«داعش ليبيا» يخسر تعاطف القبائل في معقله بمدينة درنة

فرار مئات الشبان من العمل مع التنظيم المتطرف

«داعش ليبيا» يخسر تعاطف القبائل في معقله بمدينة درنة
TT

«داعش ليبيا» يخسر تعاطف القبائل في معقله بمدينة درنة

«داعش ليبيا» يخسر تعاطف القبائل في معقله بمدينة درنة

في البداية كان الخطاب يدور حول «تطبيق الشريعة». التفَّ حول الرايات السوداء كثيرٌ من شباب مدينة درنة الليبية الواقعة على ساحل البحر المتوسط في شرق البلاد. مع مرور الشهور جرى فصل ما لا يقل عن ثلاثين رأسا من أجسام عدد من أبناء القبائل وضيوف المدينة.
حدث هذا على مرات متفرقة لشبَّان وصِبْيَة من ليبيا ومصر والسودان وسوريا. لماذا؟ لأنهم «كفار». هكذا بكل بساطة. كيف هم كفار وفي الوقت نفسه يؤدون الصلوات في مسجد «الصحابة» بقلب المدينة؟ على هذا المنوال بدأ الجدل يدور في غرف الضيافة في درنة التي كانت قديما معقلا للفنون والآداب.
على بوابة مدرسة درنة الثانوية وعلى سور ملعب المدينة، وعلى كثيرٍ من جدران أخرى، ما زالت توجد شعارات «داعش» المكتوبة بخطوط سوداء وحمراء، عن أن دولة الإسلام باقية، وأن من حكم بغير ما أنزل الله فهو خارج عن ملة الإسلام، وأن حفتر (وهو الفريق أول خليفة حفتر قائد الجيش الليبي) «طاغوت».
لكن على الجانب الآخر من المدينة، أي في الوديان المحيطة بدرنة، كانت تعقد اجتماعات بين قادة المتطرفين. وبمرور الزمن، خرج بعضٌ من قصص المؤامرات التي كانت تدور فيها، ليس من ليبيين متشددين فقط، لكن من عرب وأجانب جاءوا للمدينة من وراء البحر.
في أحد الأيام عثر أهالي الضاحية الجنوبية من درنة على رأس تبدو عليه ملامح شاب في مقتبل العمر. وبعد ثلاثة أيام من البحث عثروا على باقي جسده في مكب للقمامة بجوار المجلس البلدي القديم. جرى التعرف عليه. إنه عبد الله نجل علي، تاجر الأقمشة المعروف في المدينة. احتضن الرجل شتات الجثمان، وبدأ يروي ما جرى.
تلقى علي في أبريل (نيسان) الماضي اتصالا هاتفيا من مجهول قال له فيه إن عليه أن يسدد لـ«المجاهدين» (أي المتطرفين) بالمدينة مبلغا وقدره 300 ألف دينار ليبي (نحو 100 ألف دولار). طبعا لم يكن مع الحاج علي كل هذا المبلغ، خاصة أن المدينة تعاني من الكساد وهجرها عدد كبير من أبنائها.
لم يكن هناك من يشكو إليه. فقد اختفت مظاهر الدولة هنا منذ سقوط نظام معمر القذافي. وبعد أسبوع من الموعد المحدد لدفع المبلغ اختفى ابنه، إلى أن عاد إليه جثة مفصولة الرأس. كانت عملية انتقامية لردع كل من يرفض سداد الإتاوات للمتطرفين الذين بدأوا يعانون من نقص في الأموال تحت وطأة حصار الجيش للمدينة منذ الصيف الماضي.
مثل هذه القصص والحوادث التي وقعت في درنة منذ إعلان مجموعات من المتطرفين الولاء لتنظيم داعش والخلافة المزعومة، العام الماضي، دفعت وجهاء القبائل لإعادة التفكير في أهداف التنظيم. وفي أعقاب العديد من حوادث القتل والاختطاف ونهب الأموال، جرت مواجهات صاخبة بين زعماء من القبائل وشبان من أبنائهم كانوا يعملون في صفوف «داعش» وجماعات متطرفة أخرى.
منذ أبريل الماضي خرج من المدينة عدة عشرات من وجهاء القبائل والتجار وتمكنوا من اصطحاب المئات من أبنائهم وأقاربهم معهم بعد أن فكوا ارتباطهم بالمتطرفين. وكان من اليسير مشاهدة السيارات وهي تحمل أمتعة المهاجرين وتتكدس على بوابات الخروج من درنة.
البعض لجأ إلى مدينة طبرق التي تعقد فيها جلسات البرلمان وتقع على بعد 150 كيلومترا شرق درنة، والبعض الآخر استقر في مدية القبة المجاورة لمدينة البيضاء التي تعقد فيها جلسات الحكومة المؤقتة. وبدأ عدد من أبنائهم في التعاون مع قوات الجيش الوطني والأجهزة الأمنية. كما لجأ بعض المقتدرين للإقامة في مدينة البيضاء نفسها.
يأتي هذا بعد نحو شهرين من تبني مؤتمر عقدته القبائل الليبية في القاهرة مشروعا يهدف إلى رفع الغطاء القبلي عن أبنائها الذين يعملون مع التنظيمات المتطرفة. يقول الحاج علي، الذي استقر في البيضاء مع ولديه الآخرين (16 سنة و18 سنة)، إن الشبان الفارين من سطوة «داعش» لديهم معلومات تفصيلية عن أماكن تجمع المتطرفين وأوكارهم، سواء في ضواحي درنة الشرقية أو في المناطق الجبلية المحيطة بالمدينة.
حسين جمعة، كان يدير شركة لتأجير السيارات في درنة قبل أن يفر منها منذ خمسة أشهر إلى مدينة القبة، خشية قتله من المتطرفين، يشير إلى أنه تبين له، ولمعظم رجال القبائل في درنة، وغيرها من المدن الليبية، أن خطاب تنظيم داعش «هو الضلال بعينه.. يُكبِّرون.. يرفعون اسم الله ويقتلون المسلمين». ويقول إنه لم يجلب معه إلا متاعا قليلا.. غيارات ملابس وبطاطين له ولأسرته. ويستأجر منزلا ويشتري الطعام من مدخراته.
ولدى جمعة ثلاثة أبناء تتراوح أعمارهم بين 19 و27 سنة. اصطحبهم معه، لكن القبة لم تسلم وقتها من هجمات «داعش» بالسيارات المفخخة. وبعد آخر هجوم وقع في مايو (أيار) الماضي، بدأ أبناؤه مع مجموعات من شباب قبائل البراعصة في تكوين لجان تطوعية لإبلاغ الجيش عن أي غريب يدخل إلى «القبة». وخلال ذلك كانوا يقدمون مساعدات للفارين من درنة ومن مدن أخرى غير مستقرة مثل بنغازي.
ويأمل جمعة مع عشرات من أقاربه في العودة إلى ديارهم في منطقة الكرسة في درنة، مع تقدم الجيش ومحاصرته للمتشددين. لكن قيادات أمنية تقول إن رجوع النازحين إلى درنة ما زال سابقا لأوانه، فما زال هناك الكثير من العمل لتطهير المدينة، كما أن المتطرفين، رغم محاصرتهم، ما زال يصلهم بعضٌ من مدد من الأسلحة والمقاتلين عبر البحر.
منذ سنوات، ظل أبناء درنة يلتقون، عقب كل صلاة جمعة، في أكبر مساجد المدينة وأشهرها؛ مسجد «الصحابة». يتبادلون التحيات والسؤال عن الأحوال. ويستمد المسجد اسمه من كثرة من يعتقد أنهم كانوا من أصحاب النبي (صلى عليه وسلم) ودفنوا في هذه المدينة أيام الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا، أو هكذا يعتقد بعض الناس هنا. وعبر مئات السنين اختلطت الثقافة الوسطية بطيبة أهل درنة وميلهم إلى قرض الشعر والغناء ورواية القصص الشفاهية عن أحداث الزمن القديم، وفي الوقت نفسه الالتزام بتعالم الدين بعيدا عن التطرف. لكن المدينة تعرضت لتحول كبير حين بدأت «حرب المجاهدين» في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي.
ظهرت فيها الجلابيب القصيرة واللحى وشعر الرأس المنسدل على الكتفين. مظاهر جديدة غزت درنة. وبدلا من الرداء الليبي الشهير الذي كانت ترتديه النساء، وهو رداء ذو خطوط طويلة مفضضة، فرضت الجماعات المتطرفة عليهن ملابس سوداء مع غطاء كامل الوجه والكفين. دعا ذلك القذافي، في التسعينات، لوصف متطرفي المدينة الذين كانوا قد عادوا حديثا من أفغانستان بـ«المقمّلين» بسبب مظهرهم البوهيمي، و«الزنادقة» نظرا لميولهم المتشددة.
طوال السنوات الماضية كانت الحياة في درنة تتغير ببطء ويحل الخوف والتربص محل الأمن والطمأنينة. هجرت الأسر شواطئ البحر. تحول ميناء المدينة إلى مركز لاستقبال البواخر المريبة التي تأتي كل أسبوع أو اثنين بالأسلحة وبعشرات الغرباء من سوريا والجزائر وتونس ومصر وبعض الأوروبيين أيضا.
في أول الأمر، وبالتحديد مع أواخر عام 2013، تسبب الوافدون الجدد في إنعاش المدينة اقتصاديا. يعلق علي قائلا إنهم في البداية كانت معهم الكثير من الأموال، وينفقون بلا حساب. يشترون كل شيء ببذخ. من السيارات للحوم والفاكهة والمشروبات الغازية. لكن في الشهور الأخيرة، ومع تضييق الجيش الليبي الخناق عليهم ومحاصرته للمدينة، أخذت الأوضاع تتغير. بدأ هؤلاء المتشددون في البحث عن الأموال في جيوب أهالي درنة.
يقول عبد الله أمحمد، وهو ضابط قديم في الجيش الليبي المتمركز قرب درنة، إن الحرب الدولية على العراق في 2003 وما بعدها أراحت ليبيا من المتطرفين الذين غادروا وقتها درنة للحرب مع تنظيم القاعدة في العراق، مشيرا إلى أن العشرات من القادة الليبيين المتطرفين، من درنة ومدن وبلدات أخرى مثل بنغازي وصبراتة.. «أراحوا القذافي من إثارة القلاقل لسنوات قبل أن يعودوا ويشاركوا في الانتفاضة عليه في 2011».
ومنذ الإطاحة بالنظام السابق سيطر تنظيم القاعدة على درنة، واستقبل مئات المقاتلين الأجانب، ثم انشق التنظيم على نفسه وأصبحت مجموعة منه توالي «داعش». وبعد مضي شهور قليلة تحول هذا الانشقاق إلى اقتتال بين الفريقين.. «داعش» و«القاعدة». هذا بطبيعة الحال يسهل مهمة الجيش ومحاولته المستمرة لتطهير كامل المدينة من المتطرفين، لكن الخطر سيظل قائما لفترة طويلة كما يقول الضابط أمحمد.
وتعد المجموعة التي تطلق على نفسها «كتيبة أبو سليم» ممثلا لتنظيم القاعدة في درنة، وغالبية عناصرها من الليبيين، بينما يهيمن على «داعش» في درنة مقاتلون عرب وأجانب، إلا أن الاشتباكات التي وقعت بينهما تصب في مصلحة الجيش الذي تمكنت مجموعات تابعة له من دخول المدينة لأول مرة منذ سقوط النظام، ورفع علم الدولة على عدة مؤسسات، وسط احتفال الأهالي بالتخلص من الجماعات المتطرفة التي كانت تثير الرعب في هذه البلدة الساحلية.
هذا متغير لافت.. فمثل أبناء مدن أخرى، كان أهالي درنة قد علقوا آمالا عريضة على مرحلة ما بعد مقتل القذافي، حيث بدأت المجموعات المتطرفة نشاطها عقب انتهاء النظام السابق بحملة لتنظيف الشوارع وتنظيم حركة مرور السيارات، وهذا كان مؤشرا طيبا، كما يقول جمعة. لكنه يضيف أن هذه المجموعات طورت من عملها سريعا بعد أن التحق بها مقاتلون غرباء، وأخذت في نصب البوابات والتفتيش عمن يخالفون شرع الله من وجهة نظرها، مثل ارتداء الرجال والنساء للسراويل الضيقة (الجينز) ثم منع لبس البناطيل، في مرحلة لاحقة، ثم هدم قاعات الزفاف، وانتهى الأمر برفع الرايات السوداء وقطع رؤوس المخالفين لها في ساحة مسجد «الصحابة». لم يكن أحد يتخيل أن مظاهر الدولة يمكن أن تعود إلى أي بقعة من درنة ولا إلى أي بقعة من المدن التي استولت عليها العناصر المتطرفة التي كانت تتجول بخيلاء بواسطة سيارات الدفع الرباعي والمدافع والمدرعات. يتذكر جمعة تلك الأيام: «كانوا يستوقفون أحد الشبان ويسألونه عن حفتر مثلا. إذا قال إنه لن يجيب، يعلقونه في عمود الضوء، ويجلدونه.. أحيانا يقطعون رأسه ويلقونه في صندوق القمامة. لهذا حين يستمرون في مقوله تطبيق شرع الله وإقامة دولة الخلافة، فمن سيصدقهم؟».
واليوم، وبعد قرابة عشرة أشهر من إعلانه الحرب على المجموعات الإرهابية، تمكن الجيش من دخول بعض مناطق درنة، وتمكن أيضا من طرد المتطرفين الآخرين من بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، وكانوا خليطا من تنظيم «أنصار الشريعة» و«الإخوان» و«داعش» و«القاعدة». وأمام المراقبة التي أصبح يفرضها الجيش داخل عدة أحياء في غرب درنة، لجأ مقاتلو «داعش» و«القاعدة» إلى التحصن في بعض الضواحي داخل المدينة من ناحية الشرق والجنوب وفي الجبال والكهوف المحيطة، مع ملاحظة استمرار الخلافات بين التنظيمين، والذي يذكر بما يحدث من اقتتال في سوريا بين «داعش» وجبهة النصرة.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟