فرنسا وإيطاليا أمام اختبار التعايش بين «الديمقراطيات» و«اليمين المتطرف»

ورقة اللجوء والهجرة هي القشة التي قصمت ظهر البعير

ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)
ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)
TT

فرنسا وإيطاليا أمام اختبار التعايش بين «الديمقراطيات» و«اليمين المتطرف»

ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)
ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)

عندما فاز التحالف اليميني المتطرف في الانتخابات العامة الإيطالية التي أجريت أواخر سبتمبر (أيلول) الفائت، كان منسوب القلق في العواصم الكبرى لبلدان الاتحاد الأوروبي مرتفعاً منذ سنوات، وهي تراقب عجز الأحزاب السياسية التقليدية عن كبح الصعود المطّرد للقوى اليمينية المتطرفة، التي تتسع دائرة شعبيتها ونفوذها في معظم الدول الأعضاء. وكان هذا الاندفاع مدفوعاً بمواقفها العلنية المناهضة للهجرة ومطالبتها بإعادة نظر جذرية في المبادئ والمعادلات التأسيسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي. ولكن بعد الفوز الكاسح الذي حققته جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب «إخوان إيطاليا» الذي قام على أنقاض الحزب الفاشي الإيطالي، وتكليفها تشكيل الحكومة الجديدة، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام أول اختبار حقيقي لوصول قوى اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إحدى الدول الوازنة داخل الاتحاد، بعدما كانت تقف على أبواب معاقل السلطة، أو تمسك بمقاليدها في بعض دول الصف الثاني. وإذ أدركت العواصم الأوروبية الكبرى أن ساعة المواجهة مع هذا التحدي المعلن قد أزفت، جاءت الأزمة التي نشبت بين فرنسا وإيطاليا حول استقبال سفن الإغاثة التي تنقذ المهاجرين غير الشرعيين في المتوسط، لتفتح الباب أمام تحديد «قواعد الاشتباك» في هذه المعركة التي ينتظر أن تكون مديدة بين الطرفين النقيضين داخل الاتحاد الأوروبي المنهمك في صراع إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية.
من القواعد الأساسية في دبلوماسية العلاقات الدولية، الحرص على تجنب التسبب في إحراج لدولة صديقة وسط أزمة إقليمية أو دولية، والإحجام عن إقحام هذه الأزمة في النزاعات الداخلية لكل من البلدين، خاصة تلك التي لها أبعاد انتخابية. إلا أن الحكومة الإيطالية الجديدة، التي ترأسها جيورجيا ميلوني، تجاهلت هذه القاعدة عندما سارعت أخيراً، من دون تنسيق مع باريس أو قبل صدور أي بيان رسمي عن قصر الإليزيه، إلى توجيه الشكر لفرنسا على قبولها استقبال إحدى سفن الإنقاذ في البحر المتوسط، التي كانت تحمل على متنها مئات المهاجرين غير الشرعيين الذين كانت إيطاليا ترفض استقبالهم.
بذلك، نفضت ميلوني عنها الضغوط التي كانت تتعرّض لها حكومتها اليمينية المتطرفة منذ أيام، وأحالتها إلى فرنسا... مُشعلةً أزمة دبلوماسية بين البلدين، اضطرت رئيس الجمهورية الإيطالي سرجيو ماتاريلا إلى التدخل مباشرة لمحاولة احتوائها، في الوقت الذي كانت العلاقات بين روما وبرلين تتعرض لاهتزاز مماثل أيضاً بسبب أزمة المهاجرين.
معاقبة ميلوني
مع هذا، ورغم المساعي الحثيثة التي كانت تبذل على جبهات عدة لتطويق هاتين الأزمتين، بقيت باريس مصمّمة على «معاقبة» ميلوني في العلاقات الثنائية وفي الملفات الأوروبية التي تهمّ إيطاليا، وأيضاً ظلت مصممة على توجيه رسالة واضحة إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتمدّد داخل الاتحاد الأوروبي... والتي بات وصولها إلى الحكم، أو مشاركتها فيه، يتقدم إلى صدارة الهواجس الأوروبية.
يأتي هذا التوتر في العلاقات بين شريكين أساسيين في الاتحاد الأوروبي بعدما كانت فرنسا وإيطاليا قد تجاوزتا مرحلة أخرى شديدة التوتر في عهد الحكومة الإيطالية الشعبوية السابقة، وصلت إلى حد استدعاء باريس سفيرها في روما لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. ويُذكر أن الأزمة نشأت عندما قام نائب رئيس الحكومة الإيطالية (آنذاك) لويجي دي مايو بزيارة إلى العاصمة الفرنسية للتضامن مع مجموعة من «السترات الصفر» التي كانت تنظّم احتجاجات عنيفة ضد ماكرون. ثم تفاقمت العلاقات لاحقاً بفعل التصريحات المتكررة المعادية لفرنسا التي كان يطلقها ماتيو سالفيني، زعيم حزب «الرابطة» اليميني المتطرف والنائب الآخر لرئيس الحكومة الإيطالية. ويومذاك، أدّى كلام سالفيني إلى قرار باريس إقفال الحدود البريّة مع إيطاليا وإلى قطيعة دبلوماسية كاملة طالت أشهراً بين البلدين. ولكن، بعد سقوط تلك الحكومة الشعبوية، لعب رئيس الجمهورية الإيطالي ماتاريلا دوراً أساسياً في التهدئة ورأب الصدع بين البلدين. وأثمرت جهود ماتاريلا توقيع اتفاقية للتعاون الاستراتيجي، طوت صفحة الخلافات، ومهّدت لـ«شهر عسل» بين باريس وروما، في عهد رئيس الحكومة الإيطالية السابق ماريو دراغي. ومع هذه الاتفاقية، بدأت تظهر ملامح محور أوروبي جديد بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
«المشروع الأوروبي»
والحسابات الداخلية
اليوم، ترى أوساط دبلوماسية أوروبية في العاصمة الإيطالية أن الخطأ الذي ارتكبته ميلوني في مقاربتها للأزمة، أعطى باريس فرصة استراتيجية لتفعيل المخطط الذي كان الرئيس الفرنسي يعمل لإعداده مع حلفائه الأوروبيين بهدف تطويق القوى اليمينية المتطرفة الحاكمة في بلدان الاتحاد، و«تحديد» قواعد المواجهة الجديدة مع الدول الأعضاء التي تستهدف «المشروع الأوروبي» أو تسعى إلى تغيير المبادئ الأساسية المشتركة التي يقوم عليها.
وإذ تعترف هذه الأوساط بأن ردة الفعل الفرنسية كانت مُبالغاً فيها، ترى أن ميلوني لم تأخذ في الاعتبار أن ماكرون يواجه المعركة ذاتها مع ناخبيه حول موضوع الهجرة. هذا، فضلاً عن أن رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة تذكّر الرئيس الفرنسي بغريمته السياسية الفرنسية مارين لوبان، ما يعني أنه ليس من الوارد أن يظهر في موقف الضعيف أو المتهاون أمامها.
في المقابل، فإن المقاربة الإيطالية لهذا الملف الشائك تخضع هي أيضاً لمقتضيات الوضع الداخلي، وتدفع ميلوني إلى التصلّب في موقفها للتعويض عن انسداد الأفق أمامها في معالجة الملفات الأخرى الملحة. وهي هنا توجه رسالة إلى ناخبيها، مفادها أنها مستعدة للذهاب أبعد من حكومة دراغي في معالجة أزمة الهجرة، ولا سيما أنها ليست قادرة في المرحلة الراهنة على تنفيذ الوعود التي قطعتها في حملتها الانتخابية لمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة. فضلاً عن ذلك، فإن ميلوني محكومة بعجزها عن إبداء أي تساهل في معالجة ملف الهجرة لمعرفتها أن حليفها «اللدود» سالفيني يتحّين هذه الفرصة للمزايدة عليها شعبوياً ويمينياً... محاولاً استعادة شعبيته الضائعة التي نزحت إلى معسكر ميلوني و«فاشييها الجدد».
ثم إنه رغم التعهدات التي أعلنتها ميلوني عند تكليفها تشكيل الحكومة الجديدة بألا تغيّر السياسة الخارجية التي كانت تنهجها حكومة دراغي، فقد أدّت القرارات والخطوات التي أقدمت عليها خلال أقل من شهر منذ توليها الحكم، إلى تعديل التحالفات الأساسية التي كانت تستند إليها تلك السياسة، وبخاصة في الدائرة الأوروبية التي تشكّل المجال الحيوي لهذه السياسة. وحقاً، بعدما كانت الحكومة السابقة قد استعادت أجواء التناغم والانسجام مع المحور الفرنسي - الألماني، التي جسّدتها الزيارة الثلاثية التي قام بها دراغي وشولتز وماكرون إلى العاصمة الأوكرانية كييف في يونيو (حزيران) الفائت، يخيّم الآن صمت دبلوماسي شبه تام بين روما والقوتين الكبريين في «منطقة اليورو». يضاف إلى ذلك أن التقارب الذي كان قد حصل بين روما ومدريد، يبدو اليوم مهدداً بعدما رفضت إسبانيا الانضمام إلى مبادرة البلدان المتوسطية ضد سياسة الهجرة، وهي السياسة التي كانت إيطاليا قد ردّت بها على التهديدات الفرنسية. وهذا مؤشر إلى أن مدريد تقف على أبواب انتخابات عامة، يرجح أن يفوز بها الحزب الشعبي المحافظ، الذي قد يضطر إلى التحالف مع الحزب اليميني المتطرف «فوكس» لتشكيل حكومة.
حسابات ومخاوف
على أي حال، ما تخشاه الأوساط الأوروبية هو أن تؤدي هذه الأزمة وما تنشأ عنها من تداعيات في حال فشل مساعي احتوائها سريعاً، إلى إعطاء ميلوني الذريعة المنشودة لمدّ الجسور مع بلدان «مجموعة فيشغراد». وهذه الأخيرة هي التحالف السياسي الذي نشأ في العام 1991 ويضمّ بولندا والمجر وسلوفاكيا وتشيكيا، التي تسيطر على الحكم فيها أحزاب يمينية تسعى إلى إعادة النظر في القواعد التأسيسية للمشروع الأوروبي وتغيير معادلات النفوذ داخل المؤسسات الأوروبية. لكن أوساطاً أخرى تميل إلى الاعتقاد بأنه يستحيل على فرنسا وإيطاليا الاستمرار في هذا الصدام... نظراً إلى الترابط الوثيق بين مصالح البلدين. وبالتالي، ترى أن مياه العلاقات الثنائية ستعود قريباً إلى مجاريها.
في مقابل ذلك، يرى المراقبون الدبلوماسيون في العاصمة الإيطالية أن هامش المناورة للتراجع في ملف الهجرة يكاد يكون معدوماً أمام ميلوني. والسبب هو طبيعة التحالف الحاكم الذي تتنافس أطرافه الثلاثة على زعامة المعسكر اليميني وتجنح من منطلق شعبوي إلى التطرف في هذا الملف لبلوغ هدفها، وأيضاً لحاجتها الملحة لتحويل الانتباه عن الأزمة المعيشية، على الأقل في الأشهر الأولى من ولايتها.
للعلم، كانت ميلوني قد أعلنت هذا الأسبوع حالة «التعبئة الدبلوماسية» لاحتواء تداعيات الأزمة التي تبدو مرشحة لمزيد من التصعيد، ولاتساع دائرتها خارج الحيّز الثنائي بين باريس وروما، خاصة بعد التصريحات الأخيرة لرئيسة الحكومة الإيطالية التي قالت فيها: «الأزمة الدبلوماسية مع فرنسا لم تعلّمني أي جديد لم أكن أعرفه. سأواصل القيام بواجبي في الدفاع عن مصالح الأمّة وحماية أمنها وحدودها، رغم التلويح بالعزلة والانهيار المالي». لكن من المتوقع أن يزداد الضغط على الحكومة الإيطالية خلال الأسابيع المقبلة، في ضوء البيانات الأخيرة عن تدفقات المهاجرين الكثيفة القادمة من الشواطئ الليبية المحاذية لمصر، والتي استنفرت خفر السواحل والأجهزة الأمنية الإيطالية. هذا، في الوقت الذي كانت شعبية ميلوني تسجّل ارتفاعاً غير مسبوق بلغ نسبة 53 في المائة. وكانت هذه البيانات أفادت أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية في الأسابيع الأربعة الأخيرة قد تجاوز 18 ألفاً، على الرغم من سوء الأحوال الجوية وانعدام وجود أي سفن إنقاذ تابعة للمنظمات غير الحكومية في عرض البحر خلال هذه الفترة. وأيضاً، عُلم أن ثلثي هذا العدد جاء من السواحل الشرقية الليبية. هذا، وتأتي هذه التدفقات التي زادت عن 50 ألفاً منذ بداية العام الحالي، بعد تجديد الاتفاقات الموقعة بين روما وطرابلس لتمويل مراقبة الشواطئ الليبية، وبعد انقطاع سبل الحوار والتعاون بين إيطاليا والبلدان الواقعة على الضفة المقابلة من البحر المتوسط. يضاف إلى ما سبق أن عدد المهاجرين المصريين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية منذ مطلع هذا العام قارب 20 ألفاً، متجاوزاً بذلك عدد المهاجرين التونسيين الذين كانوا دائماً يحتلون المرتبة الأولى.
الأرقام الحقيقية للمهاجرين
في سياق متصل، تقود فرنسا راهناً حملة أوروبية تهدف إلى «كشف الأرقام الحقيقية» لأزمة الهجرة، كما جاء في تصريح للناطق بلسان الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران، وتفنيد مزاعم حكومة ميلوني بأن إيطاليا تتحمل وحدها عبء الهجرة غير الشرعية الوافدة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. وتستند هذه الحملة إلى بيانات المرصد الأوروبي «يوروستات»، التي تفيد أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى إيطاليا منذ بداية هذا العام حتى نهاية الشهر الفائت، بلغ ضعفي الذين وصلوا خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، في غياب أي استراتيجية للتنسيق مع بلدان المنشأ والعبور، والتركيز على استهداف المنظمات غير الحكومية وسفن الإنقاذ التابعة لها، التي أنقذت 10 آلاف مهاجر من أصل 100 ألف تقريباً وصلوا منذ مطلع العام الحالي.
كذلك، تذكّر الحملة بأن سياسة إغلاق الموانئ في وجه سفن الإنقاذ ليست كافية وحدها لمعالجة الأزمة، لأن وجود هذه السفن في عرض البحر ليس الدافع الأساسي وراء تدفق المهاجرين إلى السواحل الأوروبية، بل الأوضاع الاقتصادية والسياسية في بلدان شمال أفريقيا والعمق الأفريقي. وعليه، فإن فكرة «خطة مارشال» أوروبية لمساعدة البلدان الأفريقية يجب أن تكون هي الأساس لأي سياسة مشتركة من أجل معالجة أزمة الهجرة في الأمد الطويل.
وفي مقابل ذلك، نبهّت باريس إلى أن تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر «طريق البلقان» بلغت 128 ألفاً العام الماضي، أي ما يقارب نصف التدفقات الإجمالية التي بلغت 275 ألفاً، وأكثر من تلك التي وصلت إلى سواحل إيطاليا. وتذكّر الحكومة الفرنسية بأن معظم المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى أوروبا يطلبون اللجوء لاحقاً في بلدان أوروبا الوسطى؛ خصوصاً ألمانيا وفرنسا والنمسا. وبالتالي، فإن أي خطة مشتركة يجب أن تأخذ في الاعتبار أن «طريق البلقان» هي البوابة الرئيسة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وليست إيطاليا. ثم إن الغالبية الساحقة من المهاجرين ينتهي بهم الأمر لاحقاً في بلدان أوروبا الوسطى والشمالية. إلى جانب ذلك، ذكّرت المفوضية الأوروبية أخيراً بأنه مع وصول الموجات القاسية الأولى من الشتاء، وتفاقم أزمة الطاقة الخانقة في أوكرانيا بعد القصف الروسي المركز على منشآت إنتاج الطاقة وتوزيعها، من المتوقع أن ينزح نحو 3 ملايين أوكراني إضافي إلى أوروبا في الأسابيع والأشهر المقبلة.

ماتاريلا

حلم «المجر الكبرى» عند فيكتور أوروبان
* في حين يستبعد المسؤولون في المـؤسسات الأوروبية أن يكون التوتر الحاصل في العلاقات بين باريس وروما، والفتور الذي يعتري علاقة إيطاليا بألمانيا وإسبانيا، ثمرة استراتيجية مدروسة لإرضاء فئة معينة من الناخبين في هذه البلدان. ومع ترجيح هؤلاء أن يكون نتيجة خطأ في الحسابات الإيطالية، ناجم عن قلة خبرة رئيسة الحكومة الإيطالية الجديدة جيورجيا ميلوني، وتواضع تمرسها في العلاقات الدولية، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن باريس لن تفوّت هذه الفرصة للمضي في خطة توجيه الرسائل إلى الحكومات والقوى اليمينية المتطرفة في الاتحاد، وتحديد قواعد المواجهة معها.

أوربان

ويشير هؤلاء إلى أن القيادة الفرنسية تعتمد على دعم محدود زمنياً من كل من ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا، وكذلك في الفترة الأخيرة، من البلدان المجاورة للمجر، بعد استحضار رئيس وزراء المجر اليميني المتطرف فيكتور أوروبان فكرة «المجر الكبرى» التي تشكّل الأساس العميق لمشروعه السياسي.
وكان أوروبان قد ظهر أخيراً في مباراة ودية لكرة القدم بين المجر واليونان، وهو يرتدي وشاحاً يحمل خريطة لبلاده، تضمّ بعض المناطق من البلدان المجاورة كانت قد خسرتها المجر عند سقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية في الحرب العالمية الأولى. ولقد سارعت رومانيا إلى التنديد بما وصفته «استفزازاً غير مقبول، يتعارض مع الواقع الحالي والاتفاقات المعقودة بين البلدين». وبادرت أوكرانيا إلى استدعاء السفير المجري في كييف، معتبرة «أن هذا التصرف، في مثل هذا الوقت بالذات، لا يساعد على حسن سير العلاقات الثنائية، بل يتعارض مع مبادئ السياسات الأوروبية».

ماكرون

هذا، وعلّق رئيس الوزراء المجري على ردود الفعل الأولى للدول المجاورة بالقول: «المنتخب الوطني المجري هو لكل المجريين حيثما كانوا». تجدر الإشارة إلى أنه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، اقتُطع من المجر ثلثا أراضيها، وتوزّعت المناطق المقتَطعة على رومانيا وسلوفاكيا وصربيا وأوكرانيا والنمسا وكرواتيا وسلوفينيا وبولندا. الأمر الذي أدّى إلى وجود جاليات مجرية كبيرة في هذه البلدان... وبالأخص، رومانيا التي يبلغ عدد المجريين فيها 6 في المائة من السكان. كما يزيد عدد المجريين على نصف مليون نسمة في كل من صربيا وكرواتيا.
وفي أول ردة فعل أوروبية على هذه الحادثة، دعا ناطق بلسان المفوضية إلى «الامتناع عن أي تصرفات من شأنها تعكير الاستقرار الأوروبي وتوجيه رسائل تتعارض مع مبادئ حسن الجوار».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.