منى حبراس السليمية: الموضوعات المهمة لا تكفي لصنع أدب جيد

استطاعت الباحثة والناقدة دكتورة منى حبراس السليمية أن تصنع لنفسها حضوراً لافتاً داخل المشهد الثقافي العماني باعتبارها أحد الأصوات الجديدة التي تتسم بالكثير من الجدية والدأب والمشاركة الفعالة في المنتديات الأدبية المختلفة. ورغم انشغالها بالدراسات والمقالات المنشورة في الدوريات المتخصصة فإن رصيدها من الإنتاج المنشور لا يتجاوز عملاً واحداً هو كتاب «الطبيعة في الرواية العمانية»، لكنها تؤكد أن حاسوبها الشخصي يحمل تسعة مشاريع لكتب مقبلة تنتظر اللمسة الأخيرة. مؤخراً فازت بجائزة «السلطان قابوس»... هنا حوار معها حول الجائزة ورؤيتها للواقع الأدبي العماني.

> حصلت على جائزة السلطان قابوس في فرع «المقال»، برأيك ما معايير المقال الجيد؟ ومن هم أساتذتك في هذا المجال؟
- المقال الجيّد من وجهة نظري ليس بموضوعه، وإنما بأسلوب كاتبه؛ لأن أسلوب الكاتب هو ما يجعل من الموضوع التافه تحفة أدبية، وهو ما يحوّل كذلك الموضوع الصعب إلى مادة سلسلة يستطيع القراء على اختلاف مستوياتهم أن يتفاعلوا معها، وليس معنى ذلك أن تكون اللغة وحدها هي قوام الكتابة الجيدة. أما أساتذتي في هذا المجال فكُثر، ولكني أحب أن أشير إلى الفيلسوف والمفكر المصري زكي نجيب محمود. الرجل الذي عشقت كتبه ورحت أتتبعها كلها واحداً تلو الآخر؛ فهو بالنسبة لي المثال الذي كتب المقالة، ونظّر لها بطريقة ملهمة تقرّب الصعب إلى الأفهام، وتقيم صداقة راقية مع القارئ. وقد أهديت كتابي المقبل «ظِلّ يسقط على الجدار» إلى زكي نجيب محمود بوصفه الأساس الذي ألهب شغف قراءاتي الأولى.
> كيف ترين أثر الجوائز في المشهد الثقافي العربي، ولماذا تثير غضب ومرارة كثير من الأدباء؟
- الجوائز مهمّة جداً، فهي دليل حيوية وإشارة تقدير للمثقف والكاتب. وهي بقدر ما تكافئ المبدع على عطائه، تنبّه إليه أنظار القراء، وتختصر عليه مسافات وأزمنة حتى يصل إلى القارئ البعيد والقريب على حد سواء. فضلاً عن أنها تحقق له الانتشار عبر اللغات الأخرى من خلال ترجمة أعماله. أما إثارتها لغضب كثير من الأدباء واستيائهم ومرارتهم، فهذا من طبيعة الجوائز والتنافس والاختلاف في الذائقة. ولا أتصور أن الغضب والاستياء سينتهيان يوماً، ولكن ما ينبغي أن تحرص عليه الجوائز هو حسن اختيار لجان التحكيم، وتنزيه الجوائز عن التحيزات والمناطقية والآيديولوجيات، بحيث تحتكم إلى الأدب وحده.
> لك دراسة مهمة عن مقاربة القضية الفلسطينية في الرواية العربية، ما أهم ملاحظاتك في هذا السياق؟ وهل وقع البعض في فخ الكتابة التقريرية المباشرة عند تناول هذا الموضوع؟
- في موضوع مهم مثل القضية الفلسطينية، لا بدّ أن تتفاوت التجارب بطبيعة الحال، فهي قضية الجميع والكتابة عنها شرف بحد ذاته. ولكن لا يكفي الموضوع المهم أو النبيل وحده ليكون رافعة للأدب ما لم يسعفه الفن، ليصبح السؤال الأهم: كيف؟ وليس ماذا؟
في هذه الدراسة ركزت على تجربة الروائي الكويتي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، وهي من التجارب الرائدة، ولعله من أكثر التجارب الخليجية التي خصت القضية الفلسطينية بأكثر من رواية، وبتنويعات وزوايا معالجة فنية مختلفة من عمل إلى آخر.
> القصة النسائية القصيرة في سلطنة عمان كانت موضوع دراسة أخرى تتناولين فيها ثلاثة نماذج تتمثل في: جوخة الحارثي وبشرى خلفان وهدى حمد، ما نقاط التماس والاختلاف بين تلك التجارب الإبداعية في هذا السياق؟
- أنجزتُ هذه الدراسة في أواخر عام 2011 ضمن أعمال «ملتقى الإبداع الخليجي الثاني» الذي احتضنته إمارة الشارقة. وكنتُ أعاين في التجارب النسائية الثلاث صورة الرجل تحديداً، ووجدت أن الرجل في قصص القاصات الثلاث -والروائيات أيضاً- ليست واحدة، وأن القاصة الواحدة منهن لديها تنويعاتها فيما يخص صورة الرجل؛ فهو ليس متسلطاً على طول الخط، وليس متفوقاً على الدوام. بل كثيراً ما جاء الرجل ندّاً، وفي أحيان أخرى غير فاعل في الفضاء السردي.
> على ضوء ذلك، كيف ترين المشهد النسائي العماني على مستوى الرواية؟
- الرواية العمانية تعيش حالة من الانتعاش، وأجزم بأن خط مسيرتها يتجه تصاعدياً. وهناك مجموعة أحداث أسهمت في تسليط الضوء على الرواية العمانية مؤخراً، أبرزها فوز جوخة الحارثي بجائزة «ألمان بوكر» العالمية في عام 2019، وهو الحدث الذي ألقى بظلاله على المشهد الروائي العماني والخليجي برمته، ونشطت مؤخراً جهود لترجمة أعمال روائية عمانية إلى عدة لغات. حالياً هناك أسماء بارزة في المشهد الروائي العماني إلى جانب جوخة الحارثي، منها بشرى خلفان التي فازت بجائزة «كتارا» عن روايتها المهمّة «دلشاد»، وسبقتها بروايتها «الباغ» التي حظيت بتألقٍ واسع، وهناك المنجز الروائي التراكمي لهدى حمد، فضلاً عن مشروع زهران القاسمي اللافت، وآخرون مثل: محمد اليحيائي، ويونس الأخزمي، ومحمد العجمي، وشريفة التوبي، وزوينة الكلباني... وغيرهم.
> يبدو أن لك غرامك الخاص بقراءة وتحليل فن السيرة الذاتية في تجلياته العربية المعاصرة، ترى ما الذي استوقفك في هذا السياق؟
- هذا صحيح. بدأت علاقتي الحقيقية مع القراءة بهذا الجنس الأدبي، تحديداً في صيف عام 2003، عندما درستُ في الجامعة مقرر «فن السيرة الذاتية» على يد الأستاذ العراقي الدكتور وليد محمود خالص. كانت طريقته في التدريس والعناوين التي يقترحها تشعل فيّ فضولاً عارماً. كنت أتوجه إلى المكتبة الرئيسية في الجامعة بعد كل محاضرة له، وأبحث عن السير الذاتية التي يشير إليها بدءاً من «قصة نفس» و«قصة عقل» لزكي نجيب محمود -وكانت أولى السير الذاتية التي قرأتها- وليس انتهاء بـ«منازل الخطوة الأولى» لسيف الرحبي. لهذا الشغف بالسيرة الذاتية جذر قديم، فأنا مولعة منذ طفولتي ومراهقتي بحكايات الآخرين وحيواتهم. كتبتُ عن هذا كثيراً، وأسميته «فن التلصص» على حياة الآخرين. وخلال سنوات طويلة قرأت عدداً كبيراً من السير الذاتية، وتأثرت بها، وأشعر أن هناك فتنة خاصة لهذا الفن لا أستطيع مقاومتها.
> كتابك الأول تناول «الطبيعة في الرواية العمانية»، لماذا اخترت هذا الموضوع تحديداً؟ وما أبرز ما خرجتِ به من نتائج؟
- لاختيار موضوع هذا الكتاب قصة طريفة: بينما كنت أبحث عن موضوع لرسالة الماجستير، شدّني ما يكتبه الروائي العماني من وصف للطبيعة في عمان، وكيف يؤثر هذا على الشخصيات وسير الأحداث في الرواية، وأقارنه بما يكتبه الروائي الآخر، لا سيما في الأعمال المترجمة، عندما يصف طبيعة مناقضة لها تماماً، فقفزت في ذهني فكرة أن أدرس كيف يوظّف الروائي العماني الطبيعة في روايته. وغذّت هذه الفكرة عدة كتب تناولت الطبيعة في الشعر -على اختلاف المعالجات المنهجية والأدوات بطبيعة الحال- فذهبتُ إلى مشرفي الدكتور إحسان صادق وأخبرته بفكرة موضوعي. نظر إليّ مبتسماً وقال: من أين جئتِ بهذا الموضوع؟ وكنتُ حينها أحمل رواية «الوخز» لحسين العبري، ففتحتها على صفحة بعينها يصف فيها حرارة شمس الظهيرة وكأنها سياط تلهب ظهر شخصية البطل، بينما ينزل من السيارة ليجتاز مسافة نحو بوابة رئيسية لمبنى ما. وهناك نماذج أخرى وتنويعات كثيرة في روايات أخرى. قلت له: من هنا جاءت الفكرة. نظر إليّ مجدداً وقال: قدمي لي تصورك مكتوباً بالتفصيل. وهكذا قضيت رحلة ممتعة مع موضوع لطيف جداً.
> صدر كتابك الأول في 2013، ما الذي أخّر صدور مؤلفات أخرى لك؟
- لم أكن أفكر في ذلك الوقت بنشر شيء آخر بعد كتاب «الطبيعة في الرواية العمانية»؛ لأني انخرطت حينها في برنامج الدكتوراه في المملكة المغربية، وقد استغرقت الدراسة مني خمس سنوات. ولكني خلال تلك السنوات كنت أنشر بعض المقالات في الصحف المحلية وصحيفة «القدس العربي» ومجلة «نزوى» العمانية، وعدد من المجلات الثقافية الخليجية. كما كنت بطبيعة الحال أكتب بعض النصوص الأدبية بين الحين والآخر. كنت أكتبها متفرقة باستثناء ثلاثة مشاريع كانت تتشكل باتجاه أن تكون كتباً قائمة بذاتها، أحدها كتاب جمعت فيه نصوصاً عن أبي رحمه الله، واخترت عنوانه «رسائل متأخرة إلى حضرة الوالد»، وكتاب آخر -وهو الذي أشرت إليه آنفاً، وسينشر في معرض مسقط الدولي للكتاب المقبل في فبراير (شباط) 2023- بعنوان «ظل يسقط على الجدار». أما الكتاب الثالث فهو كتاب نقدي يضم قراءات في الرواية العمانية والعربية. الآن عندما أعيد النظر في المشاريع التي رتبتها في جهاز حاسوبي المحمول، أستطيع أن أقول إن لدي ما يزيد على تسعة مشاريع كتب، ومعظمها شبه مكتمل، وسأعمل على نشرها تباعاً، بالإضافة إلى أطروحة الدكتوراه. لعل هذا يعوّض سنوات الانقطاع عن النشر، غير أنها لم تكن انقطاعاً عن الكتابة بطبيعة الحال.
> أخيراً، تحتل الرواية موقعاً مهيمناً في الإبداع العربي الراهن، هل يستمر الأمر طويلاً برأيك، بعبارة أخرى: هل ينتهي «زمن الرواية» قريباً؟
- قرأت رأياً أعجبني في هذا السياق للناقد التونسي محمد زرّوق الذي يرى أن الرواية يُمكن أن تتراجع أداء وتلقّياً في الواقع الأوروبي لأسباب عديدة، منها استهلاك المخزون الأسطوري والتاريخي للشعوب على عكس الرواية العربية.
وبالفعل، لا يمكن قياس ظروف الرواية الأوروبية على نظيرتها العربية التي تعيش سياقاً مغايراً، فهي لم تستنفد كل طاقاتها بعد، ولا يزال لديها الكثير لتخوضه وتجتازه وتتجاوزه. وأظن جازمة أن الرواية لن تموت في أي سياق جغرافي أو حضاري رغم هذه الشعارات والنبوءات التي تقول بموتها الوشيك.