فروغ فرخزاد وإبراهيم كلستان: الحب كحادث مرور قاتل بين الحرية والإذعان

موهبتها العالية وتمردها المأساوي وفّرا لأسطورتها كل ما يساعدها على التحقق

فروغ فرخزاد وإبراهيم كلستان: الحب كحادث مرور قاتل بين الحرية والإذعان
TT

فروغ فرخزاد وإبراهيم كلستان: الحب كحادث مرور قاتل بين الحرية والإذعان

فروغ فرخزاد وإبراهيم كلستان: الحب كحادث مرور قاتل بين الحرية والإذعان

ندر أن احتفى النقاد والدارسون والقراء بشاعرة من الشاعرات المعاصرات كما هو الحال مع الشاعرة الإيرانية المعروفة فروغ فرخزاد. فمنذ غيابها المأساوي في مطالع ستينات القرن الفائت لم تكفّ الأوساط الثقافية المعنية بقضايا الإبداع وشؤون الحداثة في جهات الأرض المتباعدة عن تلقف ذلك الصوت الشعري الفريد القادم من بلاد الخيام والفردوسي وحافظ الشيرازي، بقدر وافر ومتزايد من الحفاوة والإعلاء النقدي والإنساني، بالكاد تم توفُّره لرواد الحداثة الشعرية الإيرانية البارزين من أمثال أحمد شاملو ونيما يوشيج ونادر بور. بل إن اسم فرخزاد بدأ يكتسب عاماً إثر عام المزيد من التوهج الأخَّاذ الذي يساعد الأساطير على التحقق والنجوم على الخلود. وهو أمر لم يكن يحدث بالطبع لو لم تتهيأ له عناصر عدة، ليس الشعر على أهميته مكونها الوحيد، بل ثمة بينها ما يتصل بمسيرة الحياة الصعبة، وبقدر الأنوثة السيزيفي في المجتمعات البطريركية الذكورية، وبالموت الفاجع والمبكر الذي أوصل الأسطورة إلى ذروتها الأخيرة، تماماً كما حدث لسيلفيا بلاث، قرينة فروغ الأميركية التي تقاسمت معها النبوغ نفسه والمصير إياه.
عاشت فرخزاد طفولة مثخنة بالألم والحرمان العاطفي، كانت من الأسباب الأكثر عمقاً لمأساتها الحقيقية ولتبرمها بالحياة. وُلدت في طهران 1935 لأب عسكري صارم حاد الطباع وأم تقليدية خاضعة لإرادة الأب وسطوته. كانت الثالثة بين سبعة أشقاء، لم تحصل في طفولتها ولو على قدر قليل من الحنان يوفر لها توازنها النفسي والعاطفي. ولم تكن مشكلة العائلة مقتصرة على حاجة الأبناء إلى الحنان والحب، بل فاقمتها الهواجس الكابوسية للأم الخائفة على مصيرها، إثر اقتران زوجها بامرأة أخرى أكثر ثقافة وذكاء، ولجوئها المتكرر إلى الاعتداء عليها بالضرب.
«لا أعرف سبباً لسوء حالتي، أعرف أني أُصاب بالجنون. أحياناً إذا لم يتنبه أحد لي، أبقى دون طعام لثلاثة أيام. وقد لا أنام لليالٍ عدة إلا لأوقات قليلة مثخنة بالكوابيس. أرى أني شبعتُ من الحياة. الجميع ينظر لي بتحقير ويتراءى لي أن وجودي لا طائل منه، وأفكر أحياناً أنني لا أليق إلا بالموت». هذا ما كتبته فروغ في إحدى رسائلها إلى برويز شابور قبل أسابيع معدودة من ارتباطها الزوجي به. ويمكن لنا أن نتبين بوضوح السبب الذي دفع بالفتاة المراهقة لأن ترى في الزواج وسيلتها الوحيدة للفرار من وطأة القهر الأبوي التي أوصلتها غير مرة إلى حافة الانتحار. وفي رسالة أخرى إلى برويز تقر فرخزاد بأنها لشدة إهمالها من العائلة، كما لعدم اعتناء أمها بها، كانت ترتعش من الغضب والحقد، وتودّ لو خنقت الجميع بمخالبها.
ورغم كل ما عانته فرخزاد من عنت الأب وتسلطه فإن سيرتها الشخصية لا تُظهر لنا اعتراض الأب على كتابتها للشعر، ولا على نزوعها التجديدي، حين أطلعته على نصوصها الحداثية المبكرة وهي لا تزال في مرحلة دراستها الثانوية. وكذلك كان حالها مع برويز الذي اقترنت به وهي لم تكد تبلغ من العمر ستة عشر عاماً. لكن ما لم يستطع أن يحتمله الزوج رغم كونه شاعراً، هو الجرأة البالغة التي أظهرتها زوجته الشاعرة عبر قصيدتها «الخطيئة»، الناضحة بالبوح العاطفي المكشوف والرغبة الجسدية التي لم يسبق لشاعرة إيرانية أن تجرأت على كتابة ما يشابهها، في بلاد محافظة ظلت تؤمن لقرون عدة بشعار «لا تمنح زوجتك القلم، بل خذ القلم بنفسك» حسب الكاتب نظامي كنجوي. وما زاد الطين بلة هو ما تناقلته الأوساط الإيرانية الثقافية آنذاك عن مغامرة عاطفية جمعت بين الكاتب ناصر خدايار رئيس تحرير مجلة «روشفنكر»، وبين فرخزاد التي كتبت له ذات مرة «أنت من جعلتني شاعرة أيها الرجل».
ومع أن مجموعتها الشعرية الأولى «الأسيرة» قد وُجهت بردود فعل شاجبة وأخرى مؤيدة، فقد انتزعت فروغ لنفسها شهرة واسعة في الأوساط الثقافية الإيرانية، وباتت تجربته الرائدة محط اهتمام الكثير من القراء والمتابعين والمشتغلين بنقد الشعر. إلا أن الكلفة الناجمة عن ذلك كانت باهظة جداً بالنسبة للزوجة الشابة التي لم تكد تنفصل عن زوجها برويز حتى تم إبعادها عن ابنها الوحيد كاميار، بداعي نزقها وعلاقاتها الغرامية المتعددة وعدم أهليتها للأمومة. ومع ذلك فإن في الرسائل التي بعثت بها إلى زوجها بعد الطلاق ما يترك المرء حائراً إزاء قول فروغ لشابور: «أعرف أنني كائن ناقص، وأنني لا أملك ما تملكه الفتيات الأخريات، وأنني ارتكبت في طفولتي خطيئة فاسدة. ومع أن لك الحق في إبعادي إلا أنك لم تفعل، ولم تطعنّي أبداً». هذه الاعترافات بالذات هي التي دفعت البعض إلى التساؤل عن طبيعة ذلك النقصان وتلك الخطيئة، دون أن يجد أحد الإجابة الشافية عن ذلك. وإذ اعترفت فروغ لإحدى صديقاتها بالمأزق الذي تكابده، عبر قولها: «لا يمكن للمرأة أن تكون أماً جيدة وزوجة جيدة وشاعرة جيدة في الوقت ذاته، بل عليها أن تختار واحدة من هذه المهمات». لم تلبث أن جازفت بكل هدايا الحياة وأعطياتها من أجل أن تربح اثنتين: الشعر والحرية.
بعد عودتها من إيطاليا التي قصدتها الشاعرة المحبطة نشداناً للراحة وتخففاً من وطأة العلاقة الصعبة مع محيطها العائلي والاجتماعي، عملت فروغ عام 1958 في إحدى المجلات المحلية المصورة لفترة من الوقت، قبل أن تلتقي عبر أصدقاء مشتركين إبراهيم كلستان، الكاتب والمخرج السينمائي البارز الذي انتقلت للعمل معه كموظفة أرشيف، قبل أن يعصف حبها له بقلبها ولغتها وكيانها برمته. ومع أن فرزانة ميلالي تتحدث عن ذلك اللقاء قائلة: «كانت الفروق واضحة بين الرئيس والمرؤوس، فأحدهما في السادسة والثلاثين والآخر في الرابعة والعشرين. الأول متزوج ولديه طفلان، والآخر امرأة مطلقة ومحرومة من رؤية ابنها. أحدهما له تاريخ سياسي عريق كمسؤول في حزب (تودة) اليساري، وثري في الوقت ذاته، أما هي ففقيرة الحال ولم تستطع العيش بقلمها كبقية الشعراء»، إلا أن هذه الفروق المذكورة لم تصمد طويلاً أمام ذلك السهم الجارح الذي أصاب به كيوبيد قلبَي الفنان المتوقد ذكاءً والشاعرة الجميلة، وترك في مسيرة حياتهما آثاراً عميقة، من الصعب أن تُمحى.
وإذا كان الحب الغامر الذي عصف بالطرفين يعود بالدرجة الأولى إلى الكيمياء المتبادلة والانجذاب، كما هو شأن الحب في العادة، فإن أمرين آخرين أسهما دون شك في دفع العلاقة بينهما إلى مناطق أكثر رسوخاً وعمقاً، يتمثل أولهما في الشغف المفرط بالفن والإبداع، فيما الآخر متصل برفضهما المشترك للتحجر الفكري والتقاليد المحافظة، ونزوعهما العميق إلى كسر حلقة المحرمات. على أن نظرة متأنية إلى واقع الأمور لا بد أن تقودنا إلى استنتاج أن حديث كاتبة السيرة عن الفروق «الموضوعية» بين الطرفين لم يكن بالأمر العبثي، بل بدت تمثلاته واضحة على أرض الواقع المعيش. فكلستان المنخرط بقوة في النضال ضد النظام الحاكم، لم يكن مستعداً لأن يمنح حبه لفروغ حياته بكاملها، كما أن نزوعه العقلاني يؤكده عدم تخليه عن حياته الأسرية، حيث كان متزوجاً من مريم شيرازي وله منها ولدان.
أما فرخزاد فقد عصف حبها لكلستان بكيانها برمته وبكل جوانب حياتها، تاركة خلفها كل شيء باستثناء الشعر، وألقت بنفسها في الأتون المتلاطم لنيران الوله العاطفي والرغبات الحسية المشبوبة. ومن قلب هذا الأتون خرجت بعض أجمل قصائد الشعر الفارسي وأكثرها جرأة وجدة واتصالاً بالشغاف، حيث نقرأ نصوصاً من مثل:

«آه أيها الممتزج بروحي
يا من خلطني بشوق الشعر
أنا المرآة التي تمتلئ بنظرة عينيك
وإذا ما نظر الموت إليَّ تسودّ مرآتي
أنا عاشقة الغيوم الضائعة
عاشقة النهارات الماطرة
عاشقة كلّ ما يحمل اسمك
ورغم عطشي أمتصّ دم لحظاتك الحارقة»

وليست القصائد وحدها هي السبيل الوحيد للوقوف على تتيمها بكلستان، بل إن ذلك التتيم يظهر في عشرات الرسائل التي بعثت بها إليه أثناء السفر أو البعاد، حيث النصوص جميعها مستهلة بعبارات من مثل «شاهي العزيز فديتك» أو «عزيز القلب والروح». تتوزع النصوص على شؤون شتى تتعلق بالثقافة والفكر والفن وتفاصيل الحياة اليومية، وتعاود فروغ الإعلان عن عشقها الثابت لبطلها المعشوق فتخاطبه بالقول: «لو لم أجدك في هذه الدنيا لَمتّ، أو قتلت نفسي. أن أكون معك يعني أنني أغرق في بئر سحيقة وأصلُ إلى مركز الأرض». ومع ذلك فإن الحب الذي حملته الشاعرة لكلستان، لم يقنعها بفكرة الزواج منه كي لا تؤول نيران غرامهما المشتعل إلى كومة من الرماد، كما تؤكد بوران شقيقة فروغ الكبرى. وليس بعيداً عن الصحة ما رواه بعض المقربين عن إجهاضها للجنين الذي حملت به منه، خصوصاً أنها صرّحت غير مرة بأن انقطاعها للشعر لم يُتح لها القيام بدورها كأم. ورغم تبنيها للطفل حسين منصوري بسبب الشبه المفرط بينه وبين ابنها كاميار، فإنها لم تتمكن من إعطائه ما يلزمه من الرعاية والحنان الأموميين.
في الجانب الآخر من الصورة يبدو إبراهيم كلستان من النوع الأكثر تحفظاً في الإفصاح عن مشاعره تجاه صاحبة «لنؤمن ببداية موسم البرد». ومع أن الدلائل تشير إلى وقوع كلستان في غرام الشاعرة التي عهد إليها بالكثير من المهام والأدوار في إطار عمله السينمائي، فإن المقابلة المطولة التي أجرتها معه فرزانة ميلالي بعد وفاة فروغ تكشف عن الطبيعة «المعقلنة» لشخصيته وقدرته على ضبط مشاعره وتقنين الإفصاح عنها. حتى إنه في رده على سؤال يتعلق بحالة تكاملٍ ما بينه وبين فروغ، لا يتردد في القول: «لا لم أرَ شيئاً فيها يكملني»، إضافةً لحديثه عن غيرتها المفرطة، بخاصة من زوجته، وكذلك محاولتها الانتحار. وفي رده على سؤال آخر حول الأثر الذي تركته فيه حبيبته الراحلة يجيب: «لم يكن لديها شيء لتعطيني إياه سوى الحب».
والأرجح أن ما صرح به كلستان ليس سوى التفاف موارب على الحقيقة، مردُّه وفق ما أعتقد أناه الشخصية المتعالية، أو كبرياء ذكورية لم يستطع أن يطمسها التزامه اليساري الثوري، فيما كانت مشاعره العميقة إزاء فرخزاد تفصح عن نفسها عبر الكثير من المواقف والبراهين. فحب فروغ له أخذ نوعاً من الطابع الاستشرافي، حيث تخاطبه قائلة: «تعالَ لنحفر قبراً ونهيل التراب على أنفسنا وننام بصمت إلى نهاية العالم، كي لا يفصلنا شيء». كان قدر كلستان أن ينقلها بنفسه إلى المستشفى إثر حادثة السير المروعة التي أودت بحياتها في مطالع 1967. وأن يشتري قبرها من ماله الخاص ويشرف بنفسه على مواراتها التراب، قبل أن يغادر وطنه الأم، مشيحاً بوجهه عن مسرح حبه المأساوي، وجدران التخلف والعصبية والجهل التي أحاطت به من كل جانب.
أما فروغ فروخزاد فقد تضافر شعرها المتوهج مع حياتها القصيرة العاصفة المفعمة بروح التمرد في تحويلها لأيقونة حقيقية، ورمز فريد لانتهاك المحظورات والدعوة إلى التحرر. ولم يكن مصدر آلامها الرئيسي ناجماً عن عنف السلطة الذكورية فحسب، بل عن تواطؤ الضحية مع الجلاد، وتسويغها المحير لما يطالها من العنف، معبرة عن سخطها: «إن من يطأطئ رأسه راضياً بأن يُصفع، ليس لديه حق الصراخ أبداً: أريد الحرية». وإذا كان كتابها الشعري «وحده الصوت يبقى» أشبه بوصية شخصية تحث فيها نساء بلادها على مقارعة الظلم والتهميش والاستبداد الذكوري، فإن آلاف الأصوات التي خرجت مؤخراً للمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة بين الجنسين، بدت بمثابة استجابة متأخرة لصرخة فرخزاد بالمرأة المعنّفة:

«ذاك الذي خُلق من يدك
أنت من فضَح رجحانه وأفضليته
يا امرأة تَحرّكي
فالعالم في انتظارك وإلى جانبك».



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.