قبل تمجيد الديمقراطية

فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

قبل تمجيد الديمقراطية

فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)

يتم تناول الديمقراطية - في معظم الأوساط الفكرية - بوصفها النموذج الأمثل للحكم وإدارة الشأن السياسي. وهي التطبيق الأكثر نضجاً للنمط العقلاني الذي فضّله ماكس فيبر على النمطين التقليدي (الذي يمثله الحكم الوراثي) والكاريزمي (الذي يقوم على القائد الملهم). وبتطبيق الديمقراطية في معظم الدول الغربية، أصبحت تُسوّق بوصفها النموذج الناضج والمتقدم مقابل النماذج المتخلفة، لدرجة استهجان مجرد مقارنة الديمقراطية مع غيرها من نماذج الحكم. فبمجرد أن تقارن الديمقراطية بغيرها، فإنك تضع نفسك في موضع السخرية من قبل العامة قبل النخبة.
لسنا هنا بوارد محاسبة الديمقراطية، ولا حتى مقارنتها بغيرها من نماذج الحكم، فالنقطة الأساسية التي يجدر أخذها في الاعتبار أن الديمقراطية جزء من منظومة متكاملة تقوم على فكرة جوهرية تشمل المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى السياسي. وعليه، يصعب تصور فكرة اقتطاع الشق السياسي من الفكرة الجوهرية وزرعه في مجتمع غريب عنه وتغذيته باقتصاد لا يتوافق معه.
إن الفكرة الجوهرية التي تستقي الديمقراطية شرعيتها منها هي الفردانية (Individualism) التي تؤكد القيمة المعنوية للفرد وحرية خياراته واستقلالية أفعاله مقابل اعتماده على ذاته وتحمله مسؤولية تلك الحرية التي تعد فوق كل اعتبار بما في ذلك مصلحة الجماعة. ولتنظيم ذلك، يتم سن قوانين تحد من طغيان فرد على آخر بسبب قدرته على ممارسة الحرية بشكل قد يؤدي الآخرين. يتم سن تلك القوانين من أجل حفظ العقد الاجتماعي الذي عبر عنه جان جاك روسو بأنه النظام الذي لا يعتدي القوي فيه على من هو أضعف منه، مقابل أنه سيضمن الحماية ممن هو أقوى منه.
أخذت الفردانية شرعية دينية في الأوساط المسيحية من خلال الحركات البروتستانتية التي بدأت بمعارضة الكنسية الكاثوليكية ورفض مبدأ الوساطة بين الفرد والرب، وكيف أن علاقة المؤمن بربه مباشرة ولا تحتاج لوسيط يستمع للاعتراف بالخطايا ويمنح صكوك الغفران. وبمرور الزمن، اصطبغت المجتمعات ذات الأغلبية البروتستانتية بالصبغة الفردية التي شجعت أفرادها على اكتساح السوق في الاقتصاد الرأسمالي، الذي يقوم على حرية الفرد في الكسب مقابل تحمله المسؤولية كاملة في المخاطرة التجارية. وهذا ما بيّنه ماكس فيبر بالتفصيل في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح رأس المال». بالمقابل، فإن النزعة الفردانية جعلت من قرارات مصيرية مثل الانتحار أسهل بكثير، حيث إن قرار إنهاء الحياة مسألة شخصية ولا تخضع لحسابات الجماعة، وهذا ما بينه إميل دوركهايم في كتابه «الانتحار».
إن الثورة الصناعية التي تقوم على اقتصاد السوق وتتطلب نزعة الرأسمالية (فردية) يكون فيها صاحب رأس المال حراً في اتخاذ قرار المخاطرة للحصول على الثروة، ويكون الفرد حراً في مثابرته ليتحول إلى صاحب رأسمال بدلاً من أجير. هذه النزعة الفردانية في الاقتصاد تحتاج إلى نظام سياسي يتلاءم معها ويقدم حرية الفرد في العملية السياسية، وهذا ما توفره الديمقراطية. فالفرد حرٌ في ترشيح نفسه لتمثيل مصالح المجموعة التي تشاركه الرؤى والأهداف، مقابل الأفراد الآخرين الذين يمثلون مجموعات تختلف معهم في رؤاها وأهدافها. بالمقابل، فالأفراد احرار في اختيار المجموعات التي يشعرون بأنها تتقاطع معهم، والمرشحين الذين يمثلون تطلعاتهم.
هذا المناخ السياسي الذي يحمي السوق الرأسمالية، يحتاج إلى مجتمع يؤمن بالحرية الفردية على جميع الأصعدة، بدءاً بالفرد في حياته الشخصية، مروراً بالمدرسة والحي، حتى يصل إلى الاقتصاد والدولة. بالتالي، فإن الفرد يدافع عن حريته الشخصية ويرفض فرض القيود عليها، إلا في حال كون ممارسته لحريته الشخصية يستلزم انتهاك حرية شرائح أخرى من المجتمع، في مثل هذه الحالات يتدخل القانون ليفرض قرار الأغلبية ضمن إطار العملية الديمقراطية. وهذا ما يستدعي وجود مجتمع ليبرالي، يؤمن بحرية الفرد في أموره الشخصية، ومنها: حرية اختيار الدين، الميول الجنسية، المظهر (الملبس وقصات الشعر والألوان…)، وكل ما يمكن اعتباره في حدود الخيار الشخصي بعيداً عن المنظومات الأخلاقية القائمة على الدين أو العرف الاجتماعي التقليدي.
إن الديمقراطية بوصفها حرية الفرد في اختيار من يعبر عن تطلعاته، قادرة على حماية الرأسمالية التي تمثل التنافس بين الأفراد في جني الثروات، والتي تحمي خصوصية الفرد في ممارسة حريته الشخصية في حياته اليومية. لا يمكن تصور ديمقراطية على النسق الغربي دون نظام اقتصادي رأسمالي مشابه لذاك الموجود في تلك الدول، ولا يمكن لنظامين سياسي واقتصادي أن ينجحا دون حاضنة اجتماعية تمجد حرية الفرد فوق سلطة الدين والأخلاق، والعرف، التي تتحول إلى مجرد خيار فردي يحتاج الفرد إلى تسويقه بين الأفراد وسن قوانين تحمي ذلك الخيار.
ما سبق يساعدنا في فهم أسباب فشل الديمقراطية بكثير من الدول التي حاولت استيرادها أو تم فرضها عليها من قبل قوى خارجية. فالديمقراطية التي يتم فرضها بالاستيراد من قِبل النخبة المحلية أو الاحتلال الأجنبي لا تستطيع أن تصمد أمام واقع الشعوب التي لا تقدم حرية الفرد على الجماعة. ولنا في مثال العراق في مرحلة ما بعد 2003 خير مثال، حيث تحولت الديمقراطية إلى وسيلة لتقوية القيادات التقليدية تحت شعار حماية الطائفة وحماية العشيرة. والنموذج الأفغاني ليس بعيداً عن نظيره العراقي. وهذا ما نجده في بعض دول الخليج التي لديها انتخابات برلمانية، حيث يتم العزف على وتر القبيلة والمذهب بعبارات عاطفية على غرار «تكفون، طالبكم…» لتتم تعبئة الجماهير بشكل جماعي ونزع جوهر الفرد منهم، بل تحويل المختلف إلى شخص منبوذ يتم تجريده من كل مميزات عضوية الجماعة.
قد يعترض البعض مستشهداً بالنموذج الصيني الناجح رأسمالياً، ولكنه لا يعترف بالديمقراطية، بل ويفرض قيوداً على الحرية الشخصية بالذات في مسألة الإنجاب. الواقع أن النظام الاقتصادي في الصين ليس رأسمالياً بالمعنى الحقيقي، وإنما تتبع الصين ما يسمى رأسمالية الدولة (State capitalism)، حيث يحتفظ الحزب الحاكم بالسيطرة على المجال العام في البلاد على جميع الأصعدة، وتكون الدولة هي المالك والمدير لمعظم القوى المنتجة. تنتفي الرأسمالية بمعناها الفكري عن الصين، لأن الاقتصاد الداخلي يظل متحكماً به من قبل الدولة، وهذه قيمة اشتراكية وليست رأسمالية. السؤال الذي يجدر طرحه على النموذج الصيني هو: هل ما زالت الصين اشتراكية أم لا؟ لأن رأسمالية الدولة الصينية تتمثل في التعامل مع الاقتصاد العالمي خارج الحدود، أما في الداخل فهيمنة الحزب الشيوعي تطوق الأفراد بشكل واضح.
أخيراً، وبغض النظر عن الحكم القيمي على الديمقراطية، فإن الوصول إلى نموذج ديمقراطي على النسق الغربي يستلزم الإيمان بثقافة الفرد، وبأنه وحده مسؤول عن نجاحه وإخفاقه بعيداً عن أن ينتظر من الدولة أن تدخل لإنقاذه بشكل مباشر. كذلك فإن الحريات الشخصية تكون فوق سلطة الدين والأخلاق، وذلك لأن الفردانية لا تتجزأ، فالديمقراطية حارس للرأسمالية التي تحتاج إلى مناخ ليبرالي لتبقى.
إن تغوّل الفردانية في المجتمعات الغربية اليوم أدى إلى تطرف الليبرالية ومحاولتها فرض قيم الحرية الفردية بشكل لا يخلو من القمع، فالصحيح قيمياً هو ما يراه الليبراليون، وكل مخالف له يعد متخلفاً، ويتم اتهامه بمحاولة تقييد الحرية الفردية في موضوعات لا تهم كثيراً من أفراد المجتمع. إن هذا التغول تطور طبيعي لتفريغ مفهوم الحرية من محتواه من أجل تكوين ديكتاتورية الجماعة، كما وصف المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل عندما زار الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. ولننظر إلى ديمقراطية الدول الكبرى لنرى احتكار حزبين يتحكمان في ميول الجماهير ويقرران من يترشح لأي منصب، في الوقت الذي لا يملك فيه الفرد القدرة على التغيير، وإن وُجدت على المستوى النظري.
* أستاذ بجامعة غراند فالي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط - واشنطن



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي