فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

الوصول إلى الثورة البصرية المأمولة يحتاج إلى وعي نقدي بوسائل الاتصال

فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية
TT

فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

أمام التعميم المطلق لثقافة الاستهلاك، وانسياق الإنسان المعاصر إلى الاستهلاك السلبي والمفرط من دون تريث أو فحص، أو حتى التساؤل عن الرسائل الخفية الكامنة وراء ما تقدمه لنا الصناعة الثقافية، صار البحث في فلسفة الصورة مطلبا ملحا لامتلاك أدوات تفكيك الصورة ونقد خباياها. وعلى الرغم من الفرق بين الصورة الفنية والصورة المعدة للتداول الإعلامي، فإن مجال الصورة عموما، في عالم اليوم، يتمتع باستقلالية نسبية، له مناهجه الخاصة وأدوات اشتغاله.
تخاطب الفلسفة العقل من خلال اللغة، بينما تخاطب الصورة العقل من خلال العين، مما يفيد بأن لكل منهما وسيلتها الخاصة للتعبير عن الفكرة ولصوغ المفهوم. كتب دولوز عن أن الفلسفة إبداع للمفاهيم، لكنه في الآن ذاته مقتنع أيضا بأن الصورة إبداع للمفهوم، وسواء تعلق الأمر بالفن من رسم وسينما وتصوير أم لا، فإن محاكاة المفهوم هي السمة المميزة لعمل الرسام والمصور ومخرج الأفلام.
«الشرق الأوسط» حاورت الدكتور عبد العالي معزوز*، الذي أجاب عن أسئلة مرتبطة بحضور إرث المدرسة النقدية (مدرسة فرانكفورت)، الذي لا يزال يحتفظ بنقد ثقافة الاستهلاك ومجمل الصناعات الثقافية، ومدى استمرارية التقليد النقدي في الدرس الفلسفي بالمغرب، وعن أسئلة مرتبطة أيضا بأحداث لها وقعها الخاص، مما يمكن أن نسميها بأحداث الصورة، وتحديدا «أحداث شارلي إيبدو». وفي ما يلي نص الحوار:

* لا شك في أن عملكم الأخير والموسوم بـ«فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل» (أفريقيا الشرق 2015)، يندرج ضمن مجال المرئي الذي تحكمه ثقافة العين أو ثقافة الصورة، ويسعى إلى تغطية مبحث فلسفة الفن من جهة، والصناعة الثقافية (ثقافة الاتصال) من جهة أخرى، فهل يمكن اعتباره عملا نقديا يحافظ على إرث النظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت)؟
- كانت مدرسة فرانكفورت هي منطلقي في البحث بخصوص وسائل الاتصال والصناعة الثقافية، لماذا؟ بحكم اهتمامي بأدورنو الذي يُعتَبَرُ فيلسوف المدرسة من جهة، وبحكم اهتمامي الأصلي بموضوع الثقافة البصرية، وبالفنون البصرية بدءا من التشكيل إلى السينما والفرجة والفوتوغرافيا وغيرها.
كانت مدرسة فرانكفورت ولا تزال مُلْهِمَة لكثير من الفلاسفة والمفكِّرين المعاصرين. ويعود إليها السبقُ في تشخيص أزمات العالم المعاصر. كما يعود إليها الفضْلُ في نحت مفاهيم جديدة، مثل الصناعة الثقافية، وصنمية السلعة، والتشيُّؤ الشامل، والنمذجة، والتنميط وغيرها من المفاهيم. واستلهمتُ مفهوم الفن من النظرية الجمالية عند أدورنو، ونهلتُ منها مفهوم الشكل، والنفي المحدَّد، ومضمون الحقيقة، ولعبة المظهر. ولم أجد أكثر نقدا لمنتجات الصناعة الثقافية من مدرسة فرانكفورت إلى حدِّ أنها سُمِّيَت أيضا بـ«النظرية النقدية».
* تسهم الصورة في مختلف أشكالها الإبداعية في تفجير المكبوت وتدنيس المقدس وتعرية المسكوت عنه، خاصة في عصر الثورة التكنولوجية الثالثة (العصر الرقمي، مع تطور الإنترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي). فهل يمكن الحديث فعلا، عن ثقافة الصورة في مجتمعاتنا ما قبل العلمانية؟ وإلى أي حد أسهمت وسائل التواصل والإعلام الجماهيرية الجديدة في كبح التحكم الكلي للسلطة السياسية (في مجتمعاتنا) في هذه الوسائل؟ وهل يمكن القول إن مجال الحرية قد اتسع في ظل التحولات الجارية؟
- إذا اتفقنا مع ريجيس دوبريه فإننا نحيا في عصر «الفيديوسفير»، أي في عصر تُهيمن فيه الصورة الآلية التي كانت تماثلية في الطور الأول، وصارت رقمية في المرحلة الآنية. لا تمثِّلُ الصورة في ذاتها وسيطا ثوريا، لكنها تصبح كذلك حين تُوظَّف على نحو يجعلُها ثورية. لماذا أقول هذا؟ لأن الصورة الآلية تُستَعمَلُ للتسويق أو للإشهار أو للدعاية السياسية أو للترفيه. وهي كما نعلم، وظائف وأدوار ليست ثورية إطلاقا. إن المُعوَّل على الفن من أجل تفجير القوى الكامنة في الصورة، لأنه هو المؤهل للرقي بالصورة إلى مستوى يجعلها قادرة على قلب إدراكنا للعالم. وأنا لا أتفق مع توصيف ما قبل العلمانية وما بعد، وأذهب إلى توصيف ما قبل الحداثة وما بعدها. أما في ما يخص مصطلح التدنيس، فلا يُعتبَر معيارا لقياس مدى ثورية أو رجعية الصورة.
في المقابل، تُقاس جمالية الصورة بتعبيريَّتها، وبمدى إحداثها لارتجاج في إدراك الرائي، أو في المتلقِّي إلى حد تغيير نظرته للعالم. حقا إن شيوع الصورة واستهلاكها على نطاق واسع هو مقدمة وليس نتيجة لتثوير نظرتنا للعالم، وإن بإمكان الاتصال الآني ومواقع التواصل الاجتماعي أن يمثلا مدخلا للتغيير المنشود، ولكن يبقى مفتقرا إلى الثقافة البصرية المطلوبة. فإذا لم نصل إلى وعي نقدي بوسائط الاتصال، فلن يكون بالإمكان الوصول إلى الثورة البصرية المأمولة.
* على ضوء التحولات الجارية، وباتساق مع أحداث «شارلي إيبدو»، ما هي التأثيرات الآيديولوجية والسياسية المحتملة للحدث على الرأي العام في مجتمعاتنا؟ هل نعيش أفول «تحريم الصورة»؟
- إن واقعة «شارلي إيبدو» مؤشر مؤْسِف على ما يمكن أنْ يحصل من سوء فهم عميق، بين ثقافة لا يحتل فيها الدين أي موقع وبين ثقافة لا يزال يتأرجح فيها الدين بين الاستثمار الآيديولوجي وردود الفعل الانفعالية. ومردُّ ذلك كله إلى تشوُّش مفهوم التمثيل أو التشخيص في ثقافتنا: فبينما في الثقافة الغربية لا يعني التشخيص الفني - والحديث هنا عن فن الكاريكاتير باعتباره فنا سياسيا - أنّ ما نصوّرُه حقيقي، فإن التشخيص في ثقافة ذات نفحة دينية - خصوصا إذا كان ساخرا مثلما الحال في هذا الشكل الفني - يُعتَبَرُ مسيئا أو مدنسا، خاصة إذا تناول موضوعا مقدسا مثل شخص الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن دون الإغراق في تعريف ما الفن وما هو التشخيص الفني، يمكن القول إن سوء الفهم، وليس الإساءة، يعود إلى أننا أمام منطقين مختلفين: منطق فني يعرٍّف نفسه، منذ البداية، على أنه ساخر وغير مسؤول، وهو موقف أسبوعية «شارلي إيبدو»، وموقف يعتبرُ السخرية من الدين ومن الرسول إساءة ما بعدها إساءة.
ليس الموضوع البحث عن أعذار أو مسوغات لمشروعية السخرية من عدمها، مثلما لا يمكنُ التعلُّل بصواب أو عدم صواب الاحتجاج عليها، فهذا ليس المطلوب وإنما البحث عن الجذور الثقافية لسوء الفهم. ومن دون استغلال الواقعة للتَّموقع مع أو ضدّ - فهذا يقع خارج الاهتمام - فإنه لا يمكن سوى إبداء الأسف على ما وقع. إن الإشكال العميق يكمن في منزلة الصورة في كل من الثقافتين: ثقافة غربية لا يُأخذ فيها التمثيل على مَحْمَل الجدّ، خصوصا في فن يُعرِّف نفسه باعتباره فنا ساخرا، وثقافة إسلامية يُعتَبَرُ التمثيل فيها حقيقيا، وبالتالي يُأخَذُ على مَحْمَل الجدّ. لا يمكنُ أن نسمي ما حدث وردود الفعل القوية والدراماتيكية عليه مؤشِّرا على أفول الصورة في مجتمعاتنا، لأن مثل هذا الاستنتاج متسرّع، ويجانب الصواب، لأن الصورة مقوِّم أساسي لكل المجتمعات المعاصرة مرْتَكَز محوري فيه.
* باعتبارك أستاذا للفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وقد راكمت تجربة مهمة في تدريس مادة الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، ما هي الأدوار التي يمكن أن تلعبها الصورة خاصة السينمائية في الرقي بوضع الدرس الفلسفي نحو المأمول، وفي تنمية الوعي النقدي؟
- للصورة أدوار ووظائف، أهمها تكوين الطلبة على الثقافة البصرية. من مفاتيح العالم المعاصر الصورة، باعتبارها وسيطا إعلاميا في مجال التواصل، وأداة تعبيرية في ميدان الفن. كما أن للصورة دورا إشهاريا ودعائيا. عملي كأستاذ هو أن أحمل الطلبة على التمييز بين أنماط الصورة، ومَدِّهِم بالأدوات الفكرية والمنهجية لفك رموز الصورة وطلاسمها الظاهرة والخفية. فالصورة الإعلامية هي الأخبار الإشهارية للترويج، والدعائية لتعبئة الجماهير وتجييشها. وأخيرا الصورة الفنية للاستمتاع والإعجاب. المهمة التعليمية تتمثل في مد الطلبة بالحسّ النقدي، وتعليمهم أن إنتاج الصور يخضع لاستراتيجيات، وتكمنُ وراءه رهانات اقتصادية ومالية كبرى.

* أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بنمسيك - جامعة الحسن الثاني - الدار البيضاء
صدر له كمتخصص في ثقافة الصورة وتفكيك الصناعة الثقافية في العالم المعاصر: «جماليات الحداثة: أدورنو ومدرسة فرانكفورت» الصادر عن منتدى المعارف.. و«الإنترنت والاستلاب التقاني».. و«هشام شرابي: ونقد النظام الأبوي في المجتمع العربي»



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.