«في غرفة الكتابة».. تأملات حرة في النص الأدبي

يربط لحظة الإبداع بالموسيقى وخدع المسرح والسيرك

«في غرفة الكتابة».. تأملات حرة في النص الأدبي
TT

«في غرفة الكتابة».. تأملات حرة في النص الأدبي

«في غرفة الكتابة».. تأملات حرة في النص الأدبي

يطرح كتاب «في غرفة الكتابة»، الصادر عن دار الكرمة بالقاهرة للكاتب المصري محمد عبد النبي، عدداً من التأملات والخواطر والأفكار حول عمليات الإبداع الأدبي وما يتصل بها من عادات وطقوس وآليات وتفاعل نقدي.
في بداية الكتاب يشير المؤلف إلى أنه كثيراً ما يُسأل المؤلفون عن الوقت الذي قضوه لإنجاز عملٍ ما، ويجيب بعضهم إجابة واضحة على وجه التحديد أو التقريب، والبعض الآخر يتملص من الإجابة مؤكداً أنه لا يعرف حقاً. وتكمن الصعوبة في مراوغة المقياس الزمني نفسه عندما نتحدث عن نشاط زئبقي مثل الكتابة، فقد يكون الوقت الفعلي لكتابة إحدى الصفحات ساعة أو أقل، لكن يبقى السؤال: هل كُتبت حقاً في هذه الفترة الزمنية فقط؟ هل زمن الكتابة هو مدة مرور القلم على الورق أو النقر على لوحة المفاتيح وحسب، أم أنه أوسع وأشمل من هذا؟ ثم ماذا عن أوقات التأمل والشرود مع الفكرة وملاحقة العبارات في ثنايا الحياة اليومية للكاتب بأنشطتها المتباينة؟ وماذا عن وقت التحرير وإعادة الصياغة بكل ما تقتضيه من قص ولصق وتعديل وضبط النبرة وتدقيق المفردات وتنعيم الحواف؟
ويذكر أن أغلب المهن الأخرى لا تتعلق بممارسيها على هذا النحو، فهم يتركونها في أماكن العمل ويرجعون إلى حياتهم، ومن ثم يمكننا تحديد مقدار ما لزمهم لإنجاز مهمةٍ ما. تختلف الحسابات مع أنشطة الخلق والإبداع، وخصوصاً الكتابة؛ فهي وظيفة بدوام كلي متواصل على مدار الساعة في الليل والنهار، في النوم واليقظة، في الوحدة أو مع الآخرين، في الضجيج أو الصمت أو أمام شاشات التلفزيون كأن جنيًّا صغيراً داخل كل كاتب يعكف على العمل من دون فترات راحة، يصيد الأفكار ويطور قِطعاً غير مكتملة ويزِن الاحتمالات ويختار من بين عشرات الطرق المتقاطعة، يتخيل ويلعب ويشكل، أما وقت إنتاج النص نفسه فليس إلا وقت عرض المسرحية على الجمهور، لكنه ليس أبداً وقت التحضير لها والعمل على البروفات والإضاءة والأزياء والحركة إلى آخِر المهامّ الضرورية.
وعن تداخل الوهم والحقيقة، يستشهد المؤلف برسائل الروائي العالمي ماريو بارغارس يوسا «إلى روائي ناشئ»، إذ يتعرض لمسألة الإيهام بالواقع، فكل تخييل بحكم تعريفه مجرد خداع، لا هو واقع ولا هو حقيقي، وإن كان عليه أن يوحي بأنه كذلك! وكل رواية هي كذبة تتظاهر بأنها حقيقة، إنها اختلاق تتوقف قوة إقناعه فقط على الاستخدام الفعال من قِبل الروائي لتقنيات إيهامية وشعوذات شبيهة بخُدع سحَرة السيرك والمسرح فكأننا نصير أقدر على نقل ما يسمى الحقيقة كلما أتقنّا آليات الكذب وبقدر تمرسنا في شعوذات السحرة، يمكننا إعادة صنع الواقع كما نراه أو كما نريده أو كما تصوِّره شطحات أوهامنا.
ومن غير لعبة الإيهام بالواقع هذه، فقد لا يتورط الروائي نفسه في عالمه، فضلاً عن قارئه من بعده، فجانب من لعبة التصديق ينبع من منطقة غامضة في الضمير أو الوعي لدى المؤلف، منطقة قد يكون معيارها الوحيد أحياناً هو مدى إيمان الكاتب بما يكتبه بقدر تصديقه لكذبته الخاصة، وهل هذه الحكاية حكايته حقاً. بالطبع ليس بمعنى أنها تعكس حقائقه الشخصية وسيرة أيامه، بل حكايته باعتبارها قادرة على أن تعكس أسئلته المُلحّة، وأوجاعه وهواجسه وأشواقه وطموح روحه.
وحول العلاقة بين الموسيقى والنص الأدبي، يلاحظ محمد عبد النبي أنه من الصعب أن نعثر على كاتب كبير أعلن نفوره من الموسيقى، أو حتى عدم استمتاعه بها، العكس هو الغالب فإن لم يكن الأديب ملماً بأحد الألوان الموسيقية كمستمع محنَّك، فعلى الأٌقل سيكون شغوفاً بها كمثلٍ أعلى للجمال المجرد وثراء البنية والتركيب. حرص نجيب محفوظ على دراسة الموسيقى العربية وتعلَّم العزف على آلة القانون حتى أتقنه، وكان الروائي التشيكي ميلان كونديرا قادراً على تأمل تطور الرواية الأوروبية من زاوية ارتباطها بتاريخ الموسيقى الكلاسيكية، ولعلّه كتب بعض راوياته وفي ذهنه بناء موسيقي محدد، كما أعلن ماركيز ذات مرة عن طموحه في أن يكتب إحدى رواياته وكأنها قطعة من موسيقى «البوليرو».
ويوضح الكتاب أنه إذا كان الإيقاع في الموسيقى مسألة صوتية صِرفة، ففي المقابل يتصل الإيقاع في الكتابة بالمفردات وهي كائنات بصرية وصوتية معاً ومشحونة بالدلالات والمعاني. نراها صوراً ونسمعها نغماً، بينما نترجمها أفكاراً في اللحظة نفسها. في هذه العملية نستشعر عندئذ مدى تدفق الكلمات على الصفحة وطبيعة العلاقات بين كل مفردة وأخرى، ثم بين العبارات والجمل والفقرات. من هنا يكتسب النص إيقاعه الخاص، سواء كان المؤلف على وعي به، أم لم يكن. وكما اكتسبت حاسة السمع لديه مزيداً من الرهافة ودقة التمييز والتذوق، استطاع أن يعزف قطعته الخاصة منتبهاً لطبيعة اللحن الخاص بها وضروراته وواعياً بخصوصية المادة التي يشتغل عليها؛ أي اللغة.
يُذكر أن محمد عبد النبي روائي وقاصّ، وتُعدّ روايته «في غرفة العنكبوت» أهم أعماله، حيث وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة «البوكر» العالمية، كما نالت جائزة المعهد العربي بباريس للأدب العربي المترجم إلى الفرنسية.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.