خامنئي يملي على الشعراء ما يجب أن يقولوا وإلا فهم خونة

وضع ما سماه «خطة شاملة لتطوير الشعر في الجمهورية الإسلامية»

خامنئي
خامنئي
TT

خامنئي يملي على الشعراء ما يجب أن يقولوا وإلا فهم خونة

خامنئي
خامنئي

«هناك أيادٍ تعمل لتحيد بشعرائنا الشباب بعيدا عن مهمتهم الثورية البطولية، وتضعهم في خدمة ثقافة فاسدة»، هكذا كشف آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، الاثنين الماضي عن أحدث مخاوفه. وفقا للمرشد الأعلى، يريد «متآمرون» مجهولون أن يكتب الشعراء الإيرانيون عن «الرغبات الجنسية، والجمال الجسدي والمكاسب الشخصية وحتى مدح القسوة».
كان خامنئي يخاطب مجموعة من الشعراء في واحدة من الفعاليات التي ينظمها كل عام ويكون الحضور فيها للمدعوين فقط. حدد خامنئي، وهو نفسه شاعر رغم أنه يخجل حتى الآن من إظهار أعماله خارج نطاق دوائر صغيرة، خريطة طريق لما وصفه بـ«خطة شاملة لمزيد من تطوير الشعر في الجمهورية الإسلامية».
وطالب الحكومة بتوفير الموارد اللازمة لتشجيع الشعراء على البعد عن «الموضوعات التافهة، مثل الجمال الجسدي والحب. وينبغي للشاعر الإسلامي المعاصر»، بحسب اعتقاده، أن يستخدم الشعر كـ«سلاح في حرب الحق ضد الباطل».
لا يزال بعض الشعراء يكتبون عن شعر وأعين وجسد المحبوب ويصورون مشاهد الفرح عندما يلتقي العاشقون ليشربوا ويرقصوا ويشعروا بالمرح، ولكن هذا ليس هو نوع الشعر الذي تريده الحركة الإسلامية، التي تربت على فكرة الجهاد والشهادة.
قال آية الله: «الشعر الذي نريده لا بد أن يكون في خدمة أهداف الثورة.. اليوم، وحدهم الشعراء الذين يهدفون لقيادة الأمة إلى ساحة المعركة ضد الطغيان، هم من يعتبرون من ذوي القيمة». وأضاف آية الله: «في هذا السياق، تقتضي الحاجة بوجه خاص قصائد عن اليمن والبحرين ولبنان وغزة وفلسطين وسوريا».
ويلفت آية الله إلى أنه، من بواعث الأسف، أن شعراء إيرانيين قلائل هم من يكتبون عن هذه «الموضوعات الحيوية». ولكن الأسوأ رغم هذا، أن بعض الشعراء قد تم استدراجهم إلى الوقوف في صف «جبهة الباطل» وهم في هذه الحالة مذنبون بـ«جريمة وخيانة» وليس لهم مكان في الجمهورية الإسلامية.
في الواقع، خامنئي ليس أول حاكم لإيران يكون الشعراء في مشكلة معه، فعلى مدار 12 قرنا كان الشعر أداة التعبير الأساسية بالنسبة إلى الشعب الإيراني. وقد تكون إيران البلد الوحيد الذي ليس به بيت واحد إلا وفيه ديوان شعر واحد على الأقل.
في البداية، مر الشعراء الفارسيون بفترة عصيبة لتعريف مكانهم في المجتمع. كانت تساور الحكام الذين تحولوا حديثا إلى اعتناق الإسلام شكوك بأن الشعراء يحاولون إحياء الديانة الزرادشتية لتقويض الدين الجديد. ورأى رجال الدين في الشعراء أناسا يرغبون في الحفاظ على اللغة الفارسية كلغة حية ومن ثم تخريب اللغة العربية كلغة مشتركة جديدة. ومن دون الشعراء الفارسيين الأوائل، ربما كان قد انتهى الأمر بالإيرانيين مثل كثير للغاية من الأمم الأخرى في الشرق الأوسط التي فقدت لغاتها الأصلية وأصبحت ناطقة بالعربية.
وقد طور الشعراء الفارسيون مبكرا استراتيجية لكبح جماح تشدد الحكام والملالي، حيث بدأوا كل قصيدة بمديح الله والرسول ثم يعقبون ذلك بمديح للحكام المعاصرين. وبمجرد الانتهاء من «تلك الالتزامات» ينتقلون إلى الموضوعات الحقيقية للقصائد التي يرغبون بنظمها.
كان الجميع يعرف أنها خدعة، ولكن الجميع كانوا يقبلون النتيجة لأنها جيدة.
وعلى رغم هذه التسوية فقد انتهى الحال ببعض الشعراء إلى السجن أو المنفى، بينما قضى آخرون كُثر حياتهم في مشقة، إن لم يكن في عوز. ومع هذا، فلم يكن السيف يسلط على رقاب الشعراء أبدا. ونظام الخميني هو أول نظام في تاريخ إيران يقوم بإعدام كل هذا العدد من الشعراء.
وسواء بالتلميح أو التصريح، كان بعض الحكام يبينون بوضوح الخطوط الحمراء أمام الشعراء، لكنهم لم يحلموا أبدا بأن يملوا على الشاعر ماذا عليه أن يكتب، وخامنئي هو أول من يحاول أن يملي على الشعراء ما يقولون، ويتهمهم بـ«الجريمة» و«الخيانة» إذا ما أداروا ظهورهم لتعليماته.
إن فكرة استغلال الشعر كسلاح لخدمة آيديولوجية معينة ليست بجديدة، ففي الاتحاد السوفياتي الغابر كان يتم تقديم هذه الفكرة تحت شعار «الواقعية الاشتراكية» في خدمة ثورة البروليتاريا العالمية. وكان اثنان من مستشاري ستالين الأدبيين، وهما أندريه زادانوف وأليكساندر فاديف يروجان للنظرية القائلة بأنه قبل الشيوعية لم يكن الأدب الإنساني سوى «ضباب من الخرافات والأكاذيب» يخدم الإقطاع، وفي وقت لاحق، النظام الرأسمالي البرجوازي.
وكتب فادييف يقول إن «الإكليشيه أو المقولة الشائعة عن الفن من أجل الفن ما هي إلا خدعة برجوازية لحرمان الكادحين من استخدام الأدب كسلاح في الصراع الطبقي».
وقد وقع كثيرون، من بينهم بعض الشعراء الحقيقيون من أمثال فلاديمير ماياكوفسكي، لفترة من الزمن في غواية الواقعية الاشتراكية.
ولكنه سرعان ما أدرك ماياكوفسكي أن «التكليف» جاء من المندوبين السوفيات وليس الشعب، ما دفع به للانتحار.
لم تنتج واقعية ستالين الاشتراكية أي أعمال أدبية باقي، فحتى ماياكوفسكي بات طي النسيان الآن. وبدلا من هذا، فإن شعراء «البرجوازية» و«الثورة المضادة» مثل مانديلستام وأخماتوفا وباستيرناك وتسيفيايفا، وصديقي الراحل جوزيف برودسكي يظلون نجوما مضيئة في سماء الشعر الروسي.
وبعد أربعة عقود خلت على قيام الملالي بتكوين الجمهورية الخمينية، فإن ثورتهم لم تنجب شاعرا واحد يستحق لقب الشاعر.
ولم ينتج الخميني وخامنئي، وكلاهما من الشعراء الهواة، أي شيء إلا أعمال محاكاة محرجة بوضوح لشعر الغزل الكلاسيكي من دون أن تحمل شيئا من بهاء هذا الشعر.
في المنفى يعيش كل من تبقى من الشعراء الكبار من عهد ما قبل الثورة ومن بينهم هوشانغ ابتهاج ومانوشهر يكتاي، ويد الله رويعي وإسماعيل خوي ومحمد جلالي وهادي خورسندي.
أما في داخل إيران، فقد أعدم النظام بعض الشعراء الشباب الواعدين من أمثال سعيد سلطان بور وحيدر مهريغان، ومؤخرا جدا، هشام شعباني، ولكن هؤلاء حازوا على شعبية بعد مماتهم أكثر من أي شاعر مرحب به من جانب النظام.
وفي نفس الوقت، فإن جميع الشعراء الإيرانيين، من القرن التاسع إلى يومنا هذا، إما خاضعون للرقابة، أو في حالات نادرة، محظورون بشكل كامل من قبل الملالي. ومعظم شعراء المائة سنة الأخيرة مدرجون على قوائم سوداء كثيرة من إعداد الوزارة المسماة على نحو متناقض بوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
ومع هذا، يطالب خامنئي الحكومة بتجهيز خطة، وتخصيص الموارد، وزيادة إنتاج الشعر، كما لو كانوا أجهزة الطرد المركزي التي تنتج اليورانيوم المخصب.
من جهته، تساءل فيريدون موشيريني، وهو واحد من أشهر شعراء إيران ما بعد الثورة: «كيف لأي إنسان أن يقول لي أي القصائد أكتب، بينما أنا نفسي لا أعرف ما أكتب حتى انتهي من كتابته؟». ومضى يقول: «الشاعر لا يعمل بمقتضى خطة. إن ملاكا غير مرئي يسيطر عليه، يوجهه إلى المكتب ويدفعه للكتابة».
ومهما يكن أمر من تعمل لصالحه، فإن «مصدر الوحي غير المرئي» هو بالتأكيد ليس عضوا بالمخابرات الإسلامية.
إن الشعر يفسر فوضى الحياة الإنسانية ويحاول أن يسبغ معنى عليها. ومن دون الخيال لا يمكن أن يوجد أي شعر؛ والخيال المغلول بالآيديولوجيا لا ينتج إلا بروباغندا.
وهذا أحد الأمثلة:
نصرخ: الله، القرآن، الخميني
في طريقنا إلى الشهادة والجنة
نعرف أنه عندما يحين الوقت
لا بد أن ينهض إمامنا الغائب
كان خامنئي من المعجبين الغيورين بمهدي إخوان، أحد أعظم شعراء الفارسية في النصف الثاني من القرن الماضي. لم يكن إخوان يرغب في الرحيل إلى المنفى ومن ثم تم إجباره على التوصل لتفاهم من نوع ما مع الملالي. بالطبع، لم يكن بمقدوره أن ينظم قصائد في مديح النظام الذي مثل بالنسبة له كل ما كان يمقته، وهو التقدمي والفنان العلماني. إنما الشيء الذي كان مستعدا للقيام به، فهو أن يلتقي بخامنئي بين الفينة والأخرى ليستمع إلى أحدث قصائد هذا الأخير.
وأسر في وقت لاحق بهذا الاعتراف: «كان نوعا من التعذيب الناعم». ومع هذا كان دائما ما يرسم خطا أحمر عندما كان خامنئي يحاول أن يملي عليه نوع القصائد الذي يجب أن ينظمه.
وقال إخوان لمجموعة من الأصدقاء خلال زيارة قصيرة إلى باريس: «ربما اضطررت إلى قراءة القصائد التي يكتبها.. ولكن لم يكن ممكنا إرغامي على نظم القصائد من النوع الذي يحب أن يقرأه».
لقد حاول كثير من الشعراء الفاشلين الذين وصلوا إلى السلطة السياسية من قبل خامنئي، أن يملوا على الشعراء ما يكتبون، ومن هؤلاء قاجار نصر الدين شاه والمستبد الصيني ماو تسي تونغ. وقد فشل هؤلاء لأن للشعر عبقرية سحرية تتحدى محاولات تعريفها ناهيك بالتسلط عليها. وكما كتب ريلكه إلى شاعره الشاب التخيلي، فالشعر مثل الحب، يعرف كل واحد ما هو، ولكن أحدا لا يتفق على تعريف له.
وخامنئي، البالغ من العمر 77 عاما، لم يعد يصلح لصورة شاعر ريلكه الشاب. بل قد يهديه شخص ما في عيد ميلاده القادم نسخة من مقال ريلكه الساحر. (هناك ترجمتان ممتازتان له بالفارسية).
ولتأخذ فكرة عن نوع الشعر الذي يعجب خامنئي، هنا ترجمة لقصيدة غزل كتبها محمد رضا نيكوي، وتم إنشادها بحضور «المرشد الأعلى». وهي مكتوبة بالقالب الكلاسيكي لمدح الحكام الطغاة:
في مدحك
عنك تتحاكى الحانات
عند قرع الكؤوس
أنت حقيقتنا الموعدة
في الأساطير والحكايات المنسوجة معا
كل بيت يستحيل مئذنة تدعو إلى الله هو أعظم البيوت
بهذا تتراص بيوتنا معا
وأنت الشمعة التي تحترق بيننا
أي مشهد هذا الذي تجتمع فيه الفراشات
إننا معا كخرزات مسبحة
نصنع سلسلة من الوحدة معا
الحب معجزتك العظيمة
التي جاءت بنا جميعا من بين الأطلال



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).