الحلقة الثانية والأخيرة : روسيا والغرب الأطلسي... جذور الصراع وحرب الحضارات

أبعد من الأهداف المباشرة للحرب الروسية على أوكرانيا، رأت موسكو فيها خطوة نحو «بناء عالم جديد» يتحرر من عباءة الهيمنة الأميركية.
ففي يوم 26 فبراير (شباط) الماضي، أي بعد يومين من انطلاق «العملية العسكرية الخاصة»، نشرت وكالة «نوفوستي» الروسية مقالاً بعنوان «عودة روسيا وولادة العالم الجديد». وجاء في هذا المقال، الذي حذف لاحقاً من موقع الوكالة، الذي يعده مؤلف كتاب «جيوبوليتيك روسيا» مرآة لما يدور في الدوائر الروسية العليا، قبل خيبة تطورات الحرب الميدانية السلبية، أن «كتلة جيوسياسية جديدة رأت النور مع التحام روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا»، وأن «العالم الروسي أصبح واقعاً».
وبعد أن يشدد كاتب المقال، بيوتر أكابوف، على ضرورة ولادة نظام عالمي جديد، يختتمه كالتالي: «إن الصين والهند وأميركا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والعالم الإسلامي وجنوب شرقي آسيا، كلها لا تؤمن بأن الغرب يسيطر على النظام العالمي أو أنه قادر على تحديد قواعد اللعبة».
يستطرد كاتب المقال بتأكيد أن روسيا «لم تتحدَّ الغرب فقط (بهجومها على أوكرانيا)، بل إنها جاءت بالبرهان القاطع على أن زمن الهيمنة الغربية الكاملة ولى إلى غير رجعة، وأن العالم الجديد ستبنيه كل الحضارات، بالتعاون مع الغرب طبعاً، ولكن ليس وفق توجهاته وقواعده وأوامره».

أوكرانيون في انتظار الحصول على مساعدات إنسانية في مدينة ماريوبول (أ.ف.ب)

ويعني هذا الطرح أن الهدف البعيد للرئيس بوتين من حربه على أوكرانيا يتجاوز ما أعلنه شخصياً وأكد عليه وزراؤه ومعاونوه، وهو اجتثاث النازية من أوكرانيا (أي قلب الحكومة) ونزع سلاحها وفرض الحياد والابتعاد عن الحل الأطلسي نهائياً.
ولكن، مقابل الرؤية الروسية، تبدو الرؤية الغربية مناقضة تماماً، إذ إن حلفاء أوكرانيا يرون أن هذه الحرب هي في الواقع بين «الديمقراطية» و«السلطوية»، وبين الليبرالية المعولمة من جهة والدفاع عن «القيم التقليدية» بمواجهة غرب منحط من جهة ثانية.
يكرس كتاب «جيوبوليتيك روسيا»، لصاحبه لوكاس أوبان، والصادر حديثاً عن دار «لا ديكوفيرت» الباريسية، صفحات عديدة يغوص فيها على جذور العلاقة بين روسيا والغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، ساعياً لرصد مسبباتها العميقة التي تتعدى السرديات اليومية واللغة الدبلوماسية من الجانبين.
وبحسب النظرة الروسية، فإن انهيار حلف وارسو كان يفترض أن يستتبع نهاية الحلف الأطلسي، الذي بعكس ذلك قطع آلاف الكيلومترات للاقتراب من روسيا، بفضل موجات انضمام دول وسط وشرق أوروبا في أعوام 1999 و2004 و2008. وفي السياق عينه، جاء تدخل الحلف الأطلسي في كوسوفو، والتدخل الأميركي - البريطاني في العراق، من غير تفويض من مجلس الأمن، ثم تخطى الغربيون قراراً أممياً بخصوص ليبيا، ليتضح لروسيا أن الجانب الأميركي يسعى لفرض هيمنته في كل مكان، مهدداً بذلك «التوازن الهش» الذي نشأ بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، ما دفع الرئيس الأسبق بوريس يلتسين إلى التوجه للرئيس كلينتون، الضاغط على موسكو بسبب حرب الشيشان عام 1999، قائلاً له: «بيل كلينتون نسي أننا نمتلك ترسانة نووية متكاملة»، ملمحاً إلى استخدامها لحجب رغبة السيطرة الأميركية.
وينبش المؤلف وثيقة أميركية تعود لعام 2000 تحت اسم: «رؤية مشتركة لعام 2020»، صادرة عن وزارة الدفاع، تؤكد «ضرورة الهيمنة العسكرية الكاملة على العالم في المجالات الجوية والبرية والفضائية والمعلوماتية والسيبرانية». وجاءت خطوة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في عام 2002 بالانسحاب من معاهدة «إيه بي إم»، التي كانت تمنع منذ عام 1972 تطوير صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية، لتقضي على توازن القوى والردع النووي، ولتضع روسيا في موقع الطرف الضعيف. كذلك يذكِّر المؤلف بالخطاب الذي ألقاه بوتين في فبراير من عام 2007، حيث ندد بالعالم «أحادي القطب» وبتمدد الحلف الأطلسي شرقاً، معتبراً إياه «استفزازاً خطيراً» لا علاقة له بتحديث الحلف ولا بأمن أوروبا. وأضاف بوتين: «نحن في وضع يسمح لنا بأن نتساءل: ضد من يتم هذا التوسيع؟»، معتبراً إياه إحياء لمنطق الكتل المتواجهة وعودة إلى عقلية الحرب الباردة، وداعياً إلى «تفكيك هذه الألغام» التي يمكن أن تنفجر.
وفي عام 2014، عاود بوتين انتقاد الحلف الأطلسي، متهماً إياه بتخطي الوعد الشفهي الذي قدمه للرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، بأنه لن يتوسع إلى أبعد من ألمانيا. ورغم أن أرشيف الحلف يتضمن هذا الوعد، فإن الغربيين لا يعدونه «التزاماً» رسمياً.
ويتابع الكتاب تطور العلاقة الروسية - الأميركية - الأطلسية خطوة خطوة. ويعتبر مؤلفه أن عودة روسيا إلى الشرق الأوسط في سياق الربيع العربي، خصوصاً انخراطها العسكري الكثيف في سوريا إلى جانب النظام في عام 2015، جاء بعد أن فشل المشروع الأميركي لقيام «شرق أوسط كبير وجديد»، الذي كان غرضه إعادة رسم منطقة تمتد من موريتانيا إلى أفغانستان. ويعد المؤلف أن «انتصار» روسيا في سوريا من خلال إبقاء النظام قائماً ودحر «داعش»، يعد «نكسة للغرب»، ويتوقف عند الحفلة الموسيقية التي قدمتها فرقة مدينة سان بطرسبرغ السيمفونية في قلعة تدمر التي دمر «داعش» أجزاء منها، ويعدّها «انتصاراً رمزياً» لبوتين على الغرب.

السير المتسارع نحو المواجهة مع الغرب
في مواجهته للغرب، يلجأ بوتين إلى مجموعة من الأسلحة في حوزته: الحرب الميدانية، سياسة التأثير والنفوذ، الحرب السيبرانية والمخابراتية، الدعاية الآيديولوجية (كما في أفريقيا مثلاً)، ولكن أيضاً الحرب الإعلامية. وللغرض الأخير، عمد بوتين في عام 2005 إلى إطلاق شبكة التلفزة «روسيا اليوم» بلغات عدة وبميزانية 30 مليون دولار لمواجهة الشبكات الأميركية والأوروبية ومقارعة الغرب بالسلاح نفسه الذي يستخدمه. وكان لافتاً أنه مع انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا، عمد الغربيون إلى منع بث وسائل الإعلام الروسية على أراضيهم. وبعد 15 عاماً على إطلاقها، تبث «روسيا اليوم» في أكثر مائة دولة، وبخمس لغات (الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والعربية والألمانية) وتطال ما لا يقل عن مائة مليون شخص أسبوعياً. أما ميزانيتها فقد تضاعفت عشر مرات لتصل إلى 307.5 مليون دولار. ثم لاحقاً، مع اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014 التي انتهت بضم شبه جزيرة القرم وانسلاخ «جمهوريتي» الدونباس الانفصاليتين، أطلقت موسكو وكالة «سبوتنيك» للأخبار مكان وكالة «ريا نوفوستي»، وسلمت إدارتها إلى مارغريتا سيمونيان، وهي إعلامية مقربة من بوتين. وباختصار، فإن بوتين لجأ منذ سنوات، وفي محاولة منه لمواجهة الغرب ومقارعته بأسلحته، إلى كل أنواع «الحروب»، بما فيها الحرب «الهجينة». وجاءت الاتهامات التي وجهت لروسيا بالتدخل في المسارات الانتخابية الغربية (الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا ...) وزعزعة الديمقراطيات بمثابة مقدمة للمواجهة الحالية القائمة بين روسيا والحلف الأطلسي على الأراضي الأوكرانية، رغم أن الغرب ما زال يعتبر أنه «ليس طرفاً» فيها رغم دفق المساعدات المالية والاقتصادية والإنسانية، خصوصاً السلاح متعدد الأنواع، على كييف، وهو ما مكنها من الصمود في المرحلة الأولى، ثم الانتقال من الدفاع إلى الهجوم لاحقاً، بحيث استطاعت القوات الأوكرانية استعادة مناطق كبيرة من تلك التي كانت القوات الروسية قد استولت عليها.
ومع مجيء الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، استعرت المواجهة مع موسكو، ما شكل انقطاعاً مع عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. ففي 19 فبراير 2021، قرع الرئيس الديمقراطي طبول «عودة» أميركا إلى القارة القديمة التي أهملها سلفه الجمهوري، عبر أداة الحلف الأطلسي، من أجل «الرد على الهجمات التي تقوم بها روسيا ضد الديمقراطيات الغربية». ولاحقاً، واستباقاً لما يبدو تخطيطاً قديماً لغزو أوكرانيا، عرضت موسكو على واشنطن التوصل إلى «اتفاق للضمانات الأمنية المتبادلة». وبعكس ما يوحي به العنوان، فإن رسالة موسكو إلى واشنطن كانت بمثابة إنذار، بحيث إنها طلبت من الجانب الأميركي الوقف الفوري لتوسع الأنشطة العسكرية الأميركية في شرق أوروبا والعودة إلى ما كانت عليه الأوضاع العسكرية والاستراتيجية قبل عام 1997، أي قبل انضمام دول حلف وارسو سابقاً إلى الحلف الأطلسي. وبكلام آخر، فإن بوتين أراد محو 30 عاماً من التطورات الجيو - سياسية والجيو - استراتيجية التي عرفتها القارة القديمة. وبالطبع، كان الكرميلن يعي تماماً أن الرد الأميركي - الأطلسي سيكون الرفض المطلق، وهو ما كان يبحث عنه، الأمر الذي وفر الذريعة التي تحتاج إليها روسيا، التي وجهت، بالتوازي، رسالة بالغة التشدد إلى كييف تطالبها بالتخلي النهائي عن الانضمام إلى النادي الأطلسي والاعتراف رسمياً بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وباستقلال مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، فضلاً عن نزع سلاح أوكرانيا و«اجتثاث النازية»، أي سقوط النظام. وكما جاء الرد الغربي سلبياً، كذلك ردت كييف، بحيث أصبح الطريق ممهداً لبدء «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا. ورأى الغربيون في الإنذار الروسي والرد المرتقب الغربي - الأوكراني الرافض له الحجة التي يبحث عنها بوتين لإطلاق حربه.
وكانت القيادة الروسية قد استبقت هذه اللحظة، ونشرت 180 ألف عسكري على الحدود المشتركة مع أوكرانيا وقوات كبيرة على الحدود البيلاروسية - الأوكرانية وما رافقها من مناورات عسكرية تمهيدية واسعة. ولم يتبقَّ سوى انتظار ساعة الصفر التي حلت في الثانية من فجر 24 فبراير الماضي.
وتدل كل العناصر المتوافرة التي دأب المؤلف على جمعها وربطها بعضها ببعض، على أن السير نحو المواجهة كان في منطق الأمور. بيد أن المفارقة جاءت في سياق اختلاف المقاربة بين الأوروبيين (باستثناء البريطانيين دول البلقان) والأميركيين. من هنا، يبدو أن محاولات التوسط لتجنب الحرب التي قام بها الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني كان مصيرها محكوماً عليه سلفاً بالفشل، وأن بوتين استخدمها لكسب بعض الوقت وإتمام تحضيرات العملية العسكرية. وللتذكير، فقد سعى إيمانويل ماكرون وأولاف شولتس إلى محاولة إعادة إحياء اتفاقيتي «مينسك» الخاصتين بجمهوريتي الدونباس، باعتبارهما جزءاً من المجموعة الرباعية التي شكلت في عام 2015، وهي تضم، إلى جانب فرنسا وألمانيا، روسيا وأوكرانيا. وفي خطابه التبريري للحرب صبيحة 24 فبراير، اعتبر بوتين أن «تحالفاً يدّعي الديمقراطية» تقوده «إمبراطورية الكذب»، أي الولايات المتحدة الأميركية، هو في الصميم معادٍ لروسيا وذو أطماع إمبريالية، وبالتالي فإن الحرب ضد أوكرانيا «مسألة حياة أو موت» للأمة الروسية التي «تواجه تهديداً وجودياً». ولأن الرؤية الرسمية الروسية هي هذه، فكان من الطبيعي أن يهدد وزير الدفاع سيرغي شويغو باللجوء إلى السلاح النووي الذي يصبح استخدامه «مشروعاً»، ولأن العقيدة العسكرية الروسية تتيحه، الأمر الذي يذكر بالجدل الحاصل حول إمكانية أن تلجأ موسكو إلى هذا السلاح حتى لتوجيه ضربة استباقية في حال عمدت إلى تعديل هذه العقيدة.

واشنطن وبروكسل:عداء مشترك لروسيا
منذ بداية الحرب قبل عشرة أشهر وحتى اليوم، ما زالت موسكو تتمسك بـ«نظرية المؤامرة» التي تشرعها والتي تحضرت لها من خلال مراكمة 600 مليار دولار بالعملات الصعبة، وغذت «الصندوق الوطني للحماية الاجتماعية» بـ200 مليار دولار. وكان الاعتقاد السائد أن الحرب ستكون قصيرة زمنياً. ويشير الكتاب إلى أن المخابرات الروسية، تحديداً جهاز «إف إس بي»، تؤكد أن سكان شرق أوكرانيا من الناطقين بالروسية يتطلعون إلى وصول القوات الروسية التي ستحررهم من النير الأوكراني. ويكشف الكتاب أن اثنين من كبار مسؤولي المخابرات تم رميهما في السجن بعد أسابيع قليلة من بدء العملية العسكرية، لأنهما قدما معلومات زائفة لسيد الكرملين.
وينطلق الكتاب من فرضية أن السير للمواجهة بين الغرب وروسيا كان في منطق الأمور، إذ إن موسكو لم تعتبر فقط أن واشنطن تنفذ مخططات توسعية وتمارس سياسة الاحتواء بحقها لإضعافها، بل إن الاتحاد الأوروبي لم يكن بعيداً عن هذه المقاربة. ودليله على ذلك أن الاتحاد الأوروبي، منذ عام 1999، سعى للتدخل في شؤون روسيا الداخلية. ففي وثيقة رسمية عنوانها «وثيقة الاستراتيجية المشتركة للتعامل مع روسيا»، يركز الاتحاد على عدة أهداف أولها تعزيز الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات العامة، ليس في البلدان الأوروبية أو تلك الساعية للانضمام إلى صفوف الاتحاد الأوروبي، بل في روسيا نفسها. وفيما تسارعت حركة انضمام دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى الاتحاد، شعرت موسكو بالانزعاج والإبعاد عندما أطلق الاتحاد مبادرة «الشراكة الشرقية» التي ضمت أرمينيا وجيورجيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، وحتى أذربيجان. إلا أن الأوروبيين استبعدوا روسيا منها. ومنذ البداية، ورداً على المقاربة الأوروبية، سعت موسكو، وفق المؤلف، إلى الرد على ذلك من طريقين: محاولة شق صفوف الاتحاد الأوروبي من جهة، والبحث عن بدائل من جهة أخرى، والتركيز بالدرجة الأولى على مجموعة «بريكست» التي كان الرئيس بوتين محركها الرئيسي.
ونشّطت موسكو اتصالاتها وعلاقاتها مع أميركا اللاتينية والعالم العربي والدول الأفريقية، الأمر الذي برزت نتائجه في عمليات التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث امتنعت عشرات البلدان عن التصويت لصالح التنديد بروسيا. كذلك، ردت موسكو سياسياً من خلال توفير الدعم للأحزاب المتطرفة في أوروبا، أكانت يمينية أو يسارية، وعسكرياً بتسليح إقليم كالينينغراد المطل على بحر البلطيق والمحشور بين ليتوانيا وبولندا، وطورت قاعدتها البحرية، حيث أخذت ترابط فيها الغواصات والقطع البحرية الرئيسية. وتحولت هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الرئيسية إلى قاعدة متقدمة في قلب الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.
ورغم المحاولات الفرنسية والألمانية، خصوصاً ما قام به ماكرون، فإن العلاقات لم تتحسن بين الجانبين، وجاءت رزم العقوبات المتلاحقة (تسعة حتى اليوم) التي فرضتها أوروبا منذ اليوم الأول للحرب في أوكرانيا، بما فيها على البترول والغاز وتجميد الأرصدة الروسية والعقوبات ضد كبار الشخصيات ومن بينهم بوتين وكبار المسؤولين... لتدفع العلاقات بين الطرفين إلى مزيد من التوتر، لا بل إلى حافة الانقطاع.
في خلاصته عن الحرب في أوكرانيا، يرى الكاتب أن بوتين ارتكب 4 أخطاء؛ أولها أنه غالى في قدرات قواته، وثانيها أنه لم يقدر حق قدرها صلابة القوات الأوكرانية في الصمود، وثالثها أنه أخطأ بخصوص ردة فعل الشعب الأوكراني، ورابعها أنه لم يتوقع ردة الفعل الغربية الأميركية والأوروبية والأطلسية.
وإذا كان أحد أهدافه منع تمدد الأطلسي إلى حدود بلاده وشق الصف الأوروبي، فإن النتائج جاءت عكس ذلك. فها هي فنلندا والسويد تتأهبان للانضمام إلى الأطلسي، وها هو الاتحاد الأوروبي، رغم التمايزات في مواقف بعض بلدانه، ما زال محافظاً على وحدة الموقف تجاه روسيا، وهو آخذ بالخروج من تبعيته لها في مجال الطاقة، خصوصاً الغاز. يضاف إلى ذلك أن روسيا ستخرج ضعيفة من هذا النزاع، وثمة تساؤلات عن مستقبل بوتين نفسه الذي لم يعد يخيف الغرب حتى بتهديداته النووية.
لم يتوقف بوتين عن التمرد على الهيمنة الأميركية، وسعى دوماً من أجل تغيير هندسة العالم من خلال إيجاد عالم متعدد الأقطاب تكون روسيا أحدها. ويرى المؤلف أن النتيجة التي ستستولدها الحرب الأوكرانية هي قيام ثنائية قطبية: عالم غربي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وآخر شرقي تشكل الصين القوة المهيمنة فيه، ويتربص الخطر بروسيا بأن تتحول إلى تابع لـ«إمبراطورية الوسط»، أي الصين.
وفي آخر فقرة من كتابه، كتب لوكاس أوبان ما يلي: «إن حكم بوتين لم ينتهِ، ومن الناحية التقنية يمكن أن يدوم حتى عام 2036. ووضعيته السياسية واعتماده خطاباً قومياً متشدداً يوفران له شعبية لا يستهان بها. بيد أن الهشاشة أخذت تنهش وضعه، وكلما تفاقمت سلطويته برزت الشقوق في نظامه». ولا شك في أن كيفية نهاية الحرب في أوكرانيا ستشكل عاملاً حاسماً في رسم مستقبله.