غادة السمان تقفز على دمشق الجريحة في روايتها الجديدة

رمزية اسم الكاتبة وكلاسيكية الكتابة في «يا دمشق وداعًا»

غادة السمان، غلاف الرواية
غادة السمان، غلاف الرواية
TT
20

غادة السمان تقفز على دمشق الجريحة في روايتها الجديدة

غادة السمان، غلاف الرواية
غادة السمان، غلاف الرواية

«يا دمشق وداعًا»، رواية جديدة لغادة السمان صادرة عن منشوراتها وهي تعتبر الجزء الثاني من روايتها الأولى بعنوان «الرواية المستحيلة». وفي الحديث عن مولودها الجديد، لا بدّ لنا من التوقف عند الإصدارات السابقة حيث كانت السمان تجعل من قارئها كبومتها الحاضرة دومًا في هذه الرواية، كلما وقعت عيناه على صورة شعرية جديدة، اتّسعتا ورحل معها في مدن من العجائب. من هنا أسقطت السمان على نفسها صفات الشاعرة الرومانسية العذبة وأحيانا كاتبة طفلة تتمرد وتثور لتقوى، فتظهر كما رسمت ذاتها في روايتها الأخيرة «مشاغبة زقاق الياسمين» أو «متمردة زقاق الياسمين».
مما لا شك فيه أن عشاق السمان انتظروا بفارغ الصبر عملاً جديدًا لها يحلِّق بهم بعيدًا، فيحملهم خلف حدود الكلمات ويفتح لهم آفاقًا جديدة لم ينجح سوى القليل من الأعمال الأدبية العربية في السنوات الأخيرة في محاكاتها..
عندما نفكر بقارئ كهذا، نشعر بوقع الصدمة عليه حين يقرأ «يا دمشق وداعًا» إذ يجد غادة السمان وإن في أوج رومانسيتها وسحرها، وألقها في نبش الصور الجميلة ووصفها المبدع، قابعة في دائرتها، وكأنها حبيسة قوقعة أدبية تأبى أن تخرج من صومعتها فتتنسك داخلها.
حين يمرر القارئ ناظريه على عنوان الرواية الذي أحسنت في اختياره قد تنتابه نوستالجيا إلى دمشق، دمشق الجريحة اليوم. فيضمّ الكتاب إلى صدره بقوة.. ولكن محتواه لن يأتي كما أوحى العنوان... لم تأخذنا السمان إلى دمشق اليوم... دمشق المرهقة النازفة، بل أعادتنا إلى دمشق في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. تكشف السمان في روايتها الأخيرة عن آفات المجتمع العربي في ذلك الزمن التي ما زالت يعاني من تبعاتها الكثير من العائلات في المجتمعات المتشددة حتى يومنا هذا.. منها ظلم المرأة واستعبادها وكأنها كائن من الدرجة الثانية، فحتى الحب ليس من حقها وهو محرم، بحيث جاء في الرواية:
«كما فعلت جارتنا في زقاق الياسمين حين وضعت على لسان ابنتها جمرك لأن المسكينة تلفظت بكلمة حب». ولا يسمح للفتاة باختيار زوجها: «بنت تختار زوجها!».. أما الخطأ فكان في ذاك الوقت من «حق الذكور فقط».
وبين مطرقة الطلاق وسندان المجتمع المتشدد تولد خطيئة المرأة الكبرى: «والآن سأقترف الخطيئة الثانية (اجتماعيًا) سأعلن بمناسبة عيد ميلادي أنني أريد تطليق زوجي».
ولا تغفل السمان التوقف عند أهمية عذرية المرأة، مشيرةً إلى همجية المجتمع الذكوري في إلقاء اللوم على المرأة بكل الجرائم التي ترتكب ضدها، بما فيها جرائم الاغتصاب، فمثلاً قريبة زين اغتصبها خطيبها، رغم حجابها، وحمّلها والداها خطيئة فعلته الشنيعة.
وتستخدم السمان فن السخرية السوداء في عرض قضايا المجتمع فتقول: «الشرف المزعوم للأسرة كان أكثر أهمية من حياة أمها التافهة كبعوضة أنثى». وانطلاقًا من ذلك، نشير إلى حسن اختيارها للألفاظ التي تناسب المشهد، والكلمات الأكثر تأثيرا في تأجيج مشاعر القارئ.. فكلمة «بعوضة»، مثلاً، هي الكلمة المفتاح أو الكلمة الدالة على نظرة الرجل الدونية للمرأة.
ولكن كل تلك المواضيع التي أشرنا إليها عرضتها السمان بسياقات قصصية مباشرة خالية من الغرابة.. وهي أيضا قضايا وإن كنا ما زلنا نواجهها في عالمنا العربي، ولكنها طُرحت كثيرًا وعولجت في كتابات متعددة. فالتيار النسوي قام بثورات فكرية كثيرة، وفي السنوات الأخيرة اكتسبت النساء الكثير من حقوقهن.. وبالتالي فإن مقاربتها لمواضيع كهذه جاءت تقليدية قد عفا عليها الزمن. ولكن مما يسجل لصالح الكاتبة اعتمادها تقنية تعدد الأصوات في الرواية مِمّا يخلق اندماجا ويقرب الأحداث أكثر إلى الواقعية والمصداقية..
فنجد البطلة زين الخيّال تتكلم وأحيانا أخرى الدكتور وزوج زين، وفي مقاطع أخرى فضيلة ابنة عمها فضلاً عن شخصيات أخرى في النص. وهذا يمنح الرواية مستويات مختلفة تمثل المجتمع بكل أطيافه، فبالتالي تبتعد السمان باللجوء بهذا التكتيك عن صوت الأنا.
وكان يمكن اختصار الجزء المتعلق بالدكتور، فالكاتبة كررت الكثير من المعاني دون ضرورة فنية، كمثل ما ورد في الرواية عن الكذب: «البنت كاذبة سيئة (..)».
«تظاهرت بأنني لا أعرف عنها شيئًا حِيْن كذبت مدعية أنها ابنة راقصة (..)».
«لعلها تكذب أيضا وكذبها الرديء يسحرني (..)».
«لم أعرف يومًا امرأة تكذب على ذلك النحو الردي (..)».
«عجزها عن مقاومة الكذب (..)».
«كم هي فاشلة في فن الكذب (..).
قد تكون بعض أحداث «يا دمشق وداعًا» كما ذكرت غادة السمان في روايتها السابقة «من صنع الخيال الروائي الخرافي فقط لا غير، وأي تشابه مع أحياء أو أموات إنما هو من قبيل المصادفة»، ولكن قصة الحب التي عاشتها السمان تعشش في النص عندما تتحدث عن قصة حب مع كاتب فلسطيني. ربما جاء هذا الإسقاط سهوًا، إلا أن الكاتبة لم تستطع أن تتجرد، أو على أقل تقدير تتفلت، من قصة حب عاشتها هي بكافة تجلياتها الرومانسية الحاضرة بقوة في النص. يبقى قراء السمان اليوم أمام التحدي الأبرز في المفاضلة بين رمزية اسم الكاتبة وكلاسيكية روايتها التي لا شكّ لم توازِ توقعاتهم، فهل سيجرؤ القارئ وحتى الناقد على قول رأيه جهارًا؟
سؤال برسم الأيام المقبلة.



رهانات السَّرد العربي المعاصر

رهانات السَّرد العربي المعاصر
TT
20

رهانات السَّرد العربي المعاصر

رهانات السَّرد العربي المعاصر

في كتابه «رهاناتُ السَّردِ العربيِّ المُعاصر: دراسات وقراءات مونوغرافية» يتابع الناقد والباحث المغربي أحمد المديني ما بدأه في آخر كتاب نقدي له «في حداثة الرواية العربية - قراءة الذائقة»، والذي قبله، أيضاً: «السرد والأهواء، من النظرية إلى النص»، بمعنى خطّ مواصلة قراءة نصوص روائيةٍ عربيةٍ مميّزةٍ باندراجها في الخط العام لتطور وتجديد السّرد التخييلي، كما كتبته الأقلام اللّاحقة وتجرب فيه بعد المتن المؤسس لأجيالِ الرّواد والمرسِّخين.

يتضمن الكتاب الصادر عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن (2025)، طيفاً واسعاً من الدراسات التي ركزت على الرواية العربية التي رأى الباحث أنه يمكنها أن توازي وتساوق في تعبيراتها ما بلغته الكتابة السردية في آداب العالم، وتتميز بفرادتها وخصوصيتها المحلية لغةً، وأسلوباً، ومهاراتِ بناء، وغنى عوالمَ، وشخصياتٍ تنتمي إلى العالم وتستشرف الغد.

وإذ يعتمد الباحث في تحليله على مناهج محكمة، وبتمثل لمفاهيم نقدية ونسقية ملائمة للتحليل وقراءة النصوص؛ فإنه يولي عناية خاصة للذائقة بوصفها، عنده، أداةً وغربالاً تصبح كما يوضح منهجاً للعمل واستعداداً فطرياً يُمتحن ويتغذّى باستمرار، مشيراً إلى أنها أعلى مرتبةٍ يمكن أن يصل إليها دارسُ الأدب والناقد، حين تختمر ثقافتُه فتعطي زُبدتهَا بما هو أكبرُ من النظريات وأدقُّ من رطانة المصطلحات ومهارةِ وربما حذلقةِ التنقل بين المناهج لاختبار النصوص وتقليبها على وجوهٍ ومواضعَ شتى.

وقدم المديني دراسات تسجل خلاصة ملاحظات واستنتاجات من عِشرةٍ طويلة له مع النصوص وحوارٍ معها بين «أُلفة وجدل» كما يقول، مشيراً إلى أنه أراد أن يتجاور النظريّ والتحليليّ ويتفاعلان ذهاباً وإياباً، مع عنايته أكثر بالثاني لأنه مضمارُ القراءة ومِحَكُّها ومختبرُ محاليلِ كيمياءِ النص الروائي جزءاً وكلّاً.

واشتمل الكتاب على مجموعة مواضيع وعناوين كبرى وأخرى فرعية ترسم خريطةً مجملةً تتوزع على جغرافيتها القضايا المحوريةُ للرواية العربية سواء في وضعها التاريخي الكلاسيكي، أو في خط تخلّقها المستمرِّ على نهج ما تطمح إليه أو تحققه من حداثة نسبية.

ويؤكد المديني أيضاً على خصوصية ما سماه «القراءة المونوغرافية» التي «تتفرد ولا تدّعي الشمول، وفي الوقت نفسه فهي قابلةٌ لأن تتحول إلى مرصد قراءة عامة ودليلِ سير لذائقة أدبية مدرّبةٍ وعالمةٍ وتركيبيةٍ لتضع السردَ العربيَّ العصريّ في موقعه الصحيح بلا تزيُّد ومبالغة، وتنظيرُه وتذوُّقُه وتقويمُه منبثقٌ من قلب النصوص، أولاً، ومرجعياتها وخلفياتها، ثانياً، بما يمُكّن من الجمع بين الجمالي واستقصاء المعاني في دائرة الأدب العربي شاملاً، مرةً، وقُطرياً، مرة أخرى. فالتفاوت، كما يؤكد الناقد، موجودٌ ومفروض، وإن كنا لا نرى له مكاناً في المستوى الفني ولا تنسيباً».

وكانت قد صدرت للمديني مجاميع قصصية، وروايات، ودواوين شعر، ودراسات أكاديمية، إضافة إلى كتب نقدية لمدوّنة سردية مغربية ومشرقية، وأعمال مترجمة.