قبل تمجيد الديمقراطية

فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

قبل تمجيد الديمقراطية

فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)

يتم تناول الديمقراطية - في معظم الأوساط الفكرية - بوصفها النموذج الأمثل للحكم وإدارة الشأن السياسي. وهي التطبيق الأكثر نضجاً للنمط العقلاني الذي فضّله ماكس فيبر على النمطين التقليدي (الذي يمثله الحكم الوراثي) والكاريزمي (الذي يقوم على القائد الملهم). وبتطبيق الديمقراطية في معظم الدول الغربية، أصبحت تُسوّق بوصفها النموذج الناضج والمتقدم مقابل النماذج المتخلفة، لدرجة استهجان مجرد مقارنة الديمقراطية مع غيرها من نماذج الحكم. فبمجرد أن تقارن الديمقراطية بغيرها، فإنك تضع نفسك في موضع السخرية من قبل العامة قبل النخبة.
لسنا هنا بوارد محاسبة الديمقراطية، ولا حتى مقارنتها بغيرها من نماذج الحكم، فالنقطة الأساسية التي يجدر أخذها في الاعتبار أن الديمقراطية جزء من منظومة متكاملة تقوم على فكرة جوهرية تشمل المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى السياسي. وعليه، يصعب تصور فكرة اقتطاع الشق السياسي من الفكرة الجوهرية وزرعه في مجتمع غريب عنه وتغذيته باقتصاد لا يتوافق معه.
إن الفكرة الجوهرية التي تستقي الديمقراطية شرعيتها منها هي الفردانية (Individualism) التي تؤكد القيمة المعنوية للفرد وحرية خياراته واستقلالية أفعاله مقابل اعتماده على ذاته وتحمله مسؤولية تلك الحرية التي تعد فوق كل اعتبار بما في ذلك مصلحة الجماعة. ولتنظيم ذلك، يتم سن قوانين تحد من طغيان فرد على آخر بسبب قدرته على ممارسة الحرية بشكل قد يؤدي الآخرين. يتم سن تلك القوانين من أجل حفظ العقد الاجتماعي الذي عبر عنه جان جاك روسو بأنه النظام الذي لا يعتدي القوي فيه على من هو أضعف منه، مقابل أنه سيضمن الحماية ممن هو أقوى منه.
أخذت الفردانية شرعية دينية في الأوساط المسيحية من خلال الحركات البروتستانتية التي بدأت بمعارضة الكنسية الكاثوليكية ورفض مبدأ الوساطة بين الفرد والرب، وكيف أن علاقة المؤمن بربه مباشرة ولا تحتاج لوسيط يستمع للاعتراف بالخطايا ويمنح صكوك الغفران. وبمرور الزمن، اصطبغت المجتمعات ذات الأغلبية البروتستانتية بالصبغة الفردية التي شجعت أفرادها على اكتساح السوق في الاقتصاد الرأسمالي، الذي يقوم على حرية الفرد في الكسب مقابل تحمله المسؤولية كاملة في المخاطرة التجارية. وهذا ما بيّنه ماكس فيبر بالتفصيل في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح رأس المال». بالمقابل، فإن النزعة الفردانية جعلت من قرارات مصيرية مثل الانتحار أسهل بكثير، حيث إن قرار إنهاء الحياة مسألة شخصية ولا تخضع لحسابات الجماعة، وهذا ما بينه إميل دوركهايم في كتابه «الانتحار».
إن الثورة الصناعية التي تقوم على اقتصاد السوق وتتطلب نزعة الرأسمالية (فردية) يكون فيها صاحب رأس المال حراً في اتخاذ قرار المخاطرة للحصول على الثروة، ويكون الفرد حراً في مثابرته ليتحول إلى صاحب رأسمال بدلاً من أجير. هذه النزعة الفردانية في الاقتصاد تحتاج إلى نظام سياسي يتلاءم معها ويقدم حرية الفرد في العملية السياسية، وهذا ما توفره الديمقراطية. فالفرد حرٌ في ترشيح نفسه لتمثيل مصالح المجموعة التي تشاركه الرؤى والأهداف، مقابل الأفراد الآخرين الذين يمثلون مجموعات تختلف معهم في رؤاها وأهدافها. بالمقابل، فالأفراد احرار في اختيار المجموعات التي يشعرون بأنها تتقاطع معهم، والمرشحين الذين يمثلون تطلعاتهم.
هذا المناخ السياسي الذي يحمي السوق الرأسمالية، يحتاج إلى مجتمع يؤمن بالحرية الفردية على جميع الأصعدة، بدءاً بالفرد في حياته الشخصية، مروراً بالمدرسة والحي، حتى يصل إلى الاقتصاد والدولة. بالتالي، فإن الفرد يدافع عن حريته الشخصية ويرفض فرض القيود عليها، إلا في حال كون ممارسته لحريته الشخصية يستلزم انتهاك حرية شرائح أخرى من المجتمع، في مثل هذه الحالات يتدخل القانون ليفرض قرار الأغلبية ضمن إطار العملية الديمقراطية. وهذا ما يستدعي وجود مجتمع ليبرالي، يؤمن بحرية الفرد في أموره الشخصية، ومنها: حرية اختيار الدين، الميول الجنسية، المظهر (الملبس وقصات الشعر والألوان…)، وكل ما يمكن اعتباره في حدود الخيار الشخصي بعيداً عن المنظومات الأخلاقية القائمة على الدين أو العرف الاجتماعي التقليدي.
إن الديمقراطية بوصفها حرية الفرد في اختيار من يعبر عن تطلعاته، قادرة على حماية الرأسمالية التي تمثل التنافس بين الأفراد في جني الثروات، والتي تحمي خصوصية الفرد في ممارسة حريته الشخصية في حياته اليومية. لا يمكن تصور ديمقراطية على النسق الغربي دون نظام اقتصادي رأسمالي مشابه لذاك الموجود في تلك الدول، ولا يمكن لنظامين سياسي واقتصادي أن ينجحا دون حاضنة اجتماعية تمجد حرية الفرد فوق سلطة الدين والأخلاق، والعرف، التي تتحول إلى مجرد خيار فردي يحتاج الفرد إلى تسويقه بين الأفراد وسن قوانين تحمي ذلك الخيار.
ما سبق يساعدنا في فهم أسباب فشل الديمقراطية بكثير من الدول التي حاولت استيرادها أو تم فرضها عليها من قبل قوى خارجية. فالديمقراطية التي يتم فرضها بالاستيراد من قِبل النخبة المحلية أو الاحتلال الأجنبي لا تستطيع أن تصمد أمام واقع الشعوب التي لا تقدم حرية الفرد على الجماعة. ولنا في مثال العراق في مرحلة ما بعد 2003 خير مثال، حيث تحولت الديمقراطية إلى وسيلة لتقوية القيادات التقليدية تحت شعار حماية الطائفة وحماية العشيرة. والنموذج الأفغاني ليس بعيداً عن نظيره العراقي. وهذا ما نجده في بعض دول الخليج التي لديها انتخابات برلمانية، حيث يتم العزف على وتر القبيلة والمذهب بعبارات عاطفية على غرار «تكفون، طالبكم…» لتتم تعبئة الجماهير بشكل جماعي ونزع جوهر الفرد منهم، بل تحويل المختلف إلى شخص منبوذ يتم تجريده من كل مميزات عضوية الجماعة.
قد يعترض البعض مستشهداً بالنموذج الصيني الناجح رأسمالياً، ولكنه لا يعترف بالديمقراطية، بل ويفرض قيوداً على الحرية الشخصية بالذات في مسألة الإنجاب. الواقع أن النظام الاقتصادي في الصين ليس رأسمالياً بالمعنى الحقيقي، وإنما تتبع الصين ما يسمى رأسمالية الدولة (State capitalism)، حيث يحتفظ الحزب الحاكم بالسيطرة على المجال العام في البلاد على جميع الأصعدة، وتكون الدولة هي المالك والمدير لمعظم القوى المنتجة. تنتفي الرأسمالية بمعناها الفكري عن الصين، لأن الاقتصاد الداخلي يظل متحكماً به من قبل الدولة، وهذه قيمة اشتراكية وليست رأسمالية. السؤال الذي يجدر طرحه على النموذج الصيني هو: هل ما زالت الصين اشتراكية أم لا؟ لأن رأسمالية الدولة الصينية تتمثل في التعامل مع الاقتصاد العالمي خارج الحدود، أما في الداخل فهيمنة الحزب الشيوعي تطوق الأفراد بشكل واضح.
أخيراً، وبغض النظر عن الحكم القيمي على الديمقراطية، فإن الوصول إلى نموذج ديمقراطي على النسق الغربي يستلزم الإيمان بثقافة الفرد، وبأنه وحده مسؤول عن نجاحه وإخفاقه بعيداً عن أن ينتظر من الدولة أن تدخل لإنقاذه بشكل مباشر. كذلك فإن الحريات الشخصية تكون فوق سلطة الدين والأخلاق، وذلك لأن الفردانية لا تتجزأ، فالديمقراطية حارس للرأسمالية التي تحتاج إلى مناخ ليبرالي لتبقى.
إن تغوّل الفردانية في المجتمعات الغربية اليوم أدى إلى تطرف الليبرالية ومحاولتها فرض قيم الحرية الفردية بشكل لا يخلو من القمع، فالصحيح قيمياً هو ما يراه الليبراليون، وكل مخالف له يعد متخلفاً، ويتم اتهامه بمحاولة تقييد الحرية الفردية في موضوعات لا تهم كثيراً من أفراد المجتمع. إن هذا التغول تطور طبيعي لتفريغ مفهوم الحرية من محتواه من أجل تكوين ديكتاتورية الجماعة، كما وصف المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل عندما زار الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. ولننظر إلى ديمقراطية الدول الكبرى لنرى احتكار حزبين يتحكمان في ميول الجماهير ويقرران من يترشح لأي منصب، في الوقت الذي لا يملك فيه الفرد القدرة على التغيير، وإن وُجدت على المستوى النظري.
* أستاذ بجامعة غراند فالي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط - واشنطن



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري