بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا

مع طيه صفحة مشاكل الماضي والصراعات الشخصية

بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا
TT

بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا

بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا

بعد أيام من الجمود السياسي أعقبت الانتخابات العامة، حظيت ماليزيا أخيراً برئيس وزرائها الـ10، وهو السياسي الإصلاحي داتوك سيري أنور إبراهيم (75 سنة)، فغدا خامس مَن يتقلد هذا المنصب في غضون أقل من خمس سنوات. ويتحقق هذا الإنجاز لأنور إبراهيم بعد انتظار نحو ثلاثة عقود، زجّ به في السجن خلالها مرتين، وأمضى عقدين منها زعيماً للمعارضة في ماليزيا. في الانتخابات التي أجريت يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، فاز حزب «تحالف الأمل» الذي ينتمي إليه أنور بأكبر عدد من المقاعد وهو 82، إلا أنه يقل عن الغالبية المطلقة البالغة 112 مقعداً ليشكل حزبه الحكومة العتيدة منفرداً. ولذا عقب إعلان النتيجة دارت مداولات مكثفة بين تشكيلات مختلفة من الأحزاب والتحالفات السياسية، بهدف معاونة «تحالف الأمل» على تولي السلطة. ومع ذلك، أدت الخلافات السياسية والآيديولوجية إلى حالة من الجمود. وعليه، اضطر ملك ماليزيا الحالي السلطان عبد الله سلطان أحمد شاه إلى التدخل لحسم الخلافات والاتفاق على حكومة. وبالفعل، وعليه، استدعى السلطان قيادات من الأحزاب السياسية وتشاور مع سلاطين الولايات، وحثّ على تشكيل حكومة وحدة وطنية، إلى أن انتهت الجهود بتسمية إبراهيم لمنصب رئيس الوزراء.

ولد أنور إبراهيم لأسرة ماليزية مسلمة متواضعة البدايات، يوم 10 أغسطس (آب) عام 1947، في بلدة سيبرانغ براي بولاية بينانغ في شمال غرب شبه جزيرة الملايو، ونشأ في شيروك توكون أيضاً في بينانغ. وكان والده إبراهيم عبد الرحمن يعمل في مستشفى ووالدته تشي يان ربة منزل. لكن وضع الأسرة تحسن مع انخراط والديه في السياسة. ومع بلوغ الوالد سن التقاعد كان يشغل منصب سكرتير برلماني لوزارة الصحة، ونشطت والدته في المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة (يو إن إم أو)، بعد إتمامها دراستها الثانوية.
تلقى تعليمه المبكّر في واحدة من أعرق المدارس الابتدائية في بينانغ. ثم، في مرحلة تعليمه الثانوي، التحق بكلية مالاي كوليدج كوالا كانغسر التي تعد من أعرق مدارس البلاد. وخلال الفترة التي أمضاها هناك، شارك بنشاط في المناظرات التي كانت تعقدها المؤسسة التعليمية ووقع الاختيار عليه رئيساً لاتحاد الطلاب بفضل إنجازاته وسمعته الطيبة. وبعدها، أكمل أنور دراسته الجامعية في جامعة الملايو (مالايا) التي تعد واحدة من أبرز جامعات ماليزيا وأعرقها. وفي الجامعة، اتضحت إمكاناته كزعيم سياسي، ذلك أنه لفترة ترأس جمعية اللغة الملاوية. كذلك اكتسب سمعة وحصل على شعبية واسعة من خلال مشاركته بشدة في الدفاع عن مجتمع الملاي والمسلمين خلال فترة ما عرف باسم حادثة 13 مايو (أيار) 1969.
لدى أنور إبراهيم وزوجته وان عزيزة 6 أولاد. ورغم تركز الأنظار حالياً عليه على الصعيد العالمي، تحظى زوجته وان عزيزة وابنته نور العزة بمكانة بارزة على مستوى المشهد السياسي المحلي، مع سنوات وسنوات من تمثيل الناس. فعام 1999، انتخبت وان عزيزة نائبة في البرلمان عن دائرة انتخابية كانت تحت نفوذ زوجها قبل اعتقاله. ونجحت في الاحتفاظ بالمقعد في الانتخابات العامة لعامي 2004 و2008، ومن جهة ثانية، فاجأت نور العزة الجميع بفوزها في الانتخابات البرلمانية عام 2008.

- مسيرة الصعود والهبوط
كما سبقت الإشارة، في سنوات الدراسة الجامعية، برز أنور إبراهيم قيادياً يناضل من أجل الطلاب والحقوق الاجتماعية، وحركياً ناشطاً ومثيراً للجدل. وخلال تلك الفترة كان يتحدث بإعجاب عن البطل الثوري الفلبيني خوسيه ريزال، معتبراً إياه قدوة له، ويقول عنه إنه «رجل ينتمي بحق لعصر النهضة الآسيوية». وبحلول وقت تخرجه في الجامعة، كان قد أصبح بالفعل شخصية وطنية مشهورة تسعى بدأب لتنفيذ أجندة إصلاحية. وفي عام 1971، أسس «حركة الشباب المسلم في ماليزيا»، بهدف تعزيز مبادئ الإسلام المعتدل والتمسك بها والعمل على النهوض الأخلاقي والعدالة الاجتماعية، إلا أنه بين عامي 1974 و1975، أمضى بعض الوقت في السجن نتيجة لاعتقاله عام 1974 أثناء مظاهرات طلابية ضد الجوع والفقر في المناطق الريفية، ومع هذا حرص على استغلال فترة سجنه لنيل درجة الماجستير في الأدب من جامعة ماليزيا الوطنية.
عام 1982، صدم أنصار أنور إبراهيم مع تواتر أنباء عن انضمامه إلى المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة، وكان قد تلقى دعوة للانضمام إلى المنظمة ذلك العام من قبل رئيس الوزراء – حينذاك – الدكتور مهاتير محمد، وهو الرجل الذي تحوّل بمرور الأيام إلى مرشده الروحي وألد أعدائه في الوقت ذاته. والواقع أن أنور عُرف خطيباً مفوهاً، وحظي بالاحترام لموقفه المسؤول ضد الفساد، وكذلك إدارته للاقتصاد الماليزي خلال فترة مضطربة عانى فيها من أزمة مالية. ومن ثم نُظر إليه باعتباره أحد الآباء المؤسسين للنهضة الآسيوية. والحقيقة أن صعود أنور داخل الحزب جاء سريعاً، وسرعان ما رقّي إلى مناصب وزارية، بل وأسند إليه منصب نائب رئيس الوزراء بين عامي 1993 و1998، بجانب توليه منصب وزير المالية من 1991 حتى 1998، وفي ذلك الوقت، سادت توقعات بأنه سيخلف مهاتير محمد. ولكن سرعان ما تفجّر الخلاف بين الرجلين حول كيفية التعامل مع الأزمة المالية الآسيوية التي عصفت بالبلاد، وتوجيه أنور اتهامات بالفساد إلى المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة في ظل قيادة مهاتير.
في المقابل، في خضم الأزمة المالية الآسيوية التي وقعت عام 1997، حظي أنور إبراهيم بإشادات واسعة لقيادته ماليزيا خلال فترة الاضطراب الاقتصادي والمالي. يذكر أنه أيد مبادئ السوق الحرة وسلّط الضوء على مسألة تقارب الأعمال والسياسة في ماليزيا. كذلك دعا إلى قدر أكبر من المساءلة، ورفض تقديم الحكومة الدعم المالي لإنقاذ المؤسسات المتعثرة، كما أقر إجراءات تقليص للإنفاق على نطاق واسع. ونجحت هذه الإجراءات التقشفية في إنقاذ الاقتصاد الماليزي، ومُنح أنور أوسمة وتقديرين منها «جائزة الشخصية الآسيوية للعام» من مجلة «نيوزويك إنترناشونال».

- الصراع مع مهاتير
ولكن مع تكثيف أنور إبراهيم دعواته للإصلاح عام 1998، خشي مهاتير أن يفقد سيطرته على السلطة، فأقاله من الحكومة وطرده من الحزب. وعلى الأثر شرع أنور في قيادة الاحتجاجات العامة ضد مهاتير في خطوة كانت إيذاناً ببدء حركة جديدة داعمة للديمقراطية. ويومها واجه اتهامات بالفساد والمثلية الجنسية، وأخضع للمحاكمة. ثم بعد اعتقاله نزل آلاف المتظاهرين إلى الشوارع مدعين وجود دوافع وغايات سياسية خلف محاكمته. وفي نهاية الأمر، ألغت المحكمة العليا الماليزية قرار إدانته وأُطلق سراحه من الحبس الانفرادي عام 2004.
عندها، عاد أنور إلى السياسة، وقاد حزبه الإصلاحي الذي أوشك على إنزال الهزيمة بالمنظمة الوطنية الملاوية المتحدة في انتخابات 2013، ولكن من جديد، جرى توجيه اتهامات جديدة ضده بالمثلية، وسُجن عام 2015 لمدة خمس سنوات. إلا أنه حصل على براءته وعفو كامل من الملك الماليزي بعد ثلاث سنوات من سجنه. وعاد إلى البرلمان خلال بضعة أشهر في انتخابات فرعية.
ولاحقاً، في تطور صادم، ورغم وجوده خلف القضبان، عقد أنور إبراهيم تحالفاً مع غريمه السابق مهاتير في انتخابات 2018 بهدف الإطاحة بحكومة نجيب رزاق، الذي تورطت إدارته في فضيحة فساد ارتبطت بصندوق الاستثمار الحكومي ماليزيا «1 ماليزيا ديفللوبمنت بيرهاد». وفي سياق حملته الانتخابية، تعهد مهاتير محمد بإطلاق سراح أنور، بل وتعهد بالتنحي عن السلطة لصالحه بعد سنتين. وبالفعل حقق «الثنائي» انتصاراً تاريخياً ضد رزاق، الذي يمضي حالياً عقوبة السجن 12 سنة بتهمة الفساد، وعاد مهاتير محمد رئيساً للوزراء للمرة الثانية، مع وجود اتفاق على تسليمه المنصب لأنور إبراهيم لاحقاً. ولكن في حين أوفى مهاتير بتعهده الأول بصدور عفو ملكي بحق أنور، الذي أفرج عنه بالفعل بعد الانتخابات مباشرة، فإنه تراجع عن تعهده الثاني، وهكذا انهار التحالف بينهما بعد 22 شهراً.

- المكافآت والإنجازات
يشير عارفو أنور إبراهيم إلى نشاطه في الساحة الدولية، وكونه مدافعاً قوياً عن الحوار بين الحضارات، عمل دونما كلل من أجل قيم التعايش المتبادل بين الحضارات والتفاعل بين مختلف الأفكار الاجتماعية والثقافية والروحية. يُذكر أنه بين عامي 1995 و1998، تولى تنظيم سلسلة من المؤتمرات حول النهضة الآسيوية، بهدف تجاوز الحواجز الجغرافية ـ السياسية بين المجتمعات والأمم وإنشاء هياكل سياسية لتعزيز الحوار بين مختلف الثقافات.
من ناحية أخرى، أنور إبراهيم متحدث معروف دولياً في موضوعات الاقتصاد والديمقراطية والحرية والحكم والإسلام والديمقراطية والحاجة إلى المساءلة. وعلاوة على ذلك، كان أستاذاً زائراً في كلية الخدمة الخارجية التابعة لجامعة جورجتاون في العاصمة الأميركية واشنطن، بجانب عمله مستشاراً للبنك الدولي في مجالات الحوكمة والمساءلة. كذلك تقلد مناصب بمجال التدريس في كلية سانت أنطوني بجامعة أوكسفورد البريطانية، وكلية الدراسات الدولية المتقدمة التابعة لجامعة جونز هوبكنز الأميركية منذ عام 2004، ثم إنه منح الميدالية الرئاسية من جامعة جورجتاون، ودكتوراه فخرية من جامعة أتينيو دي مانيلا بالفلبين بفضل مساهماته عام 1996.
على صعيد آخر، في عام 1993 وفي أعقاب تولي أنور منصب وزير المالية، اختارته مؤسسة «يوروموني» واحداً من أفضل أربعة وزراء مالية عالمياً، ثم في عام 1996 وقع اختيار مؤسسة «إيجا موني» عليه باعتباره أفضل وزير مالية خلال العام. ولاحقاً، عُيّن رئيساً فخرياً لمؤسسة «المساءلة» (أكاونتابيليتي) ومقرها لندن، في مارس (آذار) 2009، وهو إضافة لذلك رئيس مجلس إدارة «مؤسسة المستقبل»، ويشغل كذلك منصب مستشار «حزب العدالة الشعبية» في ماليزيا.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.