المصالحة التاريخية بين الفلسفة والدين

الباحث الكندي ريشار باستيان يؤكد أهميتها في بناء عالم جديد

TT

المصالحة التاريخية بين الفلسفة والدين

ربما كنا نعتقد أن الغرب كله ماديّ، إلحاديّ، محض. لا ريب في أن التيار الغالب هو هكذا. ولكن هناك تيار آخر لا يستهان به هو تيار العلم والإيمان. هذا ما يقوله لنا الباحث الكندي ريشار باستيان، مدير الجمعية الكاثوليكية لحقوق الإنسان (منطقة أوتاوا). فهو يقول إنه يوجد في الغرب علماء كبار ولكنهم في ذات الوقت مؤمنون بالله والدين والقيم العليا المتعالية التي تتجاوز الماديات على عكس فلاسفة الإلحاد. من أهمهم جون نيومان، وغلبيرت تشيستيرتون، وكلايف لويس، وآخرون. وجميعهم إنجليز وأميركان. وقد انتقدوا بعمق تطرفات الحداثة وضلالاتها وخروجها عن السكة الصحيحة. ثم يضيف: «عالمنا ليس بحاجة إلى إصلاحات سياسية أو اقتصادية بقدر ما هو بحاجة إلى إصلاحات دينية ومعالجات روحانية. وهو يقصد بذلك العالم الغربي بالدرجة الأولى لأنه تخلى كلياً عن الدين والروحانيات وعدّها أشياء «رجعية» عفا عليها الزمن وأصبحت من مخلفات الماضي. ويرى هذا الباحث أن علّة الحضارة الغربية الحديثة هي نسيان الإيمان والروحانيات نسياناً كاملاً والغرق في الإباحية المادية والشهوات الشذوذية. ويرى الباحث أن هناك أربعة تصورات فيما يخص العلاقة بين الإيمان والعقل. هذه التصورات هي التالية:
أولاً- الإيمان المطلق الأعمى بلا عقل ولا فكر ولا بصيص نور. وأصحاب هذا الموقف يعتقدون أننا بحاجة إلى الإيمان فقط دون العقل. فالإيمان وحده يكفي ولسنا بحاجة إلى أي شيء آخر. وهذا ما يُدعى الجهل المقدس. وهو الذي كان مهيمناً على الغرب المسيحي في القرون الوسطى أيام محاكم التفتيش ولا يزال مهيمناً على العالم الإسلامي حتى اليوم (انظر الدواعش).
ثانياً- هناك الموقف المضاد تماماً، وهو موقف الحداثة المتطرفة الذي يقول بأن العقل وحده يكفي للتوصل إلى الحقيقة ولسنا بحاجة إلى أي شيء آخر سواه: لا دين ولا إيمان ولا عوالم ميتافيزيقية ولا من يحزنون...
ثالثاً- موقف ما بعد الحداثة. وهو يتبنى موقف النسبوية الأخلاقية أو العدمية الأخلاقية في الواقع. بمعنى أن كل شيء يتساوى مع كل شيء، ولا شيء أفضل من شيء. الشذوذ واللاشذوذ سيان. إنه يميّع كل المواقف. ولذلك قلنا بأنه نسبويّ عدميّ وسوف يدمّر الحضارة الغربية إذا ما استفحل أمره أكثر من اللزوم.
رابعاً- الموقف الإيماني الصحيح الذي يقول بأن العقل والإيمان معاً ضروريان للتوصل إلى الحقيقة والعيش الطيب الكريم على هذه الأرض. وبالتالي فلا العقل وحده يكفي ولا الإيمان وحده يكفي وإنما يلزمنا الاثنان معاً. وهذا هو الموقف السليم.
لسوء الحظ فإن المؤلف وضع الإسلام كله في الخانة الأولى: أي خانة الإيمان المطلق الأعمى بلا عقل. وهذا خطأ كبير. فالإسلام هو دين العقل بامتياز إذا ما فهمناه بشكل صحيح على طريقة المعتزلة والفلاسفة وكبار الروحانيين لا على طريقة التيارات الإخوانية الظلامية المتطرفة. قبل أن نتحدث عن هذا الخطأ أو النقص الذي اعترى تصورات الباحث عن الإسلام دعونا نستعرض فكرته كما هي ثم نحكم عليها لاحقاً. ماذا يقول بالضبط؟ إنه يقول لنا ما معناه: بدءاً من منتصف القرن التاسع الميلادي راح بعض علماء الدين المسلمين يرفضون العقل من خلال رفض الفلسفة الإغريقية ومحاربتها وتكفيرها. وهذا ما أدى إلى تصور الكون على أساس أنه مسيَّر بشكل تعسفي اعتباطي ومفرغ من كل عقلانية. ومع مرور الزمن راحوا يرفضون حتى فكرة السببية. ومعلوم أنه لا عقلانية من دون سببية. نضرب على ذلك مثلاً العالم الديني الشهير الغزالي الذي أنكر قانون السببية وهاجم الفلاسفة وبخاصة ابن سينا لأنهم تأثروا بفلاسفة الإغريق كأفلاطون وأرسطوطاليس. ومن يُنكر قانون السببية المنطقية فهذا يعني أنه يؤيد قانون التعسفية الاعتباطية. بدءاً من تلك اللحظة انطفأت أنوار العالم الإسلامي وانتقل مشعل الحضارة إلى أوروبا.
ماذا يمكن أن نقول عن هذا الكلام؟ عدة أشياء. أولاً: صحيح أن الفقهاء هاجموا الفلسفة اليونانية في القرن التاسع الميلادي، بل حتى قبله، ولكنّ الفلسفة العربية لم تتوقف في القرن التاسع وإنما استمرت حتى القرن الثاني عشر وانتهت بموت ابن رشد عام 1198. ثانياً: إذا كان الفقهاء قد هاجموا الفلسفة والعقلانية السببية وقالوا بأن الإيمان المطلق وحده يكفي فإن الفارابي ومن بعده ابن سينا اتخذا موقفاً مغايراً وقالا بضرورة الجمع بين الإيمان والعقل، أو بين الفلسفة والدين. وهذا ما فعله ابن رشد أيضاً بعدهما في كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». المقصود بالحكمة هنا: الفلسفة. وبالتالي فقد جمع فلاسفة الإسلام الكبار من أمثال الفارابي وابن سينا وابن الطفيل وابن رشد وابن باجة... إلخ، بين الإيمان والعقل، أو بين الدين والفلسفة ولم يقولوا أبداً بأن الإيمان (على العميانة) بلا عقل يكفي. هذا رد مفحم على أطروحة الباحث الخاطئة عن الإسلام. لكن يبقى صحيحاً القول بأن تيار الغزالي هو الذي انتصر وليس تيار الفارابي وابن سينا وابن رشد. وهو الذي ساد كل العصور الانحطاطية وهيمن على العالم الإسلامي منذ القرن الثالث عشر حتى يومنا هذا. وإلا كيف يمكن أن نفسر سبب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم؟ كيف يمكن أن نفسّر سبب انتشار الحركات الأصولية إلى مثل هذا الحد حتى في عز القرن الحادي والعشرين؟ نضيف بأن تيار المعتزلة الذي يجهله المؤلف كلياً على ما يبدو جمع أيضاً بين الإيمان والعقل بشكل رائع ومدهش. ومعلوم أن المعتزلة هم أكثر المذاهب عقلانية ونضجاً في الإسلام. ولكنهم أُبيدوا بعد أن تغلب التيار الأصولي كلياً عليهم وسحقهم وأحرق كتبهم في الأمصار. لماذا لا يوجد معتزلة اليوم مثلما يوجد سنة وشيعة وإباضية... إلخ؟ لماذا انقرضوا؟ لا أحد يطرح هذا السؤال. لا أحد يتساءل: لماذا انتصر الأصوليون انتصاراً مطلقاً على العقلانيين (أعتذر عن خطأ وقع في مقالتي السابقة عن «مجلة الإسلام في القرن الحادي والعشرين» حيث ورد اسم تقي الدين السيوطي في حين أنه جلال الدين السيوطي العلّامة الأصوليّ الشهير).
ثم نلاحظ أن الباحث لا يكتفي بمهاجمة الإسلام ككل بغير حق وإنما يهاجم أيضاً المذهب البروتستانتي في المسيحية. وهذا أكبر دليل على مدى تعصبه لمذهبه الكاثوليكي البابوي. وذلك لأن المذهب البروتستانتي هو العدو اللدود للمذهب الكاثوليكي في أوروبا أو قل كان عدوه اللدود طيلة عدة قرون قبل أن يتصالحا أخيراً بفضل تطور الوعي واستنارة الشعوب الأوروبية. وقد كان المذهب البروتستانتي أقرب إلى العقلانية من المذهب الكاثوليكي على عكس ما يدّعي الباحث. ولم يحارب العلماء والفلاسفة مثله. ولكن ينبغي الاعتراف بأن المذهب الكاثوليكي بذل جهوداً جبارة لاحقاً وتصالح مع العقلانية والحداثة والعصر واعتذر لغاليليو وداروين، إلخ. وهذا شرف له. بل اعتذر عن المجازر الطائفية التي أنزلها بالبروتستانتيين «الزنادقة» بخاصة مجزرة «سانت بارتيليمي» الشهيرة في قلب باريس (1572). ويُشكر أيضاً على الجهود التي بذلها للتصالح مع المذهب البروتستانتي، بل حتى مع الإسلام وبقية الأديان كاليهودية والبوذية والهندوسية، إلخ. انظر القرارات الجريئة للمجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني (1962 - 1965). وهذه ثورة لاهوتية تحريرية ضخمة (ليتها تحصل عندنا في الإسلام أيضاً. بل إنها حصلت مؤخراً على يد الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. انظر وثيقة الأخوة الإنسانية واتفاق إبراهيم الخليل ووثيقة مكة المكرمة. هذا أيضاً تطور كبير يَعِد بالخير العميم).
أخيراً نلاحظ أن الباحث يهاجم مفكري الحداثة الكبار وعلى رأسهم ديكارت. ولكن ديكارت كان مؤمناً بالله كل الإيمان على طريقته الفلسفية. كما يهاجم نيوتن وجون لوك وفولتير وجان جاك روسو وكانط على الرغم من أنهم كانوا من المؤمنين بالله أيضاً. وما كانوا ملاحدة على الإطلاق. ولم يثوروا على الدين في المطلق ولا على الإيمان في المطلق. وإنما ثاروا فقط على التعصب الديني الذي كان يكتسح أوروبا آنذاك ويكاد يدمرها أو يفتك بها فتكاً ذريعاً. ولذلك خاضوا المعركة ضده على المكشوف وربحوها في نهاية المطاف. فهل نلومهم على ذلك؟ هل نلومهم لأنهم نوّروا شعوبهم وأنقذوها من براثن التعصب الطائفي والمذهبي؟


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».