شاشات: الجمهور على حق.. المسلسلات عليها حق

* سيسيل ب. ديميل، مخرج الملاحم التاريخية والدينية قبل ستينات القرن الماضي، كان أول مخرج معروف يصرّح بأن على السينما أن تتبع هوى الجمهور. في مقالة كتبها بنفسه ونشرتها المجلة النسائية «لاديز هوم جورنال» في سبتمبر (أيلول) 1927، قال: «الجمهور دائما على حق»، ثم فنّد ما يعنيه في نحو 2000 كلمة. مفاد ما كتب أنه على الرغم من أن أي مخرج لديه الحق في أن يصنع فيلما مختلفا عن أعماله السابقة، ولو بعد حين على بدئه الإخراج، فإن الحكم على نجاحه سيبقى ملكا للمشاهدين دافعي ثمن التذاكر المشتراة.
ويجد المخرج ديميل الطريق للحديث عن تجربته في العمل، وكيف تطابقت، على نحو أو آخر، مع قناعته بأن «الجمهور دائما على حق».
* ستجد العديد من المخرجين الذين يعملون في السينما والمسرح والتلفزيون اليوم يوافقون على هذا الرأي الذي هو ليس مصيبا أو خاطئا في حد ذاته، بقدر ما هو قانون العرض والطلب الطبيعي في حياة الدول التي تمتلك أسواقا مفتوحة. في مقابلها، الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للدول التي عاشت حياتها وراء ذلك الستار الحديدي منذ الثورة الشيوعية، فلم يعد الجمهور هو صاحب الحق، بل احتل مكانه الحزب الحاكم في كل تلك الدول التي رزحت تحت ذلك النظام، فوجدت أن عليها هي أن تنتج ما على الجمهور أن يتقبّله أحبه أو لم يحبه. بذلك بات «الحزب دائما على حق».
* خلال فترة صعود الفيلم المصري ساد مفهوم مواز لما ذكره ديميل في مقاله مفاده أن «الجمهور عاوز كده»، ذلك في مقابل رفض المثقفين والمخرجين المختلفين لهذه المقولة واعتبارها سببا من أسباب رداءة المستوى الفني. لكن مفهوم «الجمهور عاوز كده» ليس ذاته المعبّر عنه بأن «الجمهور دائما على حق». يختلف عنه من حيث دلالاته فهو يدّعي أكثر مما يدرك. يفترض أكثر مما يدرس الواقع والحقيقة. حتى مفهوم «الجمهور دائما على حق» فيه ثغرات مهمّة بحيث لا يمكن اعتباره قانونا فعليا إلا من حيث أنه يخدم السائد من الأعمال الفنية. الأعمال الأخرى، الأقل سيادة، لديها نظريّتها المحقة أيضا التي يمكن الدفاع عنها في الوقت ذاته.
* كل ذلك وسواه مر بمخيّلتي وأنا أشاهد مسلسلا وراء آخر يطل من محطاتنا التلفزيونية. معظمها اتبع قانون الجمهور وبعضها حاول الفكاك وتقديم ما يمكن أن يثير الشخصي والخاص ولو على نحو متواز مع المطلب الجماهيري بالترفيه ومتعة متابعة الحكاية وممثليها. المستويات تختلف بالطبع، لكن وضع الجمهور نصب عيني المنتجين وصانعي البرامج هو السائد، وعلى نحو مفهوم. السؤال هو: لم لا يكون الإنتاج، في الوقت ذاته، جيّدا في كل نواحيه؟ سيسيل ب. ديميل، جون فورد، ألفريد هيتشكوك، هوارد هوكس، وسواهم كثير ممن آمنوا بأن الجمهور دائما على حق، قدّموا أفلامهم الجماهيرية بقدرات فنية رائعة. ما المشكلة؟
* ثلاث دقائق ونصف هي ما استطعت تحمّله من مسلسل «الكبير أوي» في موسمه الخامس. ما إن يطالعك ممثله الأول أحمد مكي بسترته الصفراء وطريقة كلامه ثم بعبارته الأولى، حتى تدرك، إذا لم تكن شاهدته من قبل، مستوى العمل ككل. ينضم المسلسل إلى قافلة الكوميديا التي تعتمد على شخصيات متكلّفة تُمنح طريقة أداء أو طريقة كلام أو عادة ما لكي تتميّز بها. هذا يتأتئ، وهذا يزعق والثالث أبله والرابع يحك جسمه طوال الوقت، وكل هذا في سبيل تقديم حركة يتميّز بها المشخصاتي أو يعتقد ذلك.
* المفهوم ذاته من أيام إسماعيل ياسين وسواه (رحمهم الله) لم يتغيّر. هو يتكرر في كل نتاج كوميدي من دون مواكبة حتى لمستوى الجمهور الحالي. هذه الكوميديات، وهي كثيرة من إنتاجات مختلفة المواطن والهويات، ما زالت تؤمن بأن النصيب الأكبر من المشاهدين هو ذلك الذي يقرن الكوميديا بالتهريج ويقبل المواقف الساذجة ويضحك لها. هذا الجمهور المشكوك في رجاحة عقله ومستوى تفكيره لا أراه مقبلا على هذه المسلسلات الكوميدية كما لو أنه هدايا توزع مجانا. هذا من دون أن نتحدث عن جمهور المثقفين وذوي الخبرات العلمية والمؤهلات المتقدّمة، بل عن ذلك الجمهور العائلي الذي يجلس في البيت بعد الإفطار ليشاهد المسلسلات المعروضة عليه. ليس هناك من إحصاء واحد قرأته هذا العام أو في العامين السابقين ذكر أن مثل هذه البرامج لديها أسبقية على البرامج الجادة.
* أزمة المسلسلات الكوميدية مثل «كل إشي إلو إشي» و«لما تامر ساب شوقية» و«يوميات زوجة مفروسة أوي» و«الكبير أوي 5» وسواها، هي أنه في الوقت الذي يمكن فيه القبول بنظرية أن «الجمهور دائما على حق» ليس مقبولا القول بنظرية «الجمهور عاوز كده» لأن التجارب أثبتت أن «الجمهور مش عاوز كده».
* الممثل أحمد بدير يصل إلى مستوى جيّد في «أستاذ ورئيس قسم» لا يعتمد فيه على حركات الهرج والمرج بل على الشخصية التي يزرعها فيه ويمارسها بطلاقة. مشاهده في ذلك المسلسل من بين أفضل ما في المسلسل أساسا.
في الحلقة الأخيرة المشاهدة ما زال يكن الضغينة للأستاذ فوزي الذي كان انتقل من التدريس إلى الوزارة والآن أصبح، بعد فترة قصيرة، وزيرا سابقا ومطلوبا من العدالة. عادل إمام في ذلك الدور، وكما سبق القول، كان يحتاج لأن يتدارس طريقة جديدة لأداء شخصية ليست في الأساس كوميدية. لكنه مارس الدراما فيها كممارسته الكوميديا تماما. لذلك تأتي تلك المشاهد التي يعبّر فيها عن موقف ما حيال مشكلة يتعرّض إليها كما لو كانت نكتة مكتومة. حين يكتشف أن مستنداته مزوّرة ليس من بين مفردات التعبير ما هو مناسب لما يمكن أن يكون ألما أو شعورا بالخطر أو الغضب.
* هذه فرص ضائعة لتسجيل الأهداف المنتظرة من كوميدي له وقع محبب وصدى ما زال طيّـبا لدى فئات كثيرة. تماما كتلك الفرصة الضائعة أمام المسلسل ذاته. بعد 23 حلقة يجد المرء أن «أستاذ ورئيس قسم» ما زال لا يقول الكثير في أي صدد، وأن الكثير من المشاهد ما زالت، كما ذكرت ذات حلقة، مجرد تصوير.