يحتضن رواق «فيلا دو لابورت»، في الدار البيضاء، معرضاً للفنان التشكيلي المغربي محمد عنزاوي، تحت عنوان: «أصيلة الحلوة»، وذلك بين 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي و31 يناير (كانون الثاني) المقبل.
وعنزاوي من الفنانين الذين خرجوا من رحم مدينة أصيلة (شمال المغرب)، بألوانها وبحرها وأزقتها الموحية بالإبداع. ولد سنة 1964، واختار مغامرة التشكيل، التي يرى أنها السبيل الذي يتفاعل فيه الإنسان مع ذاته ودواخله.
وكتبت منى أنس الحساني، في «كاتالوغ» تقديم المعرض، أن «من يتجول خلف أسوار أصيلة، لا يستطيع الهروب من تأثير هذه الريح الخلاقة التي تخترق الهواء»، بعد أن «امتزجت ذكريات الفنانين الذين ازدهرت أعمالهم على مدى الشواطئ الشاسعة، في تداخل مع ما يوجد داخل أسوار المدينة، جاعلة من أصيلة مكاناً مفضلاً للفنانين ولأولئك الذين لديهم حساسية تجاه إبداعاتهم».
الفنان التشكيلي المغربي محمد عنزاوي (ألبوم الفنان)
وعادت الحساني إلى أول مرة التقت فيها عنزاوي؛ في ورشة للحفر، كان يديرها النحات السوداني محمد عمر خليل، مشيرة إلى أن عمل عنزاوي أثّر فيها بشكل فوري وعميق، فقد كان غنياً وحيوياً ومستقلاً تقريباً، فلم يكن بإمكانها تقريباً فصله عن أسوار المدينة، المغطاة هي الأخرى بالرياح والمحيط والرسومات على الجدران.
وأضافت: «ربطتني كل طبقة من المادة التي تمكنت من تمييزها بحياة قديمة... بإحساس جديد؛ أُقدر كل قطرة، كل نحت، كل شق بين الخدوش والتجريفات؛ قرّبتني عيني المستندة على هذا الطرس الضخم من قلب الفنان ومن قلب المدينة التي كانت تحيط بنا. تماماً كالأسوار التي تآكلت على مر السنين، بدا كأن العمل قد كابد ثقل الزمن، وقد كشف عن نفسه بفضله، دون أن أتمكن من تحديد ما حُدّد، مصاحباً أو متروكاً لتقلبات البحر».
ورأت الحساني أن عنزاوي تأثر بأعمال فنانين مثل سعد الحساني، وفريد بلكاهية، ومحمد المليحي، ومحمد القاسمي، وفؤاد بلامين... «هؤلاء الفنانون الكبار الذين عبروا المغرب، مثله، وكشفوا عن هذه المادة الشعرية الحية التي لا يمكن لعاشق الفن إلا أن يحبها. فنانون شاركوا في مهرجان أصيلة الذي أسسه اثنان من أبناء البلد: محمد بن عيسى، والراحل محمد المليحي». وأضافت: «أتذكر الفرح الذي ساد شوارع وورشات المدينة خلال هذا المهرجان المشحون بالعواطف، والذي ظل دائماً مكاناً للاحتفال، تحت النظرة الحانية للفنانة مليكة اجزناي».
محمد عنزاوي مع لوحة من أعماله (ألبوم الفنان)
من جهته؛ كتب الطاهر بن جلون: «اكتشفت عمل عنزاوي في منزله بقرية بالقرب من أصيلة، ثم في محترفه الذي يتقاسمه مع فنانين آخرين في المدينة. تأثرت بسرعة بالإيماءات والحركة التي تقدمها اللوحة. تصبح اللوحات الكبيرة مسافات يتم اجتيازها؛ كما في الحلم، من خلال العناصر الطائرة، والصور المرسومة بالكاد، والشخصيات الخارجة من ذاكرة (جياكوميتي)، والنجوم المتجولة، وحبات الرمل المتخفية في شكل زهور برية، خصوصاً أملاً عظيماً وجميلاً على الرغم من حالة القلق».
ورأى بن جلون أن «عنزاوي يرسم يدوياً، بعيداً من العمل الفكري، أو لنقل تجريداً». ومع ذلك، يضيف بن جلون، فإن «لوحاته ليست رمزية، حتى وإن كانت المواد المستخدمة تذكرنا بالأرض، ووجه القمر، والفضاء الذي ترجه الرياح التي تعيد الأرض الذهبية أو الملونة بالوردي في وهج يسحرنا. هناك شيء إنساني؛ إنسانية متواضعة، بسيطة وغنية بالمشاعر».
يتحدث بن جلون عن علاقته الأولى بأعمال عنزاوي، فيقول: «عندما أتذكر اللوحات التي رأيتها لأول مرة بعد ظهر أحد الأيام عند غروب الشمس، أتخيل عائلة تمسك بأيديها، على قلب واحد، في مواجهة عزلة العالم».
وزاد بن جلون: «أدرك عنزاوي هذا القلق وترجمه عبر روح الدعابة والسخرية إلى درجة أن العمل يصبح مرآة تعيد إلينا صور سلام طال انتظاره. عالمه هو عالم قلق؛ ولكنه مبتسم... سماء يمثل فيها كل نجم قصة وذكرى لقاء. وسواء كانت فتاة صغيرة تلعب الحجلة أم القفز على الحبل، وسواء كان ذلك رجلاً نحيفاً برأس محدد، أو مجرد رذاذ من الزهور المعدنية، فإن المساحة التي تشغلها هي دعوة لتجاوز ما نراه على الفور؛ لأنه خلف هذه العلامات المتناثرة، هناك طبقة أخرى من الحياة، خيال لا يرضي بسهولة، لا يكتفي بتوضيح أسئلتنا المتعددة والمتنوعة».
وخلص بن جلون إلى الدعوة إلى أن «نظل منتبهين لعمل هذا الفنان بجاذبية رجل يوفق بين الخام والمطبوخ؛ بين الماضي والمستقبل، الأرض والنجوم، خصوصاً عندما تبتكرهم يده بكرم وموهبة وإنسانية».
من جهتها، ترى فاتن صفي الدين، المؤرخة والناقدة الفنية اللبنانية، أن «عنزاوي يكشف عن نفسه، في وضح النهار، في أعمال ناضجة، بارعة، حساسة وقوية. للوهلة الأولى، تلتقط المادة ثراءً وتعقيداً شديدين على الفور».
ولاحظت صفي الدين أن عنزاوي «يتعاطى في أعماله الأخيرة، أكثر من أي وقت مضى، مع المادة، ينشرها أحياناً على لوحات ضخمة، يعيد بها اكتشاف رغبات طفولته الأولى»، قبل أن تنقل عنه قوله: «بالنسبة إلينا جميعاً، نحن أطفال أصيلة، كان البحر والشاطئ لعبنا ولعبتنا الأولى. اللوحة والمواد الخام في الوقت نفسه. نجد هناك الرمل والمياه، الجير والطين، وحتى القطران الذي لفظته المراكب والذي أذهلني بسواده وانعكاساته».
تتحدث صفي الدين عن طفولة عنزاوي، وعلاقته بالبحر والشاطئ الرملي، «حيث تولد اللوحات المتحركة والعابرة، وحيث تمحو موجة دائماً أكثر الهذيان جنوناً، والذي رسم على الجسد الذهبي للشاطئ»، فتقول: «البحر، هنا، مثل الحياة، يستعيد الكنوز التي وهبها. الشاطئ أيضاً منجم لا ينضب للمواد. ولكن هناك أيضاً ما هو أكثر ديمومة ولكن في تغيير دائم؛ جدران المدينة الأطلسية، جسد أبيض مع زرقة، مبيّض في طبقات متتالية تتعرض، تحت هجمة الوقت وسوء الأحوال الجوية، لتشققات تكشف عن آثار ما كان ولم يعد. ما زال عنزاوي وأطفال أصيلة، حتى يومنا هذا، بطرف مسمار أو حصاة، بالخدش والتمزيق والحفر بالرماد أو الطين، يرسمون علامات هم وحدهم من يحمل سرها.
ومثل خليل الغريب ومعاد الجباري وسهيل بن عزوز، وفؤاد بلامين، ابن مدينة فاس، سيبقى الطفل سليماً في أعماق عنزاوي».
وعلى مدار الأيام والمهرجانات، تقول صفي الدين؛ «خالط الشاب عنزاوي الفنانين المكرسين، من جميع الأطياف. تغيرت رؤيته حول الفن وامتهانه. كما سيلتقى كبار المشهد التشكيلي المغربي ويعاين طريقة عملهم. رأى ميلود لبيض وسعد الحساني ومحمد قاسمي. كانت هناك لوحات ضخمة أمام عينيه، وخلط للمواد والأصباغ. كانت نعمة غير متوقعة بالنسبة إلى من لم يتمكن من متابعة تكوين أكاديمي مختص».
من هؤلاء «الأساتذة»، سيتعلم عنزاوي «نظام العمل قبل كل شيء، الصبر والعناد، تكريس كامل الوقت للفن، من دون أي تنازلات أو استخفاف بكل شيء أو شخص. سيتعلم أن الفن عمل جاد، وليس ترفيهاً موجهاً للأطفال والمجانين. تعلم أن الرسم فعل مهم ومقدس، تماماً كإبداع كتاب أو تأليف موسيقى».
يبقى عنزاوي، بالنسبة إلى صفي الدين، «مستودعاً لتجارب كبار الرواد الذين أثروا في نظرته وحساسيته، مثل خليل الغريب وميلود لبيض، ومحمد قاسمي، وسعد الحساني، وفؤاد بلامين... وغيرهم من الفنانين الأصغر سناً، كعبد الرحيم يامو، والتباري كنتور، ونجية مهادجي ، وأمينة بنبوشتة»، قبل أن تختتم قائلة: «تبقى الحقيقة أن عنزاوي، الغني بكل هذه الإنجازات، يرسم الآن طريقه الخاص؛ الفريد والمخلص للغاية، ليثبت نفسه اليوم واحداً من أكثر الآمال الواعدة للفن المغربي المعاصر».