مبارزة ثقافية ودينية وتاريخية على هامش نهائي المونديال

مواقف فرنسا «حشدت» الخصوم... و«البشت» يفجّر سجالاً بين الشرق والغرب

النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي (أ.ب)
النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي (أ.ب)
TT

مبارزة ثقافية ودينية وتاريخية على هامش نهائي المونديال

النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي (أ.ب)
النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي (أ.ب)

تجاوز الاهتمام بنهائي كأس العالم لكرة القدم بين منتخبي الأرجنتين وفرنسا، حدود الرياضة، إذ لم تقتصر الإثارة في المباراة، التي ظلت معلقة حتى لحظاتها الأخيرة، على مجريات اللقاء في ملعب لوسيل بالعاصمة القطرية الدوحة، بل كانت هناك مباراة لا تقل إثارة بين المشجعين، حتى غير المهتمين بكرة القدم.
المباراة التي اتخذت من مواقع التواصل الاجتماعي ساحة لها، اتخذت أبعاداً ثقافية ودينية حتى تاريخية، إذ تباينت ميول المشجعين في مختلف أنحاء العالم عموماً، وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص، اعتماداً على اعتبارات «غير رياضية»، وهو ما فسّره مراقبون بأنه «فشل للعولمة في تذويب الفوارق بين الثقافات».
المباراة النهائية للمونديال مساء «الأحد» حفلت بكثير من المشاهد التي عكست «تسييس» كثير من المشجعين للمباراة، ومالت كفة المنحازين إلى «رفاق ميسي»، ليس حباً في اللاعب صاحب المسيرة الفذة، إنما نكاية في مواقف باريس وماضيها الاستعماري، إذ مال مشجعون أفارقة إلى «الشماتة» في خسارة فرنسا للكأس، ونشر كثير من أبناء القارة السمراء على وسائل التواصل الاجتماعي تدوينات مصحوبة بصورة يبدو فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منكسراً، وعلّق بعضهم على تلك الصورة بالقول: «حزنك يسعدنا... بكاؤك يطربنا... غمك يفرحنا»، إضافة إلى استخدام «هاشتاغ» (#جرائم_فرنسا).
وبرز كذلك استخدام الصورة نفسهل من جانب شخصيات محسوبة على تيار الإسلام السياسي، مصحوبة بدعوات «الخزي» استناداً إلى ما يراه أصحاب هذا الموقف «دعماً فرنسياً للرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم».
واستحوذت لقطة ارتداء ليونيل ميسي قائد المنتخب الأرجنتيني المتوج لحظة تسلم كأس العالم «البشت العربي» على الجانب الأكبر من السجال الدائر على هامش نهائي المونديال، وأبرزت بعض الآراء اعتراض وسائل إعلام غربية، من بينها صحيفة «تليغراف» البريطانية، التي اعتبرت تقليد ميسي «حركة غريبة (خرّبت) أعظم لحظة في تاريخ كأس العالم»، لافتة إلى أن «ميسي لم يبدُ سعيداً بارتداء البشت الذي غطى على قميص بلاده أثناء رفعه كأس أغلى البطولات»
https://twitter.com/TheUKAr/status/1604607030244904961?ref_src=twsrc%5Egoogle%7Ctwcamp%5Eserp%7Ctwgr%5Etweet
وهو ما ردّ عليه كثير من الناشطين العرب بأن ارتداء اللاعبين والسياسيين الأجانب لرموز وطنية أو تراثية لدول أخرى ليس بالأمر الجديد، مستشهدين بصور للملك البريطاني تشارلز الثالث، وهو يرتدي ثوباً عربياً، ويؤدي رقصة «العرضة» خلال زيارة إلى الرياض، قبل 8 أعوام، وأسطورة كرة القدم البرازيلية بيليه، وهو يعتمر قبعة مكسيكية عقب الفوز بكأس العالم عام 1970.
https://www.facebook.com/abeer.saady/posts/pfbid0qWeavuxU5no6VKfyTgGCrBwvQuZn3dpFAMnLJCRLu5KmPKfJxe4sJheKNKtZqvb4l
وقدّم آخرون صوراً للاعبين بارزين، مثل الفرنسي زين الدين زيدان والإسباني أندريس إنييستا، وهم يرتدون في مناسبات سابقة «البشت» العربي.

بل تدخل في النقاش إعلاميون غربيون، تعليقاً على ما وصفوه بـ«التغطية المنحازة» للقطة نهائي المونديال، إذ ردّ الإعلامي البريطاني روبرت كارتر على اللاعب الإنجليزي الشهير غاري لينيكر قائلاً: «لو حدث وارتدى ميسي شارة المثلية الجنسية لأشاد به لينيكر وبقية المنزعجين، لكن عندما ارتدى البِشت العربي ظهرت التغطية الإعلامية بشكل سلبي... أمر مخجل وقبيح من شبكة (BBC) التي تدعي الحياد»، على حد تعبيره.
ويرى الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، والأمين الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، أن ما شهده مونديال قطر 2022، والمباراة النهائية من سجالات سياسية وأخلاقية وتاريخية لافتة، يجسد حقيقة أن الفوارق الثقافية «لا تزال حية في عقول الشعوب المختلفة»، وأن العولمة «فشلت في تذويب تلك الفوارق، بل زادتها وضوحاً وعنفاً».
ويضيف عفيفي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «كرة القدم يفترض فيها أنها لعبة ووسيلة للتسلية، كانت دائماً (أداة سياسية ودينية) منذ بداياتها الأولى في بريطانيا، فقد ارتبط ظهور كرة القدم في العصر الفيكتوري بمحاولة منع التلاميذ من التسرب من المدارس، وترشيد جهد المواطن المسيحي».
ويتابع أنه «مع انتقال كرة القدم إلى المستعمرات، تحولت اللعبة إلى أداة سياسية بامتياز، وصارت المواجهات بين الفرق الوطنية ونظيرتها الأجنبية (وسيلة لمقاومة الاستعمار)، وقد شهدت مصر عقب ثورة 1919 أكثر من واقعة تؤكد ذلك».
ويشير عفيفي إلى أن «مونديال قطر كان حافلاً بالمشاهد غير الكروية اللافتة، فالبعد الديني كان حاضراً، سواء في دعوة بعض الدعاةِ الجماهيرَ الأجنبيةَ إلى الإسلام، أو في اتخاذ مواقف مناوئة لفرنسا، على خلفية أزمة الرسوم المسيئة للرسول (ص)، أو من خلال حضور البعد القومي العروبي كاصطفاف المشجعين العرب وراء المنتخب المغربي، وكذلك (تصفية الحسابات) مع قوى الاستعمار القديم، ويتجلى ذلك في الفرحة التونسية بهزيمة فرنسا رغم الخروج من المنافسات، إضافة إلى (الشماتة الأفريقية) في فرنسا، المستعمرة القديمة، أو الفرحة بفوز إحدى دول الجنوب، وهي الأرجنتين بكأس العالم بعد 20 عاماً من احتكار الشمال الأبيض للفوز».
ويعتبر أستاذ التاريخ كل تلك المشاهد تعبيراً عن أن «الصراع الثقافي» في العالم «يزداد قوة وتأثيراً»، وأنه «ينتهز أي فرصة ليطفو على السطح»، حتى ولو كان ذلك في مباراة لكرة القدم، يفترض فيها أن تعزز الروح الرياضية والمنافسة الشريفة».


مقالات ذات صلة

تحضيرات كأس العالم 2026: ألمانيا تواجه غانا بدلاً من كوت ديفوار

رياضة عالمية المنتخب الألماني سيواجه غانا بدلاً من كوت ديفوار ودياً في مارس (الشرق الأوسط)

تحضيرات كأس العالم 2026: ألمانيا تواجه غانا بدلاً من كوت ديفوار

أعلن الاتحاد الألماني لكرة القدم، اليوم (الاثنين)، أن المنتخب الوطني سيواجه غانا بدلاً من كوت ديفوار ودياً في مارس، في إطار الاستعداد لكأس العالم.

«الشرق الأوسط» (فرانكفورت )
رياضة عالمية كارلو أنشيلوتي (إ.ب.أ)

البرازيل وأنشيلوتي في محادثات متقدمة لتمديد العقد إلى ما بعد مونديال 2026

دخل الاتحاد البرازيلي لكرة القدم في محادثات متقدمة مع المدير الفني للمنتخب الأول، الإيطالي كارلو أنشيلوتي، من أجل تمديد عقده حتى عام 2030.

The Athletic (برازيليا)
رياضة عربية يعود المنتخب المصري للمشاركة في كأس العالم بعد غياب عن النسخة الماضية (اتحاد الكرة المصري)

أزمة «دعم المثلية» في كأس العالم تصل إلى البرلمان المصري

وصلت أزمة إقامة أنشطة تدعم المثلية بالتزامن مع لقاء منتخبي مصر وإيران، بكأس العالم المقرر إقامتها في يونيو (حزيران) المقبل، إلى مجلس النواب المصري (البرلمان).

أحمد عدلي (القاهرة)
رياضة عالمية إقبال هائل على تذاكر كأس العالم (رويترز)

«فيفا»: 5 ملايين طلب على تذاكر كأس العالم

أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) أنه تم تقديم خمسة ملايين طلب للحصول على تذاكر مباريات كأس العالم خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من أحدث مراحل البيع.

«الشرق الأوسط» (زيوريخ)
رياضة عالمية ديشان في لقاء مع وسائل الإعلام (أ.ف.ب)

ديشان: فرنسا ستواجه البرازيل وكولومبيا ودياً في الولايات المتحدة

أكد المدرب ديدييه ديشان السبت خلال اجتماع الجمعية العمومية للاتحاد الفرنسي لكرة القدم في باريس، أن منتخب بلاده سيواجه منتخبي البرازيل وكولومبيا ودياً.

«الشرق الأوسط» (باريس)

ساعة ذكية لتقليل نوبات غضب الأطفال

الساعة الذكية ترصد مؤشرات التوتر الفسيولوجية مثل ارتفاع معدل ضربات القلب (مايو كلينك)
الساعة الذكية ترصد مؤشرات التوتر الفسيولوجية مثل ارتفاع معدل ضربات القلب (مايو كلينك)
TT

ساعة ذكية لتقليل نوبات غضب الأطفال

الساعة الذكية ترصد مؤشرات التوتر الفسيولوجية مثل ارتفاع معدل ضربات القلب (مايو كلينك)
الساعة الذكية ترصد مؤشرات التوتر الفسيولوجية مثل ارتفاع معدل ضربات القلب (مايو كلينك)

طوّر باحثون في مجموعة «مايو كلينك» الطبية الأميركية نظاماً مبتكراً يعتمد على الساعة الذكية لتنبيه الآباء عند أولى مؤشرات نوبات الغضب الشديدة لدى الأطفال المصابين باضطرابات عاطفية وسلوكية، ما يتيح التدخل السريع قبل تفاقم النوبة.

وأوضح الباحثون أن هذا النظام يُقلّص مدة وحدّة نوبات الغضب، ما يخفف الضغط النفسي على الطفل ووالديه، ويُحسّن الأجواء الأسرية، ويُقلّل من الصراعات اليومية. ونُشرت النتائج، الاثنين، في دورية «JAMA Network Open».

ونوبات غضب الأطفال هي انفعالات مفاجئة وشديدة، تظهر في صورة بكاء حاد أو صراخ أو رفض للأوامر أو سلوك عدواني أحياناً. وغالباً ما تنتج هذه النوبات عن عجز الطفل عن التعبير عن مشاعره أو السيطرة عليها، وقد تكون أكثر حدّة وتكراراً لدى الأطفال المصابين باضطرابات عاطفية وسلوكية.

ورغم أن نوبات الغضب تُعد جزءاً طبيعياً من نمو بعض الأطفال، فإن استمرارها لفترات طويلة أو شدتها الزائدة قد يؤثر سلباً في الصحة النفسية للطفل والعلاقات الأسرية، ما يستدعي تدخلاً تربوياً أو علاجياً مبكراً للحد من آثارها.

ويعتمد النظام على ساعة ذكية يرتديها الطفل، ترصد مؤشرات التوتر الفسيولوجية، مثل ارتفاع معدل ضربات القلب أو التغيرات في الحركة أو النوم. وتُنقل هذه البيانات إلى تطبيق على هاتف الوالدين مزوّد بتقنيات الذكاء الاصطناعي، يُحلِّلها لحظياً ويُرسل تنبيهاً فورياً يحثّ الوالدين على التواصل مع الطفل وتهدئته في الوقت المناسب.

وأُجريت التجربة السريرية على 50 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 3 و7 سنوات، كانوا يعانون اضطرابات عاطفية وسلوكية. واستُخدم نظام الساعة الذكية لدى نصف المشاركين على مدى 16 أسبوعاً، في حين واصل النصف الآخر العلاج القياسي. وقيَّمت الدراسة مدى التزام العائلات باستخدام التقنية، وقدرة التنبيهات الفورية على تغيير سرعة استجابة الوالدين وسلوك الأطفال.

وأظهرت النتائج أن التنبيهات الفورية ساعدت الآباء على التدخل خلال 4 ثوانٍ فقط، وأسهمت في تقليص مدة نوبات الغضب الشديدة بمعدل 11 دقيقة، أي نحو نصف المدة المسجّلة لدى الأطفال الذين تلقوا العلاج التقليدي فقط.

كما بيّنت النتائج أن الأطفال ارتدوا الساعة الذكية لنحو 75 في المائة من فترة الدراسة، ما يعكس قابلية التطبيق وارتفاع مستوى تفاعل العائلات مع هذه التقنية.

وقال الباحثون إن «هذه الدراسة تُظهر أن تدخلات صغيرة، إذا جاءت في التوقيت المناسب، يمكن أن تغيّر مسار نوبة الاضطراب العاطفي لدى الطفل؛ إذ تمنح الوالدين فرصة للتدخل الداعم، مثل الاقتراب من الطفل، وتقديم الطمأنة، وتعزيز المشاعر الإيجابية، وإعادة توجيه الانتباه، قبل أن تتصاعد النوبة».

وأضافوا أن هذا النظام يُثبت أن بيانات الأجهزة الذكية اليومية يمكن أن تساعد الأسر في الوقت الحقيقي؛ فقد تبدو الساعة الذكية جهازاً بسيطاً، لكنها عندما تُدعَم بعلاجات قائمة على الدليل وتحليلات متقدمة، تتحول إلى بارقة أمل للأسر التي تواجه أعراضاً سلوكية شديدة في المنزل.


«معرض جدة للكتاب» حراك ثقافي متجدد يجمع الأجيال ويعيد للكتاب مكانه

كثير من الفعاليات والندوات كانت حاضرة لمختلف الأعمال
كثير من الفعاليات والندوات كانت حاضرة لمختلف الأعمال
TT

«معرض جدة للكتاب» حراك ثقافي متجدد يجمع الأجيال ويعيد للكتاب مكانه

كثير من الفعاليات والندوات كانت حاضرة لمختلف الأعمال
كثير من الفعاليات والندوات كانت حاضرة لمختلف الأعمال

على مهل... كبار السن يعبرون ممرات معرض جدة للكتاب، يقلبون صفحات كتاب عتيق يعرفه قارئه جيداً، لا يركضون خلف العناوين، ولا تستفزهم الألوان الصارخة، بل يقفون حيث يقف المعنى، ويمدون أيديهم إلى الورق كما لو أنهم يصافحون ذاكرة قديمة، يعرفونها وتعرفهم.

هنا، في جدة، المدينة التي تعلمت القراءة مبكراً من دفاتر الرحالة، وسجلات التجارة والحكايات القديمة، لم يكن توافد كبار السن إلى معرضها للكتاب مشهداً غريباً، بل امتداد طبيعي لتاريخ طويل من الألفة بين الإنسان والكتاب، حيث جهزت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» معرضاً فيه كل ما هو ممكن من مضمون ومحتوى يأخذ القارئ إلى أبعاد مختلفة ومسارات متنوعة.

في المعرض تقابلك مشاهد لكبار السن وهم يتجولون في المعرض يحضرون الندوات، ويجلسون على مقاعد جانبية يتصفح أحدهم كتاباً بتمهل فيبتسم عند سطرٍ يعرفه، ويتوقف عند آخر كأنه يستعيد زمناً مر عليه في هذه المدينة التي لم تكن يوماً بعيدة عن الثقافة.

يقول العم حسن عبيد، الذي لامس السبعين: «في المعرض أبحث عما يسلي خاطري وأدقق في معرفة الرواة والمؤلفين، وإن كان ميلي لمؤلفين رافقوا البدايات الأولى في حياتي، وأقارن بين ما هو قديم وما يعاد تقديمه اليوم للأجيال الجديدة، فالقراءة بالنسبة لي ليست هواية بل عادة راسخة، وسلوك يومي ونافذة أطل منها على العالم حتى وإن تغير شكله».

كثير من الفعاليات والندوات كانت حاضرة لمختلف الأعمال

هذه غراس المعرض، يجدد الشغف ويعيد للكتاب سيرته الأولى ومكانه الطبيعي، فمعرض جدة للكتاب، الذي نجحت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» في استقطاب أكثر من 1000 دار نشر من 24 دولة تفتح شهية الباحث والقارئ، بل إنها لم تركن لما هو على الرفوف بل تجاوز ذلك بأحدث 170 فعالية ثقافية، ولقاءات فكرية، وذلك بهدف إعادة تشكيل العلاقة بين القارئ والمكان ممثلة في مدينة جدة، التي احتضنت الحجاج والتجار والعلماء، واليوم تفتح ذراعيها للكتاب في هذا التوقيت وتمنح كبار السن مساحة ليكونوا شهوداً على التحول لا خارج محيط الفكر والثقافة.

سجل المعرض حضوراً كثيفاً في الندوات الحوارية وورش العمل (الشرق الأوسط)

جولة «الشرق الأوسط» لاحظت أن كبار السن لا ينفصلون عن حاضرهم فهم يتأملون جميع الكتب ومسارتها من الأدب والروية والقصة حتى أنهم يبحثون عن علوم مختلفة، ويستمعون إلى النقاشات، ويتابعون الحركة الثقافية بفضول هادئ يؤكد أن القراءة لا عمر لها، وأن الشغف بالمعرفة لا يتقاعد، إذ ترى في عيونهم المقارنة الصامتة بين زمن كان الكتاب فيه نادراً، وزمن صار فيه وفيراً مع امتلاكه الخصائص والقيمة.

في الجهة الأخرى من المشهد، حيث تخف وطأة الذاكرة وتعلو دهشة الاكتشاف، كان صغار السن يكتبون حضورهم بطريقتهم الخاصة، لا يقفون طويلاً عند الغلاف الواحد، لكن أعينهم تلتقط الفكرة قبل العنوان، وتتحرك بين الأجنحة كما لو أنها تتدرب على أول علاقة حقيقية مع الكتاب، فهنا تبدأ الحكاية من جديد لا بوصفها امتداداً للماضي، بل وعد للمستقبل.

الورش لم تكن قاصرةً على الكبار إذ سجل الأطفال والمراهقون حضوراً ملفتاً

ففي معرض جدة للكتاب، وفرت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» مواقع مختلفة، كي يلتقي فيها الصغار بالكلمة للمرة الأولى خارج أسوار المدرسة، يلمس أحدهم الكتاب بفضول، ويسأل، ثم يختار ما يشبهه من القصص المصورة، كتب المعرفة المبسطة، وأركان القراءة التفاعلية، وهذه لا تكون وسائل جذب بل جسور ثابتة قواعدها متينة تمهد لعلاقة طويلة الأمد مع القراءة، كعادة جدة المدينة التي علمت أجيالاً سابقةً كيف تحفظ الحكاية لتعيد اليوم صياغتها بلغة يفهمها الصغار.

اللافت أن المسافة بين كبار السن وصغارهم داخل المعرض لم تكن بعيدة، هنا جد يشير لحفيده إلى كتاب قرأه ذات يوم، وهناك طفل يلتقط الفكرة ويعيد تشكيلها بلغته الخاصة، وما بين الاثنين، يتحقق المعنى الأعمق لمعرض جدة للكتاب بأن يكون مساحة تواصل بين زمنين، لا قطيعة بينهما، وأن تنتقل المعرفة من يد إلى يد، ومن ذاكرة إلى أخرى.

طفلة تبحث عما يحاكيها بين الكتب

الملاحظ أن «هيئة الأدب والنشر والترجمة» نجحت في إيجاد ورش عمل وأمسيات تمس المتلقي بشكل أو آخر، ومن ذلك الورشة التي قدمتها الكاتبة شوقية الأنصاري تحت عنوان «كيف نلهم الطفل ليكون مؤلفاً صغيراً»، التي استعرضت من خلالها خطوات تحفيز الطفل على التعبير الكتابي، شملت قراءة النصوص القصيرة وتحليلها، ومحاكاة النصوص المنشورة، وبناء الجمل المتنوعة، والتعبير عن الصور بلغة سليمة.

وجذبت منطقة «المانجا» في معرض جدة للكتاب 2025 اهتمام عشاق المحتوى الإبداعي من فئتي الأطفال والشباب، عبر تجربة ثقافية تفاعلية تجمع بين القراءة والخيال البصري، وتقدم نماذج حديثة من صناعة القصص المصوّرة، بما يواكب اهتمامات الجيل الجديد، مع توفير أبرز إصدارات «المانجا»، بما في ذلك مجلات «المانجا العربية»، التي تعنى بنشر أعمال مستوحاة من «المانجا اليابانية»، إلى جانب القصص المصوّرة السعودية، في إطار يسهم في رفع معدلات القراءة، وتنمية الذائقة البصرية، وإثراء المحتوى العربي بأساليب سرد حديثة.

في المقابل وجد الكثير من كبار السن ضالتهم في الأمسيات الشعرية التي اتسمت بتنوع النصوص وعمقها الوطني، بخلاف الورش والندوات، التي شملت كثيراً من الميادين ومنها ندوة حوارية حول مفهوم الهوية الثقافية وتحولاتها، أكد فيها الكاتب هشام أصلان أن الهوية كائن حي يتطور عبر احتكاكه بالماضي وتفاعله مع الواقع المعاصر، إضافة إلى ندوات متعددة منها «مستقبل المكتبات والمتاحف... من الحفظ إلى التفاعل الرقمي» قدّمها متخصص المعالم المكانية وتاريخ فنون العمارة الدكتور فؤاد المغامسي، وجرى خلالها استشراف تحولات المؤسسات الثقافية نحو الرقمنة.

بهذا الحضور المتكامل، يغدو معرض جدة للكتاب أكثر من فعالية ثقافية، بل مشهد اجتماعي نابض بالحياة، كبار السن يرسخون الجذور، وصغار السن يمدون الأغصان نحو الضوء، وجدة، بثقلها التاريخي وعمقها الثقافي، تقف في المنتصف، شاهدةً على دورة القراءة وهي تتجدد، وعلى الكتاب وهو يعثر في كل عام على قارئ جديد، مهما اختلف العمر، ومهما تبدلت الأزمنة، هكذا يبدو «معرض جدة للكتاب» بكل المقاييس التي تعرفها والتي لا تعرفها، أكثر من فعالية ومساحة التقاء بين أجيال، وجسراً يصل ذاكرة المدينة الثقافية بحاضرها المتسارع، ليكتب كبار السن بتجولهم بين أروقة المعرض سطراً غير معلن «ما زلنا نقرأ، وما زال للكتاب مكان» وما زالت جدة تعرف كيف تحتضن الثقافة، كما احتضنت التاريخ.


ميناء العين السخنة المصري يدخل موسوعة «غينيس»

تسجيل ميناء السخنة المصري في «غينيس» لأعمق حوض ميناء صناعي (وزارة النقل المصرية)
تسجيل ميناء السخنة المصري في «غينيس» لأعمق حوض ميناء صناعي (وزارة النقل المصرية)
TT

ميناء العين السخنة المصري يدخل موسوعة «غينيس»

تسجيل ميناء السخنة المصري في «غينيس» لأعمق حوض ميناء صناعي (وزارة النقل المصرية)
تسجيل ميناء السخنة المصري في «غينيس» لأعمق حوض ميناء صناعي (وزارة النقل المصرية)

سجلت موسوعة «غينيس» العالمية للأرقام القياسية ميناء العين السخنة المصري بوصفه أعمق حوض ميناء من صنع الإنسان على اليابسة، بعمق 19 متراً، وتسلّم نائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية، وزير الصناعة والنقل في مصر، كامل الوزير، شهادة التسجيل، وفق بيان لوزارة النقل المصرية، الاثنين.

ويضم ميناء السخنة على البحر الأحمر (100 كيلو شرق القاهرة)، محطة حاويات تتضمن أرصفة بطول 2600 متر، بغاطس 18 متراً، وساحات تداول بمساحة 1.5 مليون م2 وطاقة استيعابية حوالي 1.6 إلى 1.7 مليون حاوية سنوياً.

وأبدى الوزير فخره وسعادته بهذا الإنجاز العالمي الكبير الذي يعكس ويجسد مدى التطور الذي تشهده مصر حالياً في المجالات كافة، ومنها قطاع النقل البحري، لافتاً إلى أن هذا الإنجاز «تحقق بأيادي العمال والمهندسين والشركات المصرية الوطنية المتخصصة»، مؤكداً على المشاركة الفعّالة من أكثر من 200 شركة من الشركات الوطنية المصرية في هذا المشروع.

وتعمل مصر على الاستفادة من موقعها الجغرافي الفريد على البحرين الأحمر والمتوسط، ووجود أهم ممر ملاحي عالمي فيها وهو قناة السويس، وضرورة تحويل ميناء السخنة إلى ميناء محوري عالمي على البحر الأحمر، ليكون بوابة رئيسية على السواحل الشرقية للدولة المصرية تخدم حركة الصادرات والواردات، وتعزز مكانة مصر على خريطة التجارة العالمية، والوصول إلى الهدف الرئيسي، وهو «تحويل مصر إلى مركز إقليمي للنقل واللوجيستيات وتجارة الترانزيت».

وسلَّمت المحكم المعتمد لموسوعة «غينيس»، كنزي الدفراوي، شهادة الموسوعة العالمية للأرقام القياسية لميناء السخنة بوصفه أعمق حوض ميناء من صنع الإنسان بعمق 19 متراً، وقالت إن فريق العمل الخاص بالموسوعة راجع جميع السجلات بعناية شديدة، و«يسعدني جداً أن أُعلن أن جميع الإرشادات تم الالتزام بها، وكل المتطلبات قد حُقِّقت، وبعد مراجعة كل الأدلة، يمكنني اليوم أن أعلن رسمياً أن ميناء السخنة قد حقق مجموعاً قدره 19 متراً»، ليصبح ميناء السخنة حامل اللقب الجديد لأعمق حوض ميناء من صنع الإنسان، وأضافت خلال البيان: «أنتم الآن مدهشون رسمياً».

وتُحدِّد مصر خطة شاملة لتطوير صناعة النقل البحري بوصفه إحدى الركائز الأساسية لـ«رؤية مصر 2030»، تتضمَّن تطوير المواني البحرية بإنشاء 70 كيلومتراً أرصفة بأعماق (18 - 25) متراً، لتتخطى أطوال الأرصفة في المواني البحرية حاجز 100 كيلومتر، وكذلك التخطيط لإنشاء 35 كلم ليصل إجمالي حواجز الأمواج إلى 50 كيلومتراً، وزيادة مساحات المواني لتصل إلى 100 مليون م2.

وأوضح الوزير أن وزارتي الصناعة والنقل تنفذان خطة تطوير شاملة لميناء السخنة، تقوم على التكامل بين الميناء والمنطقة الصناعية بالسخنة، حيث تم حفر 5 أحواض جديدة بالميناء بأعماق تصل إلى 19 متراً، كما تم إنشاء 18 كيلومتراً أرصفة وحواجز أمواج بطول 3300 متر، وإنشاء طرق داخلية بطول 17 كيلومتراً، وإنشاء شبكة سكك حديدية بطول 30 كيلومتراً داخل الميناء، وربطه بشبكة نقل حديثة متعددة الوسائط، تشمل السكك الحديدية، والطرق، والمواني الجافة، والمناطق اللوجيستية، وربطه بالخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع.