محمود مختار... أعاد للنحت روعة أجداده الفراعنة

فصول من «عبقريته» في كتاب للمصري ماهر حسن

محمود مختار... أعاد للنحت روعة أجداده الفراعنة
TT

محمود مختار... أعاد للنحت روعة أجداده الفراعنة

محمود مختار... أعاد للنحت روعة أجداده الفراعنة

يعد محمود مختار الأب الروحي المؤسس لفن النحت المصري الحديث، فبرغم حياته القصيرة العاصفة، التي لم تتجاوز 43 عاما ترك إرثا من الجمال وضعه في مصاف النحاتين الخالدين في العالم. فقد أعاد للنحت روعة أجداده الفراعنة.
عاش محمود مختار (1891 - 1934) طفولة قروية قاسية بإحدى قرى محافظة الغربية بدلتا مصر، لم تخل من الشعور بالوحدة والقسوة، لكن تأمله لصفحة الماء في الترعة، ولعبه بعجائن الطين على شاطئها فجر في داخله إحساسا عارما بفن النحت، الذي شدّ به قلوب المصريين وهو يصنع بأنامله الذهبية أشهر تماثيل البلاد في العصر الحديث «نهضة مصر» وتلتف حوله الأمة بكافة طوائفها لتموِّل المشروع، فضلا عن تمثاليه الشهيرين بالقاهرة والإسكندرية للزعيم الوطني سعد زغلول.
قصة مختار وعبقريته يتناولها الكاتب الصحفي ماهر حسن في كتابه «محمود مختار» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة «ذاكرة الفنون».
حين استقر الصبي مختار في القاهرة حيث تعيش أمه، عرف روح الأصالة والترابط الحميم في الحارة الشعبية و«حوش الشرقاوي»، حيث مجموعة من البيوت تسكنها أسر متوسطة الحال. كانت البلاد وقتها تموج ببشائر النهضة الشاملة، فيما يشبه الصحوة. وكانت الظروف السياسية تحمل إرهاصات عصر جديد تتألق فيه الوطنية المصرية قبل أن تنطلق ثورة 1919 لترسخ الهوية الوطنية.
في عام 1908 افتتح الأمير يوسف كمال عاشق الفن مدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز بالقاهرة، ما مثّل طوق النجاة لهذه الموهبة ولغيرها من الرعيل الأول من التشكيليين المصريين.
في البدء التحق بالمدرسة خليط عجيب متفاوت السن والقدرات من سكان القاهرة، تلقتهم المدرسة بكرم وفتحت لهم أبوابها، ولكن الأساتذة «لابلا» و«فورشيلا» و«بيرون» استطاعوا أن يلتقطوا أشعة المواهب التائهة، وبقي أكثر من مائة طالب بينهم فئة كان يلوح منها النبوغ، وهؤلاء لقوا الأيدي التي رعتهم وكشفت عن مواهبهم، ومن هذه القلة النادرة محمود مختار ومحمد حسن ويوسف كامل وراغب عياد. ولم تمر ستة أشهر حتى تأكد لأستاذه ما توقعه منه عند اللقاء الأول، وأدرك أنه أمام عبقرية خاصة. تأكد من ذلك حين تمكن من إعادة نحت «تمثال دوسكوبل» في ساعات قليلة، وحين أعاد نموذجا من تمثال «فينوس ميلو» دون معاونة أو إرشاد، وحين أتم بعض التماثيل من وحي فكره وإحساسه الخاص، وحين ألح في المطالبة بمرسم خاص له في المدرسة ليعد فيه تماثيله أجيب طلبه، إذ أدرك الجميع أن مواهبه تأبى البقاء في حدود الخطى التعليمية التقليدية، وتود أن تنطلق نحو آفاق أخرى.
لقد اتخذ من المرسم صومعة يقضي فيها ساعات النهار وجانبا من الليل لا تقيده مواعيد المدرس، ولا يستجيب إلا لما يفور في مشاعره، وافتقد الحي وبدأ رفاقه يلمسون التحول الذي طرأ على نفسه، ويعجبون له في ملابسه الجديدة وشعره المنسدل وانطوائه الغريب.
في 1910 أقامت المدرسة تحت رعاية مؤسسها الأمير يوسف كمال أول معرض لأعمال الطلبة بـ«كلوب محمد علي» بشارع المدابغ، حيث استحوذت أعمال مختار على اهتمام الجميع. ومن هنا كان قرار الأمير بأن يبعثه إلى باريس لإتمام دراسته.
في مدرسة الفنون الجميلة بباريس «بوزار ديباري» كان أستاذته يقدرون مدى نبوغه، وكان له مرسم يمارس فيه فنه في شارع «فرنسوا جلبير». واللافت أنه عاصر في فرنسا ثلاثة من كبار الكتاب والمفكرين المصريين كانوا موفدين للدراسة هناك: طه حسين، ومصطفى عبد الرازق، ومحمد حسين هيكل. نحت مختار تماثيله الثلاثة لخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب وطارق بن زياد، كما عاصر في فرنسا أيضا مثالها الرائد «رودان»، وزاره وتردد على مرسمه وتعلم منه الكثير، وكان النقاد الفرنسيون يعتبرون مختار ندا لكل من «أرستيد مايو» 1861 - 1944 و«أنطوان بورديل» 1861- 1929. وعاصر أيضا مولد المدارس الفنية الحديثة، الأكثر صرامة سواء في النحت أو في التصوير، ففي عام 1910 اكتشف «فاسيلي كاندنسكي» المدرسة التجريدية والعلاقات الخالصة، وقبلها كان «بيكاسو» قد صور لوحته «فتيات الأفيون » 1907 وفيها أرسى قواعد المدرسة التكعيبية.
كان مختار قد قارب على الانتهاء من النموذج الصغير لتمثال «نهضة مصر» عند إقامة الوفد المصري في باريس الذي كان يجوب عواصم العالم للدعوة لاستقلال مصر للقضية المصرية. وشاهد أعضاء الوفد نحت مختار وتمثاله المصغر فأدركوا بحسهم القومي أهمية هذا الفنان وتمثاله العظيم بالنسبة لقضية التحرر الوطني. وتم قبول التمثال المصغر الذي نفذه مختار من الرخام للمشاركة في معرض صالون باريس الدولي مع مثالين ومصورين من خيرة فناني العالم، وكان تقدير نقاد العالم هو أحد العوامل التي أشعلت روح الحماس في الشعب المصري للاكتتاب لتمويل إقامة النسخة الكبرى من التمثال خاصة بعد ما نشرته كبرى الصحف الفرنسية الشهيرة وأشادت به.
كان الانتصار الكبير بفوز محمود مختار بالميدالية الذهبية للمعرض متفوقا على كافة فناني العالم ومثاليه، وكتبت مجلة الفنون الجميلة في فرنسا تقول: «تقدم رجل مصري من أهل الفن هو محمود مختار بتمثاله (نهضة مصر) إلى معرض الفن الفرنسي، صالون باريس، ويدل هذا التمثال الجميل الذي يأخذ جماله ووقاره بالعقول على ما لصانعه من مقدرة فنية عظيمة، كما يدل على سمو فكره وجمال تخيله، ولا يجوز الاكتفاء باعتبار هذا التمثال مظهرا بديعا من مناظر الفن، وإنما هو في الحقيقة الرمز المتوقع لأماني أمة تريد أن تسترد في العالم ذلك المكان الرفيع الذي يؤهلها له تاريخها المجيد وموقعها الجغرافي».
ويقول ماهر حسن: «ليس من الإنصاف والمنطقي اختزال سيرة ومسيرة وعطاء الفنان الرائد محمود مختار في عملين أو ثلاثة من أعماله، فهو صاحب بصمة رائدة في فن النحت بعد أفول طويل، كما أن له عطاءً غزيراً وغنياً ومتنوعاً يعكس الهوية المصرية. لقد كان له ولع خاص بالفلاحة والمرأة الريفية، حيث جسدها في أعمال كثيرة منها (العودة إلى النهر)، (بائعة الجبن)، (على شاطئ الترعة)».
أما تمثال «الفلاحة» وهو منحوت من الرخام ويبلغ ارتفاعه 74 سم فقد تحققت فيه المتعلقة بالسمو واستقامة الخطوط واتجاهها إلى أعلى، كما توصل إلى حلول جمالية شكلية للتغلب على كتلة الملابس الفضفاضة التي لا تشف ولا تضيق حتى تظهر تمايل الجسم. وهذه الحلول توصل إليها عن طريق حركة اليدين خلف هذه الملابس ليتوصل الفنان عن طريق تتابع طبقات الرداء إلى مستويات وتضليعات تقترب من الأعمدة، وفي نفس الوقت أبرزت ما ينشده الفنان من حيوية الشكل مع الإحساس بالسمو والعظمة فهي ليست مجرد فلاحة، لكنها رمز لمصر في عظمتها وزهوها وثباتها.
ويعد تمثال «حاملة الجرة» المنحوت من البرونز، ويبلغ ارتفاعه 84 سم واحدا من أشهر تماثيل مختار وأحبها إلى قلوب عشاق فنه، فقد جمع فيه بين التعبير بالرمز عن مصر الزراعية ورمز الأمومة وربة الأسرة ونموذج العمل ونبع الحياة، كما أنه يعبر عن الأنوثة المكتملة الناضجة ولكنها ليست أنوثة غرائزية، بل معتدة بنفسها، فخورة باكتمال نضجها، محتشمة رغم أنها تتفجر حيوية وحياة.



«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر
TT

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

عن دار «العربي» للنشر في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «المغفلون» للكاتب الفرنسي إريك نويوف، ترجمة لطفي السيد منصور. ويشير المترجم في تقديمه لها إلى أنه في أحد حوارات ميلان كونديرا الذي يعدِّد فيه أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، أكد أن «رواية الرسائل»، التي تعتمد في بنيتها على الرسالة، أتاحت حرية شكلية كبيرة للغاية لأن الرسالة يمكنها استيعاب كل شيء بشكل طبيعي جداً مثل التأملات والاعترافات والذكريات والتحليلات السياسية والأدبية. ويعتقد المترجم أنه من أجل هذه الحرية واستيعاب موجة غضب الراوي الذي سُرقت منه حبيبته وذاكرته الغاضبة المرتبكة، اختار المؤلف شكل الرسالة ليبني عليها معمار روايته.

وتعد الرواية رسالة طويلة يوجهها بطلها الراوي الشاب ذو الأعوام الثلاثين ويعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق حبيبته المثيرة والمتقلبة «مود» والذي قابله في أثناء قضاء الأخير عطلة في جزيرة قبالة مدينة روما. في البداية لم يكشف الرجل عن هويته الحقيقية لكن فيما بعد اكتشف أنه سيباستيان بروكينجر (كاتب أمريكي شهير، منسحب من الحياة العامة و قرر الاختفاء من العالم والإقامة في غابة ليعيش حياة وديعة بعيدة عن صخب الشهرة).

تبدو القصة العامة هنا مجرد حيلة فنية استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم وهل نعيش عصراً يتآمر علينا، وكيف أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكّننا ولا يمكّن الآخرين من التأمل فيها وفهمها. والرواية إجمالاً قصيرة، كُتبت برشاقة وتكثيف، تتخللها أقوال مأثورة فاتنة ومخيِّبة للآمال، كما تختلط فيها المشاعر باللامبالاة، في إيقاع سردي لاهث حاد اللهجة، يتسم أحياناً بالتشنج والعصبية؛ فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وذاكرته وما يتوارد إليها.

نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ فالحبيب يعمل في الدعاية والإعلان، تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء حتى الشيء وضده، وتُقنعك بأن تشتري ما لا تحتاج إليه. والحبيبة التي سُرقت منه تعمل في تسويق العقارات، وهو مجال مشابه يقوم على مبدأ البيع بأي طريقة. أما الكاتب الأمريكي الغني، فقد استطاع بحكم مهنته أن يبهر «مود» بماله وممتلكاته وهالته الملغزة، هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يُغري الفتاة بشراء رجل عجوز وترك شاب ثلاثيني.

وإريك نويوف، كاتب وصحفي فرنسي وُلد 1956، بدأ مشواره الأدبي 1980 وكتب نحو 20 عملاً أدبياً منها هذه الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في 2001 و فازت بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«عندما أفكر ثانيةً في مود أتذكر شارع ميزيير، أرى سيارتها الصغيرة في جراج السكان بملصقها الأصفر على الزجاج الأمامي وساعتها التي كانت تؤخِّرها ساعةً كل صيف. أفكر في الأطفال الذين لم نلدهم والذين كانوا سيلعبون في حديقة لوكسمبورغ القريبة جداً. مود، لو سمحتِ توقفي عن النظر من فوق كتف سيباستيان، أعرفك... اتركينا لو سمحتِ، نحن في جلسة تقتصر على الرجال فقط. سيحكي لكِ سيباستيان كل هذا بالتفصيل بمجرد الانتهاء منها. قلْ لها يا سيباستيان، فلتذهبي لتُنزِّهي الكلب العجوز الذي ينام عند قدميكِ وأنتِ تكتبين على الآلة الكاتبة.

أعرف أنكَ ولدتَ يا عزيزي عام 1929، شيء من هذا القبيل. تلاعبت بكل سجلاتك في مدرسة الليسيه التي كنت ترتادها. رفض المدير أن يزوِّدنا بأي معلومات تخصك، سجلك العسكري أيضاً يتعذر الوصول إليه على نحو غامض. احترق المكتب الذي كان يحويه، لم يعد هناك أي أثر لملفك الجامعي. نشرت أولى قصصك في صحيفة الطلبة، فيما كنت بالكاد في العشرين من العمر، قصة عن الانتحار وعن سمك القراميط. في فترة ما كنت تعمل على مركب يُبحر في عرض الكاريبي، كانت الكبائن ممتلئة بالمتقاعدين الذين يرتدون شورتات قصيرة ولا يغادر نصفهم حافة المرسى. كان من المفترض أن تكون المرشد الخاص بهم، هناك لغز ما في ذلك في رأيي، من الواضح جداً أنك تمسكت بهذه الوظيفة لتحقق بسببها نتائج جيدة في سيرتك الذاتية».