لواء «الزينبيون».. والمجال الحيوي الإيراني الجديد

الوجه الآخر لاستقطاب المقاتلين الأجانب من حول العالم إلى الميليشيات الشيعية

لواء «الزينبيون».. والمجال الحيوي الإيراني الجديد
TT

لواء «الزينبيون».. والمجال الحيوي الإيراني الجديد

لواء «الزينبيون».. والمجال الحيوي الإيراني الجديد

طرحت الثورة السورية عدة إشكالات تتعلق بالدور الإيراني المتزايد في تكوين وتدريب الميليشيات الطائفية وإدماجها في نظام الفوضى المسلحة القائمة هناك؛ وفي الوقت الذي يجري التركيز على «داعش» واستقطابه للأجانب يظهر أن هناك نوعا من غض الطرف من جانب الإعلام العالمي، وتقارير الأجهزة الأمنية للدول الكبرى فيما يخص تجنيد إيران شيعة العالم، وإشراكهم في الحرب الدولية المندلعة في سوريا.
ورغم أن هناك تناولا عابرًا لميليشيا «الحشد الشعبي»، فرضه مجموع جرائمها المنظمة في العراق بحق المدنيين؛ فإن الوضع يختلف عندما ننتقل للجانب السوري، ودور الميليشيات الشيعية غير المنتمية لحزب الله اللبناني في المعارك بين الأسد وقوى المعارضة. ومن هنا نرى أن تسليط الضوء على لواء «الزينبيون»، يأتي في سياق يتجاوز تكوين لواء «حيدر الكرار» من طرف الحرس الثوري الإيراني، منتصف العام 2014م، بعضوية طلبة باكستانيين يدرسون في إيران؛ ليساهم في كشف جزء من حقيقة المعركة الطائفية الدائرة في سوريا حاليًا، كما يظهر طبيعة الاستراتيجية الإيرانية القائمة على استغلال التشيع لأغراض عسكرية وفق منظور استراتيجي لا يخلو من نزوع للتوسع والهيمنة الإقليمية.
لقد ظهرت قضية لواء «الزينبيون» بشكل «بارز» إعلاميًا أواخر مايو (أيار) 2015 على إثر نشر شريط مسجل لوكالة الأناضول للأنباء، ويظهر فيه مقاتلون باكستانيون شيعة يحاربون إلى جانب النظام السوري، ويعلنون انتماءهم لهذا اللواء. وكانت الصحافة الإيرانية قد اعترفت في أبريل (نيسان) الماضي بمقتل نحو 200 مقاتل باكستاني وأفغاني، خلال مشاركتهم في القتال داخل سوريا إلى جانب قوات النظام. وما زالت تتوالى جنازات الباكستانيين الذين سقطوا قتلى في معارك سوريا.
ومعلوم أنه منذ بداية هذه السنة - 2015م - شهدت سوريا تحولات مهمة فيما يخص تقدم المعارضة مما جعل إيران تولي مزيدا من الاهتمام لجلب الشيعة الباكستانيين ودمجهم في لواء موحد. يظهر أن لواء «الزينبيون» يتكون من مئات الشباب الباكستانيين الشيعة من أبناء غرب باكستان خاصة القبيلتين «توري» و«بنجش»؛ ومن غير المستبعد أن يضم اللواء كذلك شباب طائفة الهزارة الشيعية الأفغانية. وذلك راجع أولاً- لطبيعة العمل التشبيكي الذي يعتمده الحرس الثوري الإيراني في إدارته للمعركة الشاملة التي يخوضها في منطقة الشرق الأوسط؛ وثانيًا لنجاح إيران في تكوين لواء «الفاطميون» من مجندين أفغان من الهزارة، وهي مجموعة سكانية من أصول مغولية تتركز في وسط أفغانستان ولها امتدادات في باكستان وتتكلم الفارسية إلى جانب لغة محلية، كما تنتمي فقهيا للمذهب الإثني عشري.
هذه المناطق في باكستان وأفغانستان تعاني من صعوبات اقتصادية واجتماعية، ما يدفع الشباب للبحث عن طرق مختلفة للخروج من دائرة الفقر والتهميش وإيجاد سبل جديدة للعيش الكريم. وشيء من هذا توفره إيران للمقاتلين في لواء «الزينبيون» الذي يقاتلون مقابل مبالغ مالية مهمة إذا ما قورنت بالأجور المعمول بها في مناطقهم الأصلية.
ومن جهة أخرى، استطاعت إيران خلال العقدين الماضيين بناء نفوذ حقيقي في هذه المناطق، شهد توسعًا سريعًا بعد 2003م. ولقد تحوّل هذا النفوذ إلى نوع من الشراكة بين هذه المناطق القبلية والحرس الثوري الإيراني، يظهر من خلال اتخاذ الشراكة بعدا خطيرا يتمثل في توفير إيران للسلاح والتدريب لهذه المناطق القبلية الشيعية، في استغلال واضح للهجمات المتكررة على الحسينيات الإمامية في عدة مدن كبيشاور، وكذلك مناطق شمال وغرب باكستان، التي تقف وراءها حركة «طلبان باكستان» وجماعة «جيش الإسلام» ومجموعات أخرى مسلحة صغيرة لها منطلقات طائفية. ثم إن الشيعة في باكستان يشعرون أن تنظيم داعش أصبح يهددهم في بلدهم، وأن القضاء عليه يستلزم خوض معركة مقدسة، في مركز ولادته ومقره في سوريا والعراق.
ويظهر أن إيران لن تقف عند هذا الحد في دعمها لشيعة الدول المجاورة لها وجوار الجوار، فانسجاما مع استراتيجية شدّ الأطراف الطائفية بالمركز الإيراني، وفق خريطة المجال «الحيوي الإيراني الجديد»؛ يسعى البرلمان لتعديل «المادة 980» من القانون المدني الخاصة بالجنسية، بحيث تمنح الجنسية الإيرانية للأشخاص «الذين يقدمون المنفعة، ويعملون لأجل إيران». وهذه، بالمناسبة، استراتيجية قديمة استعملت مع منظمة بدر العراقية التي يحمل جل قادتها الجنسية الإيرانية منذ ثمانينات القرن العشرين.
ويبدو أن هذه الجهود الإيرانية باتت تثير حفيظة بعض المؤسسات الباكستانية، إذ أصدر مجلس علماء باكستان بيانًا بتاريخ 23 - 06 - 2015، يرفض فيه تجنيد الشباب الباكستاني للقتال في صفوف الميليشيات الداعمة للنظام السوري «بدعم وتجنيد وتمويل إيراني». وطالب الحكومة الباكستانية بالتدخل العاجل لوقف هذه العملية. ومن جهتها ترفض الحكومة الباكستانية تسلُّم جثث المقتولين من لواء «الزينبيون» ما يدفع الحرس الثوري إلى دفنهم في قُم وغيرها من المدن الإيرانية.
«الزينيبون» والسياق الإقليمي وأهدافه
يبدو أن توسيع دائرة التسليح والحشد الشعبي من داخل باكستان يحقق لإيران ثلاثة أهداف مركزية:
أولاً: يتجاوز تثبيت النفوذ الإيراني وتوسيعه داخل الطائفة الشيعية الباكستانية، ونقل الولاء من مجرد تقاطعات عقدية تكتنفها اختلافات فقهية مذهبية، إلى ربط مصير المكوّن الشيعي الباكستاني بطهران باعتبارها المركز والمرجعية الأعلى دينيًا، عبر ولاية الفقيه، وما تمثله من انتماء يتجاوز الجغرافية البلدانية، ويمنح الأولوية للمذهب ومقتضياته السياسية.
ثانيًا: تسعى إيران لتجاوز صعوباتها العملية في الحرب الإقليمية الشاملة التي تخوضها في عدة بلدان بالشرق الأوسط؛ فقد أدت شساعة رقعة الحرب القائمة حاليا لنوع من الاستنزاف للموارد الإيرانية بشريًا وماديا. فلم يعد حزب الله اللبناني قادرًا على خلق التوازن الحقيقي للقوى مع المعارضة السورية، كما أنه مصدر محدود من حيث عدد المقاتلين. وهذا ما يفسر خسارة نظام الأسد مدينتي إدلب وجسر الشغور وسيطرة المعارضة عليهما، إلى جانب سقوط مدينة تدمر في أيدي تنظيم داعش الإرهابي. وعي إيران هذه الإشكالية دفعها إلى التقارب مع شيعة العالم رغم بعض الاختلافات الفقهية والسياسية الحاصلة مع نموذجها.
ثالثًا: تهدف إيران وفق استراتيجية الحرس الثوري إلى خلق جيوب حقيقية لمنظمة «الباسيج» في دول الجوار وجوار الجوار؛ وهذا يعني تكوين وإعداد «ميليشيات» غير إيرانية الجنسية، لكنها موالية عقديًا وعسكريًا للولي الفقيه. ومن أجل ذلك فإن إشراك «الزينبيون» في الحرب السورية لا يحقق فقط الهدف القريب المدى المتمثل في الدفاع عن نظام بشار الأسد؛ بل يحقق أيضًا هدفًا استراتيجيًا آخر هو إعادة التموضع داخل المشهد الباكستاني حيث يشكل الشيعة نحو 20 في المائة من السكان البالغ عددهم 180 مليونا، والذي يشهد منذ عقود عنفًا مسلحًا بمبررات بعضها طائفي. وهكذا فإن إيران بهذه الاستراتيجية الجديدة ستزيد من وتيرة الاضطرابات الأمنية وتفاقم التطاحنات الدينية؛ وهذا وضع تدرك طهران أنه سيدفع للاحتماء بالطائفية، وهنا تبرز العناصر المدربة عسكريًا والموالية للحرس الثوري للعمل داخل الأراضي الباكستانية باسم الدفاع عن شيعة البلد ضد «الإرهاب السني».
إن تجربة حزب الله اللبناني، ومنظمة بدر العراقية التي أنشأتها إيران منذ العام 1982. وما لعبته هذه الأخيرة من دور فعال في الحرب العراقية – الإيرانية لصالح إيران، يبرز قدرة إيران على إقناع جزء هام من الشيعة لحمل السلاح ضد بلدانهم، وفق أجندة دينية وسياسية تتقاطع مع منظومتهم الفقهية المحلية. ورغم أن الغالبية الكبرى من العراقيين لا يتبنون ولاية الفقيه، فإن العلاقة بينهم وبين النظام الإيراني بات ينظر إليها اليوم طائفيًا باعتبار أن بين البلدين مصيرًا مشتركًا.
صحيح أن الغزو الأميركي للعراق عام 2003م كان سببا جوهريًا في الموضوع، إلا أن الدور الذي لعبته وتلعبه منظمة بدر بقيادة هادي العامري، الذي يحمل الجنسية الإيرانية، أصبح هو العامل الحاسم من الناحية العسكرية؛ أما من الناحية السياسية، فأحزاب المنظومة السياسية الشيعية مرتبطة بالميليشيات العسكرية.
ولهذا فإن اختلاف الوضع الباكستاني عن نظرائه اللبناني واليمني والعراقي، لا يعني أن دور «الزينبيون» بعيد عن الاستراتيجية الإيرانية التي دخلت بشكل مبكر في «نظام الحرب بالوكالة»؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية منذ ثمانينات القرن العشرين فعالية هذه الاستراتيجية، وقدرة إيران على خلق «معارك مقدسة» تصنع وتحمي المجال الحيوي الجديد لطهران.
* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.