدة النساء الحاملات.
* في عام 1971، فازت بعضوية مجلس بلدية بالتيمور، ممثلة للحزب الديمقراطي.
* بعد خمسة أعوام، صارت مديرة مكتب خدمات رعاية الطفولة في بالتيمور.
* انتقلت إلى واشنطن، وعملت مساعدة للسيناتورة الديمقراطية باربرا ميكولسكي.
* انضمت إلى مكتب للمحاماة في واشنطن، متخصص في استشارات المفاوضات والاتصالات الاستراتيجية.
* في عام 1993، عينها الرئيس بيل كلينتون، مديرة في مؤسسة «فاني ماي» (شبه الحكومية التي تساعد في شراء المنازل).
* في عام 1995، عينها كلينتون مساعدة لوزير الخارجية، وارين كريستوفر، لشؤون الكونغرس.
* في عام 1997، عينها كلينتون مساعدة لوزيرة الخارجية، مادلين أولبرايت، للمفاوضات (ركزت على المفاوضات مع كوريا الشمالية حول أسلحتها النووية).
* في عام 2000، عادت إلى مكتب استشارات المفاوضات والاتصالات الاستراتيجية في واشنطن.
* في انتخابات عام 2008، كانت مستشارة للشؤون الخارجية في حملة السيناتورة هيلاري كلينتون لرئاسة الجمهورية.
* في عام 2009، بعد أن فاز أوباما، عينها مستشارة في البيت الأبيض.
* في عام 2011، عينها مساعدة لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون للشؤون السياسية. واستمرت في المنصب بعد أن صار جون كيري وزيرا للخارجية. ثم صارت مسؤولة عن المفاوضات مع إيران.
* زوجها هو بروس ستوك، صحافي سابق، والآن مدير في مركز «بيو» للأبحاث في واشنطن.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.