«الأرمن في الكويت» يكمل ثلاثية حمزة عليان عن الأقليات

«الأرمن في الكويت» يكمل ثلاثية حمزة عليان عن الأقليات
TT

«الأرمن في الكويت» يكمل ثلاثية حمزة عليان عن الأقليات

«الأرمن في الكويت» يكمل ثلاثية حمزة عليان عن الأقليات

كتاب «الأرمن في الكويت... روايات تاريخية وشهادات موثقة» تأليف الباحث حمزة عليان، يرسم حلقة ثالثة، وربما ليست أخيرة، من سلسلة ضمّت حتى الآن ثلاثة كتب عن الأقليات سجّل بها عليان حضوره في إطار فضيلة لا غنى عنها أكثر من أي وقت مضى.. حيث بات التمسك بقيم التسامح والتعايش بين الأمم والثقافات والأديان والحضارات خياراً مهماً يضمن للإنسانية استقرارها وسلامة مسارها.
الكتاب الأول للباحث والإعلامي حمزة عليان كان عن يهود الكويت، وجاء دراسة جامعة لتاريخ اليهود في دولة الكويت؛ بدءاً من مسيرة الأخوين صالح وداود بن عزرا، اللذين اشتهرا بـ«صالح وداود الكويتي»، ثم كان كتابه الثاني «المسيحيون في الكويت» الذي تُرجم إلى الإنجليزية وظهر بوصفه مرجعاً شاملاً يقارب الدقة في رصد وتوثيق المعلومات عن الوجود المسيحي هنا، وقد صدر في وقت حرج؛ فبينما كانت المنطقة تشهد صراعات وثورات عربية تعرَّض فيها المسيحيون إلى عمليات تهجير وإبعاد وهدم كنائس، كانت الكويت تحتضن مثل هذا الإصدار لتؤكد أنها إحدى الواحات الوارفة بأشجار التسامح وثمار التجانس.

صناعة عليانية
في الكتب الثلاثة (اليهود، المسيحيون، الأرمن) نلاحظ بشكل جلي أن منتجها صناعة «عليانية»، إن صح التعبير، ذلك أن كاتبها لم يكتف بجمع مادة جاهزة ولملمة المتبعثر واستخراج ما في بطون الكتب من معلومات وما تحمله الوثائق من إشارات و«شذرات»، بل إنه أنتج معرفة حينما قام بالبحث الميداني عن رواية هنا وحقيقة هناك، فأجرى لقاءات مع ذوي العلاقة وزار الأماكن وأجرى استطلاعات شملت حتى حيز السكوت وعالم الأموات، حينما ذهب إلى المقابر واستنطق صمتها بما كان في سالف الأيام. ولا شك أن كل ذلك استغرق من الكاتب جهداً وعملاً شاقّين.
وإذا كنا نحيِّي المؤلف؛ لتصدِّيه لملف الأقليات الذي ربما يتردد الكثيرون في الخوض فيه، فإننا نحيي الكويت مرتين؛ الأولى لحالة التسامح المستقرة في وجدانها منذ تأسيسها وعلى مدار قرون عدة ولما تقدِّمه من رعاية واهتمام لكل الفئات التي تحيا على أرضها، والثانية لترحيبها بالتوثيق الدقيق والأمين لكل ذلك.

في عشر سنوات
من جهة الزمن صدرت الكتب الثلاثة في غضون عشرة أعوام (اليهود في الكويت 2012، المسيحيون في الكويت 2014، أما الأرمن فمع توديعنا للعام الحالي 2022)، ووفقاً للسيرة الذاتية التي ضمّها الكتاب فإن هذه السنوات العشر شهدت إصدار عليان (6) كتب أخرى هي: كتاب يخص العلاقات الكويتية اللبنانية، وآخَر يحمل عنوان «ممنوع من النشر.. تاريخ الرقابة في الكويت»، ثم كتابان من سلسلة كتب التراجم التي دأب على نشرها ويحملان عنوانيْ «وجوه في الكويت»، و«وجوه خليجية»، ثم كتاباه «الكويت في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، و«الكويت في الخمسينات»، وأخيراً «موسوعة الأوبئة الوثائقية.. كورنا من المهد إلى اللقاح»، يضاف إلى كل ذلك تأليف مشترك عن التثمين في الكويت وأثره في التطور العمراني، ليصل إنتاجه من الكتب إلى نحو 21 كتاباً، ولعلّ حضور الكويت في هذه العناوين يعكس مستوى وقيمة الخبرة التي يمتلكها حمزة عليان في بيئة الكويت ومجتمعها والثراء الذي يضاف للمكتبة الوطنية نتيجة تراكم هذه الخبرات وحسن استثمارها في الإنتاج المعرفي.

ثلاثة تقديمات ومقدمة
يضم الكتاب ثلاثة تقديمات؛ الأول للبطريرك آرام الأول كشيشيان، وقد أشار فيه إلى العلاقات الطيبة التي تأسست وترسخت بين الشعب الأرمني والشعب العربي، وكيف ازدادت بعد مجازر 1915 والتي أرغمتهم على الهجرة، فكان الشعب العربي الكريم خير مُجير وخير مستقبِل، ولفت إلى أنه بعد المحنة تشابكت الأيدي الأرمنية والأيدي العربية في نهضة الأوطان، وذكر أن الأرمن تمكنوا من الحفاظ على إرثهم الثقافي وانصهروا في المجتمع العربي وكانوا أوفياء للأرض التي ضمّتهم لم يبخلوا يوماً بجهد للمساهمة في بنائها واحترموا قوانينها وتواصلوا مع شعبها بكل احترام.
التقديم الثالث كان للأب أرداك كهيايان، راعي الكنيسة الأرمنية في الكويت، وسبقه تقديم بقلم مطران الأرمن الأرثوذكس في الكويت والدول المجاورة الأرشمندريت بدروس مانويليان، وقد ذكر فيه أن الجالية الأرمنية لا يمكن أن تنسى إنسانية الكويت وكيف فتح شعبه الكريم قلوبهم لأبناء الجالية وأحاطوهم بكل محبة، وفي المقابل أحب الأرمن هذه الأرض وأهلها وكانوا أوفياء لهذا الوطن، شمروا عن سواعد الجِد فأسهموا في نهضته وشاركوا في تقدمه وعملوا على بنائه، ولفت إلى أنه تقديراً لما قدمته لهم هذه الأرض الطيبة ولما أحاطهم به شعب الكويت من دفء الرعاية والمودة الصادقة أصرّوا على أن يتعلم أبناؤهم اللغة العربية وأن يجري التدريس بها في مدرستهم، رغم ما في ذلك من مشقة للطلاب. ويذكر أن أول مدرسة أرمنية في الكويت افتتحت سنة 1960 وتبرّع لها رئيس دائرة المعارف آنذاك الشيخ عبد الله الجابر الصباح بمبلغ 5 آلاف روبية وهو مَن افتتحها.
وفي مقدمته الشارحة أوضح المؤلف أنه في سبيله لإصدار هذا الكتاب، بحث في عدة مصادر وراجع وقرأ الكثير من الكتب والموضوعات والأبحاث الأكاديمية والتقارير الصحفية ذات الصلة، وأنه أعطى الأولوية لتسجيل روايات من أبناء الجالية عن بدايات الهجرة وأسباب اختيار الكويت والأماكن التي سكنوا بها والمهن والوظائف التي عملوا بها، وذكر أن الموضعين أو الركيزتين اللتين يقوم عليهما الكتاب، والخاصتين بتاريخ المدرسة والكنيسة هما حجر الزاوية لتأطير أبناء الجالية من حيث التعليم أولاً ومن حيث الملتقى الروحي لهم ثانياً، ولفت أيضاً إلى أنه ابتعد عن الإطار السياسي لملف الأرمن وركّز على الجوانب الاجتماعية والحياتية وظروف الهجرات، وتطرَّق بشكل مركَّز وسريع إلى تاريخ العلاقة الدبلوماسية بين دولتي الكويت وأرمينيا من باب الإحاطة بالموضوع.

بدايات الأرمن في الكويت
يرصد الكتاب الوجود الأرمني بالكويت منذ عام 1778 وكيف انطلقت الهجرة في الأربعينات من القرن الماضي، ويذكر أن أوائل العائلات التي وصلت الكويت هي: زاكاريان، نجاريان، كركزيان، ويلاحظ أن الجالية الأرمنية في الكويت مجتمع متماسك ومنظم، ويقسم التواجد الأرمني فيها من الناحية الزمنية إلى مرحلتين: الأولى من الأربعينات إلى عام 1990، والثانية من التحرير (1991) إلى 2021، ويقدّر عدد الأرمن في عام 1958 بما يقارب الألف، وقد سجلت الجالية سنة 1980 رقماً قياسياً ببلوغ أفرادها 11 ألف أرمني، وقد كانت دوافع الهجرة بالدرجة الأولى البحث عن فرص عمل والسعي لتوفير ظروف معيشية أفضل، ولفت إلى أنه بقدر ما كانت الكويت مقصداً للأرمن خلال عقدي السبعينات والثمانينات، فإنها شهدت موجات من الهجرة العكسية باتجاه أميركا أولاً ودول أوروبية وكندا بحيث تناقص عددهم إلى نحو 7 آلاف أرمني وحتى 1990؛ وهي سنة الغزو العراقي، وقد انخفض العدد في السنوات الخمس التالية للتحرير إلى 4 آلاف، ثم ازداد إلى نحو 6 آلاف أرمني، ويعمل الغالبية العظمى منهم في مهن حرة ولا يغيب عنها الوظائف المتخصصة والفنية في قطاعات الطب والصحة وفي عالم المال والاستثمار والإدارة والبنوك، فكان سركيسيان من أوائل المصورين في الكويت، وكان هوفاكيميان هو أول طبيب أرمني في الكويت افتتح مختبراً لتحليل الدم ومُنح الجنسية الكويتية. ويذكر الكتاب أن الأرمني لم يكن يحتاج إلى كفيل لدخول الكويت، ويشير إلى أن الجالية الأرمنية ظلت محتفظة بخصوصيتها، حيث يندر زواج الأرمني أو الأرمنية من غيرهم.

الحرية الدينية
يذكر الكتاب أن الكويت تُعدّ نموذجاً فريداً ومتميزاً للتعايش المشترك بين الأديان، ويلفت إلى أن الكنيسة تلعب الدور المحوري في حياة الجالية الأرمنية؛ فهي مركز الحياة الاجتماعية وحافز لترسيخ الإيمان والانتماء والامتنان للكويت، فالكنائس هنا كما المساجد هي بيوت الله، يعبدون فيها الله الواحد، ويبين أنه في مسيرة الكنيسة الأرمنية الممتدة إلى عقد الستينات من القرن الماضي بقيت الكويت محل التقدير والاحترام، والأرمن شأنهم شأن الطوائف المسيحية الأخرى يتمتعون بحرّية كاملة في إقامة الصلوات، كذلك بيّن الكتاب أن المطران ماسيس يقيم في الكويت ويرعى أكثر من 20 ألف أرمني يتواجدون في منطقة الخليج العربي.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.