«أبحاث أنثروبولوجية» دراسات عالمية في أصل الجنس البشري

تكشف محطات عبور البشر خلال نشأتهم وكيف واجهوا التحديات

«أبحاث أنثروبولوجية» دراسات عالمية في أصل الجنس البشري
TT

«أبحاث أنثروبولوجية» دراسات عالمية في أصل الجنس البشري

«أبحاث أنثروبولوجية» دراسات عالمية في أصل الجنس البشري

صدر مؤخراً كتاب «أبحاث أنثروبولوجية: الرحلة البشرية»، وهو مجموعة من الأبحاث العلمية المترجمة لعدد من العلماء والباحثين نشرتها مراكز أبحاث وجامعات حول العالم فيما يختص بعلم الإنسان، والدراسات المتعلقة بأصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته.
عمل على جمع وترجمة هذه الدراسات وصياغتها الباحث والمترجم السعودي عدنان أحمد الحاجي، وعادل البشراوي، المتخصص في علم الإنسان القديم، وقام بتحرير الكتاب رضا أحمد.
يقع الكتاب في 480 صفحة، وصدر عن مكتبة «المتنبي»، ويتوزع على خمسة أبواب، تضم 46 دراسة وموضوعاً تغطي خمسة مجالات أنثروبولوجية: الأنثروبولوجيا البيولوجية، والثقافية، واللغوية، وعلوم الآثار، وعلاقة المناخ بالأنثروبولوجيا.
وبرأي المؤلفين، فإن هذا التنوع في الدراسات يمثل عنصراً أساسياً لإنتاج فهم واضح لتمظهر الطبيعة التي جُبل عليها البشر فيسيولوجياً وثقافياً. وإنه الوسيلة التي تمكّننا من تبرير عبور البشر خلال تاريخ نشأتهم محطات واجهوا فيها صعوبات البيئة التي يلعب فيها المناخ الدور الأكبر، فانعكس ذلك عليهم بمتغيرات في تركيبتهم الفيسيولوجية وفي استحداثهم ممارسات تارةً يحاكون فيها عمل الطبيعة كتطويع النار والاهتداء للزراعة، وتارةً في ابتكارات ذاتية كصناعة أدوات الصيد والزراعة، وتارةً أخرى في استحداث أنظمة للري وإقامة المستوطنات، وصولاً إلى تتويج منجزاتهم أخيراً ببناء الحضارة.
في مقدمته لهذا الكتاب، يطالب الباحث عادل البشراوي، بتقييم الوعي بمقاصد الأنثروبولوجيا، «فهذا المجال العلمي يتناول علوم الإنسان، ولظروف مبهمة، لا يلقى الاهتمام الذي يستحق لا على المستوى الأكاديمي ولا على مستوى الوعي الجمعي الثقافي والمعرفي العربي».
ويضيف: «لا أبالغ إن قلت بأن الدراسات الأنثروبولوجية هي وسيلتنا المثلى لتطوير واقعنا المعيش، فهي الأداة لإعادة تقييم نماذجنا الفكرية والمعرفية التي إن تمكنَّا من دراستها بالشكل الصحيح، فسوف نتمكن من الحصول على قراءة واضحة لركام الخلفيات الفكرية التي لطالما جعلت واقعنا الحضاري مثقلاً بترهلات تَحدُّ من انطلاقتنا للصعود نحو الإنتاجية، وستمهِّد لنا الطريق لتحقيق مستويات رفاهية ورغد عيش أرقى لأنفسنا ولأجيالنا القادمة، بل هي ما نعول عليه لبلوغ عصر التنوير... الأنثروبولوجيا، ومن حيث تمحورها حول دراسة حياة البشر هي المعوّل الأمثل لدراسة الظروف التي تمظهرت من خلالها الطبيعة البشرية في مراحلها المتعلقة بالنشأة، وفي المنطلقات الفيسيولوجية لتهيئة الأبدان والأدمغة لبروز خواص الوعي والقدرة على تذليل وتطويع البيئة والطبيعة للحصول على فرص بقاء أكثر سهولة ووفرة بضرورات الحياة. فالإنسان هو الكائن الوحيد على سطح الأرض الذي تميز بقدرته على التدخل في مفاعيل البيئة والقيام بإجراءات تُغيِّر من مساحة معيشه، وبصرف النظر عن حال هذا التغيير إن كان بالسلب أو بالإيجاب، خصوصاً بعد تمكُّنه في القرون القليلة الماضية وعبر ماكينته الصناعية من التسبب في تغيير نسب المزيج الغازي لغلاف الأرض. وهو واقع دعا فصيلاً من العلماء الجدد إلى اقتراح إضافة حقبة حياة جديدة تبدأ مع بدء الثورة الصناعية سمّوها حقبة (الأنثروبوسين)، أو العصر البشري. وذلك لأن المتغيرات المادية والاجتماعية والثقافية التي صاحبت انطلاقة الثورة الصناعية قبل قرنين ونيف كانت من الأهمية بحيث أكسبتها صفة الحقبة الجديدة».
وتكمن أهمية هذه الأبحاث في كون دراسات الأحياء التطورية تتيح لنا التـعـرف على الأنماط الحـيـوية المتحكمة في تشكيل أعضاء الجسد، فلولا الآثار لما تمكنّا من مراقبة تشكل هذه الأعـضـاء ورصدها عبر خط بياني كرونولوجي متسق ومتناغم. أما دراسات المناخ فهي وسيلتنا للتعرف على طبيعة الأجواء المتبدلة التي عاش فيها البشر، وفرضت عليهم ضغوطاً طبيعية ألحَّت عليهم باتخاذ تدابير اضطرتهم أحياناً للجوء إلى الكهوف والملاجئ، وأحياناً أخرى إلى الهجرة والانتشار. وكذلك فإن دراسة تطور الثقافات بما تشمله من المعرفة واللغة والفن والروحانية، سوف تفيدنا في التعرف على الجوانب الحضارية المادية وجذور المعرفة واللغة والأسطورة، ولكن الأهم من ذلك كله، فإنها وسيلة للإجابة عن سؤال الماهية المعنوية للبشر.
الكتاب ضمن سلسلة الأبحاث العلمية التي عكف على ترجمتها وإعدادها المترجم السعودي عدنان الحاجي، الذي صدر له كتاب «أبحاث الأطفال: دراسات علمية» (في جزأين) ضمن سلسلة الإصدارات العلمية له، وجاء توثيقاً لما نشر من أبحاث علمية وما كتب من مواضيع ومقالات نشرتها مراكز أبحاث وجامعات حول العالم عن تربية الطفل، ويحتوي على سبعين بحثاً علمياً موزعة على سبعة أبواب في 540 صفحة، تتميز بجدَّتها وتنوعها وتغطيتها مستجدات الأبحاث العلمية في علوم تربية الطفل.
كما صدر للحاجي كتاب «أبحاث التوحد: دراسات علمية مترجمة في اضطراب طيف التوحد»، و«أبحاث الذكاء: دراسات علمية مترجمة». وسبق له العمل في شركة «أرامكو» النفطية، وعُيِّن فيها مستشاراً أعلى في البحث العلمي في مركز الأبحاث والتطوير، وأمضى عاماً كاملاً كباحث زائر في جامعة «ستانفورد» في الولايات المتحدة، كما تعاون مع أكثر من مركز بحث علمي دولي، وله 29 براءة اختراع ممنوحة، وعدة براءات أخرى منشورة، ونشر نحو خمسين ورقة علمية في عدة مجلات علمية محكّمة، وترجم ما يربو على ألفي دراسة ومقالة علمية.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.