«الساحرة المستديرة»... كرهها هتلر واستغلها موسوليني

الفرنسي ميكائيل كوريا يتناول نشأتها ومساراتها في «تاريخ شعبي لكرة القدم»

«الساحرة المستديرة»... كرهها هتلر واستغلها موسوليني
TT

«الساحرة المستديرة»... كرهها هتلر واستغلها موسوليني

«الساحرة المستديرة»... كرهها هتلر واستغلها موسوليني

عبر الأجزاء الخمسة التي يتكون منها كتابه «تاريخ شعبي لكرة القدم» يركز الكاتب الفرنسي ميكائيل كوريا على الدور السياسي لكرة القدم (الساحرة المستديرة) بوصفها اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وكيف تم توظيفها كأداة لخدمة فاشية موسوليني، ونازية هتلر الذي ذاعت خلال فترة حكمه حالات تعذيب وقتل لاعبين كثيرين عقاباً لهم على مواقفهم السياسية. كان هتلر يكره كرة القدم، ويفضل الملاكمة، لكنَّ شعبية كرة القدم الكبيرة لدى الألمان أجبرت الفوهرر على استيعابها ودمجها في العقيدة الاشتراكية القومية، وعلى ملاعب ألمانيا كما في خارجها. كان يجب على لاعبي كرة القدم أن يكونوا السفراء الفخورين بالرايخ الثالث، وبعد نقش قمصانهم بشعارات النبالة النازية، توجب عليهم أن يؤدوا بشكل مثالي تحية هتلر والنشيد الوطني الجديد، وألغى الاتحاد الألماني نظام الاحتراف، لصالح «نقاء الهواية»، فاللاعبون الهواة أكثر نبالة في نظر النازيين، كما أنهم يخضعون بسهولة لسلطة هتلر.
ويحكي المؤلف، في كتابه الذي صدرت نسخته العربية عن دار «المرايا للثقافة والفنون» المصرية بترجمة الكاتب المصري محمد عبد الفتاح السباعي، عن الجذور التاريخية لنشأة كرة القدم منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وما قبل ذلك، كما يتتبع مساراتها إلى أن تطورت للشكل الحالي كصناعة كبرى، بدايةً من استغلالها من خلال أرباب الأعمال في بريطانيا زمن الثورة الصناعية لصرف طاقة الطبقة العمالية عن أي احتجاجات، ثم من طرف رجال الدين الذين كانوا يرونها أداة مثالية يمكنها الحفاظ على الشباب العامل من التدني الأخلاقي، حتى وصولها إلى لعبة تتدخل فيها السياسة أحياناً بوجهها القبيح، وتستغلها لتحقيق أغراض ومصالح معينة.
وعلى خطى النازية سار الجنرال فرانكو، حاكم إسبانيا، بممارساته، هو ورجاله، واتجه لدعم نادي ريال مدريد على حساب برشلونة، وهو الفريق الذي كان يكره الديكتاتور الإسباني بشدة. ويحكي المؤلف عمّا كان يدور في روسيا زمن ستالين، «1922 حتى 1952»، وكيف سعى البلاشفة للتحكم في كرة القدم، وتسييرها لتخدم مصالحهم، وذلك بعد أن رأى رجال السلطة هناك أنها صارت شغفاً سوفياتياً، لكنَّ محاولاتهم لم تفلح، ولم يستطع الحزب السيطرة عليها، فالجنون الشعبي تجاه نادي سبارتاك مثلاً، والتجاوزات العنيفة من مشجعيه كانت تُخفي حساً سياسياً، ففي بلد مثل الاتحاد السوفياتي السابق «كان نادي كرة القدم الذي تشجعه وتنتمي إليه خياراً تذهب إليه بنفسك، وبمحض إرادتك، وذلك في واحد من الأوقات النادرة التي تتمتع فيها بحرية الانضمام أو عدم الانضمام إلى مجتمع ما، والتعبير عن نفسك دون قيود». كان هناك الكثير من الفرق في موسكو، كل منها يمثل مجموعة اجتماعية، وكان معظم أنصار «سبارتاك» من الطبقات الدنيا، أما «نادي سسكا» فقد كان تابعاً للجيش الأحمر، هذا بخلاف «دينامو موسكو» الذي أنشأته وزارة الداخلية، وهكذا بدا المشهد يضم مختلف هيئات المجتمع السوفياتي، لكن في مجتمع ستاليني استبدادي يمنح القليل من الحريات الفردية، كانت كرة القدم تسمح لكل فرد بدعم فريقه المفضل، واختيار أبطاله، بعيداً عن أولئك الذين حددتهم أجهزة الدولة.
وقبل زمن ستالين بـ6 قرون تقريباً أصدر نيكولاس دي فارندوني، عمدة لندن، مرسوماً في أبريل (نيسان) عام 1314، باسم الملك إدوارد الثاني ملك إنجلترا، منع بموجبه، وتحت عقوبة السجن، «ممارسة كرة القدم في المدينة»، بدعوى حفظ السلام في غياب إدوارد الثاني الذي كان يخوض حرباً في اسكوتلندا، ومن أجل محاصرة الضوضاء التي تعمّ المدينة نتيجة لعب المباريات في الملاعب العامة، وتحسباً لما يمكن أن ينجم عن ذلك من شرور.
ويخصص كوريا فصلاً كاملاً للحديث عن كرة القدم النسائية في بريطانيا، وتحولها من الرفض الأخلاقي الصادر من المجتمع البطريركي الذي كان يرى في الشورتات التي كانت اللاعبات يرتدينها رمزاً للانحلال، إلى الرعاية القوية من جانب القادة الصناعيين، ثم الحكومة في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ثم نكوصها مرة أخرى، والاتجاه لمنعها وتسريح اللاعبات لأن السياق الاجتماعي في مطلع القرن الماضي لم يكن يميل لصالح تحرر المرأة التي كان عليها الانتظار خمسين عاماً لإلغاء الحظر المفروض عليها بممارسة كرة القدم.
وفي الجزء الثالث يحكي الكتاب عن البرازيل التي كان المسؤولون عن الرياضة فيها ينظرون إلى اللاعبين أصحاب البشرة السمراء خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي على أنهم «أقل ذكاءً ممن سواهم، ويفتقرون إلى الروح القتالية اللازمة، والشعور بالمسؤولية الضرورية لأي مباراة جماعية».
ويذكر كوريا أن اللجنة الفنية التابعة لاتحاد الكرة البرازيلي استدعت في كأس العالم عام 1958 طبيباً نفسياً لاختيار اللاعبين المناسبين ذهنياً للمنافسة. وحكم عالم النفس جواو كارفالهايس، على بيليه بأنه «طفولي بشكل لا لبس فيه، يفتقر إلى الروح القتالية اللازمة، والشعور بالمسؤولية الضروري لأي مباراة جماعية»، وقال عن غارينشا إن «ذكاءه أقل من المتوسط، ولا ينبغي له المشاركة في مباريات تتسم بالضغط العالي بسبب افتقاره للشراسة المطلوبة»، وكان حكمه هذا مستنداً إلى أنهما من أصحاب البشرة السوداء، وجاء استجابةً لرأي المسؤولين عن الرياضة في البلاد، والذين كانوا يعانون من «صدمة ماراكانا» والتي ضربتهم في عُقر دارهم، ونتجت عن خسارتهم كأس العالم أمام الأوروغواي عام 1950، وأرجعوا سببها لحارس المرمى صاحب البشرة السمراء باربوسا، وحكموا عليه بالعيش منبوذاً في بلده، وبات رمزاً لسوء الطالع لدرجة أنهم منعوه من حضور أي مباراة أو تدريب للمنتخب البرازيلي، وصار النظام الكروي كله هناك غارقاً في جدل حول «بياض» لاعبيه.
هذه المفاهيم العنصرية أجبرت فينسنتي فيولا، المدير الفني للمنتخب، بمجرد وصولهم إلى السويد للمشاركة في كأس العالم عام 1958، على عدم إشراك بيليه وغارينشا في المباريات الأولى ضد النمسا ثم إنجلترا. ولكن بعد التعادل السلبي مع الإنجليز، وضعهما المدرب في التشكيل الأساسي في محاولة لهزيمة منتخب الاتحاد السوفياتي المخيف، وبسبب هذين اللاعبين تحول السيليساو إلى آلة لتسجيل الأهداف، حيث كان المدافع السوفياتي بوريس كوزنيتسوف ضحية لمراوغات غارينشا، بينما سجل بيليه هدف الفوز في ربع النهائي ضد ويلز قبل أن يوقّع على ثلاثية في نصف النهائي ضد فرنسا، وفي المباراة النهائية كانت المواجهة رمزية بين السويديين طوال القامة، شُقر البشرة، وبين البرازيليين الأصغر حجماً والأكثر قتامة وسواداً، وانتهى اللقاء بفوز البرازيل.
ويشرح كوريا كيف كانت الكرة وسيلة لمقاومة العنصرية، وصارت سلاحاً استخدمه الجزائريون للتخلص من المستعمر الفرنسي، ويحكي قصة مشاركة اللاعبين الجزائريين المحترفين في عدد من الأندية الفرنسية في حرب تحرير بلادهم. كما يتحدث عن أندية كرة القدم الفلسطينية، وكيف سعى الاحتلال الإسرائيلي لإغلاقها منذ البداية بعد أن استشعر المستوطنون في تل أبيب أنها يمكن أن تكون وسيلة لإعاقة عمليات المصادرة وإنشاء الوطن القومي، لكنَّ هذا الاضطهاد والحصار وتقييد الحركة الذي كان يتزايد مع دخول الدولة العبرية في مراحل تاريخية متقدمة كانت تقابله انتفاضات وثورات شعبية من الجانب الفلسطيني، يتصدرها دائماً لاعبو كرة القدم وغيرهم من الرياضيين.
ومن فلسطين في غرب آسيا، إلى أفريقيا جنوب الصحراء، كان الاحتلال الفرنسي هناك يرى أن أي انتصار يمكن أن تحققه فرق المستعمرات ضد مستعمريهم، سوف يكتسب أهمية خطيرة، ويتم استغلاله من جماهير السود ليكون دافعاً لهم على التمرد، لكنَّ ذلك الحرص لم يمنع فرق المستعمرات من الانتشار والازدياد، «ووضع قوات الاحتلال الفرنسي في موقف تسلل»، فارتفع عدد الأندية في منطقة غرب أفريقيا الفرنسية من 184 عام 1943 إلى 438 في عام 1957، وانعكست هذه الزيادة في فرق الكرة في صور كثيرة من المشاعر المناهضة للاستعمار، وأخذت مظاهرها وبدت واضحة في مرحلة الستينات مع تحقيق الاستقلال.
ويشير كوريا في الكتاب الذي صدرت نسخته الفرنسية عن دار نشر «لاديكوفيرت» إلى أن كرة القدم وُلدت معولمة، إذ حملها بحارة الإمبريالية الإنجليزية إلى شواطئ العالم. وفي البرازيل، تم تقديم الكرة رسمياً في 14 أبريل 1895، عندما نظم برازيلي من أصل بريطاني المباراة الأولى، والتي كانت مرتبطة بألعاب ترفيهية بين أطقم السفن الإنجليزية. وقد كان الأمر كذلك في الكثير من البلدان الأخرى، ومن بينها فرنسا، حيث أدى وصول كرة القدم عبر ميناء لوهافر في عام 1871 إلى تأسيس أول فريق فرنسي، من خلال نادي لوهافر الرياضي.
يُذكر أن ميكائيل كوريا يعمل في منصة «ميديا بارت» الإلكترونية، وسبق له العمل في جريدة «لوموند ديبلوماتيك»، بالإضافة إلى مساهمته في تأسيس مطبوعة «CQFD» المتخصصة في النقد الاجتماعي، أما المترجم محمد عبد الفتاح السباعي، فهو رئيس قسم الشؤون الخارجية بجريدة «الأخبار»، وترجم من قبل أربعة كتب عن الفرنسية، أبرزها كتاب «عنف وسياسة في الشرق الأوسط... من سايكس بيكو إلى الربيع العربي»، وكتاب «المثقفون والجنس والثورة... عاهرات وعزّاب في القرن التاسع عشر».



ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».