فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

الوصول إلى الثورة البصرية المأمولة يحتاج إلى وعي نقدي بوسائل الاتصال

فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية
TT

فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

فلسفة الصورة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية

أمام التعميم المطلق لثقافة الاستهلاك، وانسياق الإنسان المعاصر إلى الاستهلاك السلبي والمفرط من دون تريث أو فحص، أو حتى التساؤل عن الرسائل الخفية الكامنة وراء ما تقدمه لنا الصناعة الثقافية، صار البحث في فلسفة الصورة مطلبا ملحا لامتلاك أدوات تفكيك الصورة ونقد خباياها. وعلى الرغم من الفرق بين الصورة الفنية والصورة المعدة للتداول الإعلامي، فإن مجال الصورة عموما، في عالم اليوم، يتمتع باستقلالية نسبية، له مناهجه الخاصة وأدوات اشتغاله.
تخاطب الفلسفة العقل من خلال اللغة، بينما تخاطب الصورة العقل من خلال العين، مما يفيد بأن لكل منهما وسيلتها الخاصة للتعبير عن الفكرة ولصوغ المفهوم. كتب دولوز عن أن الفلسفة إبداع للمفاهيم، لكنه في الآن ذاته مقتنع أيضا بأن الصورة إبداع للمفهوم، وسواء تعلق الأمر بالفن من رسم وسينما وتصوير أم لا، فإن محاكاة المفهوم هي السمة المميزة لعمل الرسام والمصور ومخرج الأفلام.
«الشرق الأوسط» حاورت الدكتور عبد العالي معزوز*، الذي أجاب عن أسئلة مرتبطة بحضور إرث المدرسة النقدية (مدرسة فرانكفورت)، الذي لا يزال يحتفظ بنقد ثقافة الاستهلاك ومجمل الصناعات الثقافية، ومدى استمرارية التقليد النقدي في الدرس الفلسفي بالمغرب، وعن أسئلة مرتبطة أيضا بأحداث لها وقعها الخاص، مما يمكن أن نسميها بأحداث الصورة، وتحديدا «أحداث شارلي إيبدو». وفي ما يلي نص الحوار:

* لا شك في أن عملكم الأخير والموسوم بـ«فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل» (أفريقيا الشرق 2015)، يندرج ضمن مجال المرئي الذي تحكمه ثقافة العين أو ثقافة الصورة، ويسعى إلى تغطية مبحث فلسفة الفن من جهة، والصناعة الثقافية (ثقافة الاتصال) من جهة أخرى، فهل يمكن اعتباره عملا نقديا يحافظ على إرث النظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت)؟
- كانت مدرسة فرانكفورت هي منطلقي في البحث بخصوص وسائل الاتصال والصناعة الثقافية، لماذا؟ بحكم اهتمامي بأدورنو الذي يُعتَبَرُ فيلسوف المدرسة من جهة، وبحكم اهتمامي الأصلي بموضوع الثقافة البصرية، وبالفنون البصرية بدءا من التشكيل إلى السينما والفرجة والفوتوغرافيا وغيرها.
كانت مدرسة فرانكفورت ولا تزال مُلْهِمَة لكثير من الفلاسفة والمفكِّرين المعاصرين. ويعود إليها السبقُ في تشخيص أزمات العالم المعاصر. كما يعود إليها الفضْلُ في نحت مفاهيم جديدة، مثل الصناعة الثقافية، وصنمية السلعة، والتشيُّؤ الشامل، والنمذجة، والتنميط وغيرها من المفاهيم. واستلهمتُ مفهوم الفن من النظرية الجمالية عند أدورنو، ونهلتُ منها مفهوم الشكل، والنفي المحدَّد، ومضمون الحقيقة، ولعبة المظهر. ولم أجد أكثر نقدا لمنتجات الصناعة الثقافية من مدرسة فرانكفورت إلى حدِّ أنها سُمِّيَت أيضا بـ«النظرية النقدية».
* تسهم الصورة في مختلف أشكالها الإبداعية في تفجير المكبوت وتدنيس المقدس وتعرية المسكوت عنه، خاصة في عصر الثورة التكنولوجية الثالثة (العصر الرقمي، مع تطور الإنترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي). فهل يمكن الحديث فعلا، عن ثقافة الصورة في مجتمعاتنا ما قبل العلمانية؟ وإلى أي حد أسهمت وسائل التواصل والإعلام الجماهيرية الجديدة في كبح التحكم الكلي للسلطة السياسية (في مجتمعاتنا) في هذه الوسائل؟ وهل يمكن القول إن مجال الحرية قد اتسع في ظل التحولات الجارية؟
- إذا اتفقنا مع ريجيس دوبريه فإننا نحيا في عصر «الفيديوسفير»، أي في عصر تُهيمن فيه الصورة الآلية التي كانت تماثلية في الطور الأول، وصارت رقمية في المرحلة الآنية. لا تمثِّلُ الصورة في ذاتها وسيطا ثوريا، لكنها تصبح كذلك حين تُوظَّف على نحو يجعلُها ثورية. لماذا أقول هذا؟ لأن الصورة الآلية تُستَعمَلُ للتسويق أو للإشهار أو للدعاية السياسية أو للترفيه. وهي كما نعلم، وظائف وأدوار ليست ثورية إطلاقا. إن المُعوَّل على الفن من أجل تفجير القوى الكامنة في الصورة، لأنه هو المؤهل للرقي بالصورة إلى مستوى يجعلها قادرة على قلب إدراكنا للعالم. وأنا لا أتفق مع توصيف ما قبل العلمانية وما بعد، وأذهب إلى توصيف ما قبل الحداثة وما بعدها. أما في ما يخص مصطلح التدنيس، فلا يُعتبَر معيارا لقياس مدى ثورية أو رجعية الصورة.
في المقابل، تُقاس جمالية الصورة بتعبيريَّتها، وبمدى إحداثها لارتجاج في إدراك الرائي، أو في المتلقِّي إلى حد تغيير نظرته للعالم. حقا إن شيوع الصورة واستهلاكها على نطاق واسع هو مقدمة وليس نتيجة لتثوير نظرتنا للعالم، وإن بإمكان الاتصال الآني ومواقع التواصل الاجتماعي أن يمثلا مدخلا للتغيير المنشود، ولكن يبقى مفتقرا إلى الثقافة البصرية المطلوبة. فإذا لم نصل إلى وعي نقدي بوسائط الاتصال، فلن يكون بالإمكان الوصول إلى الثورة البصرية المأمولة.
* على ضوء التحولات الجارية، وباتساق مع أحداث «شارلي إيبدو»، ما هي التأثيرات الآيديولوجية والسياسية المحتملة للحدث على الرأي العام في مجتمعاتنا؟ هل نعيش أفول «تحريم الصورة»؟
- إن واقعة «شارلي إيبدو» مؤشر مؤْسِف على ما يمكن أنْ يحصل من سوء فهم عميق، بين ثقافة لا يحتل فيها الدين أي موقع وبين ثقافة لا يزال يتأرجح فيها الدين بين الاستثمار الآيديولوجي وردود الفعل الانفعالية. ومردُّ ذلك كله إلى تشوُّش مفهوم التمثيل أو التشخيص في ثقافتنا: فبينما في الثقافة الغربية لا يعني التشخيص الفني - والحديث هنا عن فن الكاريكاتير باعتباره فنا سياسيا - أنّ ما نصوّرُه حقيقي، فإن التشخيص في ثقافة ذات نفحة دينية - خصوصا إذا كان ساخرا مثلما الحال في هذا الشكل الفني - يُعتَبَرُ مسيئا أو مدنسا، خاصة إذا تناول موضوعا مقدسا مثل شخص الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن دون الإغراق في تعريف ما الفن وما هو التشخيص الفني، يمكن القول إن سوء الفهم، وليس الإساءة، يعود إلى أننا أمام منطقين مختلفين: منطق فني يعرٍّف نفسه، منذ البداية، على أنه ساخر وغير مسؤول، وهو موقف أسبوعية «شارلي إيبدو»، وموقف يعتبرُ السخرية من الدين ومن الرسول إساءة ما بعدها إساءة.
ليس الموضوع البحث عن أعذار أو مسوغات لمشروعية السخرية من عدمها، مثلما لا يمكنُ التعلُّل بصواب أو عدم صواب الاحتجاج عليها، فهذا ليس المطلوب وإنما البحث عن الجذور الثقافية لسوء الفهم. ومن دون استغلال الواقعة للتَّموقع مع أو ضدّ - فهذا يقع خارج الاهتمام - فإنه لا يمكن سوى إبداء الأسف على ما وقع. إن الإشكال العميق يكمن في منزلة الصورة في كل من الثقافتين: ثقافة غربية لا يُأخذ فيها التمثيل على مَحْمَل الجدّ، خصوصا في فن يُعرِّف نفسه باعتباره فنا ساخرا، وثقافة إسلامية يُعتَبَرُ التمثيل فيها حقيقيا، وبالتالي يُأخَذُ على مَحْمَل الجدّ. لا يمكنُ أن نسمي ما حدث وردود الفعل القوية والدراماتيكية عليه مؤشِّرا على أفول الصورة في مجتمعاتنا، لأن مثل هذا الاستنتاج متسرّع، ويجانب الصواب، لأن الصورة مقوِّم أساسي لكل المجتمعات المعاصرة مرْتَكَز محوري فيه.
* باعتبارك أستاذا للفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وقد راكمت تجربة مهمة في تدريس مادة الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، ما هي الأدوار التي يمكن أن تلعبها الصورة خاصة السينمائية في الرقي بوضع الدرس الفلسفي نحو المأمول، وفي تنمية الوعي النقدي؟
- للصورة أدوار ووظائف، أهمها تكوين الطلبة على الثقافة البصرية. من مفاتيح العالم المعاصر الصورة، باعتبارها وسيطا إعلاميا في مجال التواصل، وأداة تعبيرية في ميدان الفن. كما أن للصورة دورا إشهاريا ودعائيا. عملي كأستاذ هو أن أحمل الطلبة على التمييز بين أنماط الصورة، ومَدِّهِم بالأدوات الفكرية والمنهجية لفك رموز الصورة وطلاسمها الظاهرة والخفية. فالصورة الإعلامية هي الأخبار الإشهارية للترويج، والدعائية لتعبئة الجماهير وتجييشها. وأخيرا الصورة الفنية للاستمتاع والإعجاب. المهمة التعليمية تتمثل في مد الطلبة بالحسّ النقدي، وتعليمهم أن إنتاج الصور يخضع لاستراتيجيات، وتكمنُ وراءه رهانات اقتصادية ومالية كبرى.

* أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بنمسيك - جامعة الحسن الثاني - الدار البيضاء
صدر له كمتخصص في ثقافة الصورة وتفكيك الصناعة الثقافية في العالم المعاصر: «جماليات الحداثة: أدورنو ومدرسة فرانكفورت» الصادر عن منتدى المعارف.. و«الإنترنت والاستلاب التقاني».. و«هشام شرابي: ونقد النظام الأبوي في المجتمع العربي»



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.