فرنسا وإيطاليا أمام اختبار التعايش بين «الديمقراطيات» و«اليمين المتطرف»

ورقة اللجوء والهجرة هي القشة التي قصمت ظهر البعير

ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)
ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)
TT

فرنسا وإيطاليا أمام اختبار التعايش بين «الديمقراطيات» و«اليمين المتطرف»

ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)
ميلوني تهاجم مواقف فرنسا في موضوع الهجرة (رويترز)

عندما فاز التحالف اليميني المتطرف في الانتخابات العامة الإيطالية التي أجريت أواخر سبتمبر (أيلول) الفائت، كان منسوب القلق في العواصم الكبرى لبلدان الاتحاد الأوروبي مرتفعاً منذ سنوات، وهي تراقب عجز الأحزاب السياسية التقليدية عن كبح الصعود المطّرد للقوى اليمينية المتطرفة، التي تتسع دائرة شعبيتها ونفوذها في معظم الدول الأعضاء. وكان هذا الاندفاع مدفوعاً بمواقفها العلنية المناهضة للهجرة ومطالبتها بإعادة نظر جذرية في المبادئ والمعادلات التأسيسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي. ولكن بعد الفوز الكاسح الذي حققته جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب «إخوان إيطاليا» الذي قام على أنقاض الحزب الفاشي الإيطالي، وتكليفها تشكيل الحكومة الجديدة، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام أول اختبار حقيقي لوصول قوى اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إحدى الدول الوازنة داخل الاتحاد، بعدما كانت تقف على أبواب معاقل السلطة، أو تمسك بمقاليدها في بعض دول الصف الثاني. وإذ أدركت العواصم الأوروبية الكبرى أن ساعة المواجهة مع هذا التحدي المعلن قد أزفت، جاءت الأزمة التي نشبت بين فرنسا وإيطاليا حول استقبال سفن الإغاثة التي تنقذ المهاجرين غير الشرعيين في المتوسط، لتفتح الباب أمام تحديد «قواعد الاشتباك» في هذه المعركة التي ينتظر أن تكون مديدة بين الطرفين النقيضين داخل الاتحاد الأوروبي المنهمك في صراع إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية.
من القواعد الأساسية في دبلوماسية العلاقات الدولية، الحرص على تجنب التسبب في إحراج لدولة صديقة وسط أزمة إقليمية أو دولية، والإحجام عن إقحام هذه الأزمة في النزاعات الداخلية لكل من البلدين، خاصة تلك التي لها أبعاد انتخابية. إلا أن الحكومة الإيطالية الجديدة، التي ترأسها جيورجيا ميلوني، تجاهلت هذه القاعدة عندما سارعت أخيراً، من دون تنسيق مع باريس أو قبل صدور أي بيان رسمي عن قصر الإليزيه، إلى توجيه الشكر لفرنسا على قبولها استقبال إحدى سفن الإنقاذ في البحر المتوسط، التي كانت تحمل على متنها مئات المهاجرين غير الشرعيين الذين كانت إيطاليا ترفض استقبالهم.
بذلك، نفضت ميلوني عنها الضغوط التي كانت تتعرّض لها حكومتها اليمينية المتطرفة منذ أيام، وأحالتها إلى فرنسا... مُشعلةً أزمة دبلوماسية بين البلدين، اضطرت رئيس الجمهورية الإيطالي سرجيو ماتاريلا إلى التدخل مباشرة لمحاولة احتوائها، في الوقت الذي كانت العلاقات بين روما وبرلين تتعرض لاهتزاز مماثل أيضاً بسبب أزمة المهاجرين.
معاقبة ميلوني
مع هذا، ورغم المساعي الحثيثة التي كانت تبذل على جبهات عدة لتطويق هاتين الأزمتين، بقيت باريس مصمّمة على «معاقبة» ميلوني في العلاقات الثنائية وفي الملفات الأوروبية التي تهمّ إيطاليا، وأيضاً ظلت مصممة على توجيه رسالة واضحة إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتمدّد داخل الاتحاد الأوروبي... والتي بات وصولها إلى الحكم، أو مشاركتها فيه، يتقدم إلى صدارة الهواجس الأوروبية.
يأتي هذا التوتر في العلاقات بين شريكين أساسيين في الاتحاد الأوروبي بعدما كانت فرنسا وإيطاليا قد تجاوزتا مرحلة أخرى شديدة التوتر في عهد الحكومة الإيطالية الشعبوية السابقة، وصلت إلى حد استدعاء باريس سفيرها في روما لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. ويُذكر أن الأزمة نشأت عندما قام نائب رئيس الحكومة الإيطالية (آنذاك) لويجي دي مايو بزيارة إلى العاصمة الفرنسية للتضامن مع مجموعة من «السترات الصفر» التي كانت تنظّم احتجاجات عنيفة ضد ماكرون. ثم تفاقمت العلاقات لاحقاً بفعل التصريحات المتكررة المعادية لفرنسا التي كان يطلقها ماتيو سالفيني، زعيم حزب «الرابطة» اليميني المتطرف والنائب الآخر لرئيس الحكومة الإيطالية. ويومذاك، أدّى كلام سالفيني إلى قرار باريس إقفال الحدود البريّة مع إيطاليا وإلى قطيعة دبلوماسية كاملة طالت أشهراً بين البلدين. ولكن، بعد سقوط تلك الحكومة الشعبوية، لعب رئيس الجمهورية الإيطالي ماتاريلا دوراً أساسياً في التهدئة ورأب الصدع بين البلدين. وأثمرت جهود ماتاريلا توقيع اتفاقية للتعاون الاستراتيجي، طوت صفحة الخلافات، ومهّدت لـ«شهر عسل» بين باريس وروما، في عهد رئيس الحكومة الإيطالية السابق ماريو دراغي. ومع هذه الاتفاقية، بدأت تظهر ملامح محور أوروبي جديد بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
«المشروع الأوروبي»
والحسابات الداخلية
اليوم، ترى أوساط دبلوماسية أوروبية في العاصمة الإيطالية أن الخطأ الذي ارتكبته ميلوني في مقاربتها للأزمة، أعطى باريس فرصة استراتيجية لتفعيل المخطط الذي كان الرئيس الفرنسي يعمل لإعداده مع حلفائه الأوروبيين بهدف تطويق القوى اليمينية المتطرفة الحاكمة في بلدان الاتحاد، و«تحديد» قواعد المواجهة الجديدة مع الدول الأعضاء التي تستهدف «المشروع الأوروبي» أو تسعى إلى تغيير المبادئ الأساسية المشتركة التي يقوم عليها.
وإذ تعترف هذه الأوساط بأن ردة الفعل الفرنسية كانت مُبالغاً فيها، ترى أن ميلوني لم تأخذ في الاعتبار أن ماكرون يواجه المعركة ذاتها مع ناخبيه حول موضوع الهجرة. هذا، فضلاً عن أن رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة تذكّر الرئيس الفرنسي بغريمته السياسية الفرنسية مارين لوبان، ما يعني أنه ليس من الوارد أن يظهر في موقف الضعيف أو المتهاون أمامها.
في المقابل، فإن المقاربة الإيطالية لهذا الملف الشائك تخضع هي أيضاً لمقتضيات الوضع الداخلي، وتدفع ميلوني إلى التصلّب في موقفها للتعويض عن انسداد الأفق أمامها في معالجة الملفات الأخرى الملحة. وهي هنا توجه رسالة إلى ناخبيها، مفادها أنها مستعدة للذهاب أبعد من حكومة دراغي في معالجة أزمة الهجرة، ولا سيما أنها ليست قادرة في المرحلة الراهنة على تنفيذ الوعود التي قطعتها في حملتها الانتخابية لمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة. فضلاً عن ذلك، فإن ميلوني محكومة بعجزها عن إبداء أي تساهل في معالجة ملف الهجرة لمعرفتها أن حليفها «اللدود» سالفيني يتحّين هذه الفرصة للمزايدة عليها شعبوياً ويمينياً... محاولاً استعادة شعبيته الضائعة التي نزحت إلى معسكر ميلوني و«فاشييها الجدد».
ثم إنه رغم التعهدات التي أعلنتها ميلوني عند تكليفها تشكيل الحكومة الجديدة بألا تغيّر السياسة الخارجية التي كانت تنهجها حكومة دراغي، فقد أدّت القرارات والخطوات التي أقدمت عليها خلال أقل من شهر منذ توليها الحكم، إلى تعديل التحالفات الأساسية التي كانت تستند إليها تلك السياسة، وبخاصة في الدائرة الأوروبية التي تشكّل المجال الحيوي لهذه السياسة. وحقاً، بعدما كانت الحكومة السابقة قد استعادت أجواء التناغم والانسجام مع المحور الفرنسي - الألماني، التي جسّدتها الزيارة الثلاثية التي قام بها دراغي وشولتز وماكرون إلى العاصمة الأوكرانية كييف في يونيو (حزيران) الفائت، يخيّم الآن صمت دبلوماسي شبه تام بين روما والقوتين الكبريين في «منطقة اليورو». يضاف إلى ذلك أن التقارب الذي كان قد حصل بين روما ومدريد، يبدو اليوم مهدداً بعدما رفضت إسبانيا الانضمام إلى مبادرة البلدان المتوسطية ضد سياسة الهجرة، وهي السياسة التي كانت إيطاليا قد ردّت بها على التهديدات الفرنسية. وهذا مؤشر إلى أن مدريد تقف على أبواب انتخابات عامة، يرجح أن يفوز بها الحزب الشعبي المحافظ، الذي قد يضطر إلى التحالف مع الحزب اليميني المتطرف «فوكس» لتشكيل حكومة.
حسابات ومخاوف
على أي حال، ما تخشاه الأوساط الأوروبية هو أن تؤدي هذه الأزمة وما تنشأ عنها من تداعيات في حال فشل مساعي احتوائها سريعاً، إلى إعطاء ميلوني الذريعة المنشودة لمدّ الجسور مع بلدان «مجموعة فيشغراد». وهذه الأخيرة هي التحالف السياسي الذي نشأ في العام 1991 ويضمّ بولندا والمجر وسلوفاكيا وتشيكيا، التي تسيطر على الحكم فيها أحزاب يمينية تسعى إلى إعادة النظر في القواعد التأسيسية للمشروع الأوروبي وتغيير معادلات النفوذ داخل المؤسسات الأوروبية. لكن أوساطاً أخرى تميل إلى الاعتقاد بأنه يستحيل على فرنسا وإيطاليا الاستمرار في هذا الصدام... نظراً إلى الترابط الوثيق بين مصالح البلدين. وبالتالي، ترى أن مياه العلاقات الثنائية ستعود قريباً إلى مجاريها.
في مقابل ذلك، يرى المراقبون الدبلوماسيون في العاصمة الإيطالية أن هامش المناورة للتراجع في ملف الهجرة يكاد يكون معدوماً أمام ميلوني. والسبب هو طبيعة التحالف الحاكم الذي تتنافس أطرافه الثلاثة على زعامة المعسكر اليميني وتجنح من منطلق شعبوي إلى التطرف في هذا الملف لبلوغ هدفها، وأيضاً لحاجتها الملحة لتحويل الانتباه عن الأزمة المعيشية، على الأقل في الأشهر الأولى من ولايتها.
للعلم، كانت ميلوني قد أعلنت هذا الأسبوع حالة «التعبئة الدبلوماسية» لاحتواء تداعيات الأزمة التي تبدو مرشحة لمزيد من التصعيد، ولاتساع دائرتها خارج الحيّز الثنائي بين باريس وروما، خاصة بعد التصريحات الأخيرة لرئيسة الحكومة الإيطالية التي قالت فيها: «الأزمة الدبلوماسية مع فرنسا لم تعلّمني أي جديد لم أكن أعرفه. سأواصل القيام بواجبي في الدفاع عن مصالح الأمّة وحماية أمنها وحدودها، رغم التلويح بالعزلة والانهيار المالي». لكن من المتوقع أن يزداد الضغط على الحكومة الإيطالية خلال الأسابيع المقبلة، في ضوء البيانات الأخيرة عن تدفقات المهاجرين الكثيفة القادمة من الشواطئ الليبية المحاذية لمصر، والتي استنفرت خفر السواحل والأجهزة الأمنية الإيطالية. هذا، في الوقت الذي كانت شعبية ميلوني تسجّل ارتفاعاً غير مسبوق بلغ نسبة 53 في المائة. وكانت هذه البيانات أفادت أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية في الأسابيع الأربعة الأخيرة قد تجاوز 18 ألفاً، على الرغم من سوء الأحوال الجوية وانعدام وجود أي سفن إنقاذ تابعة للمنظمات غير الحكومية في عرض البحر خلال هذه الفترة. وأيضاً، عُلم أن ثلثي هذا العدد جاء من السواحل الشرقية الليبية. هذا، وتأتي هذه التدفقات التي زادت عن 50 ألفاً منذ بداية العام الحالي، بعد تجديد الاتفاقات الموقعة بين روما وطرابلس لتمويل مراقبة الشواطئ الليبية، وبعد انقطاع سبل الحوار والتعاون بين إيطاليا والبلدان الواقعة على الضفة المقابلة من البحر المتوسط. يضاف إلى ما سبق أن عدد المهاجرين المصريين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية منذ مطلع هذا العام قارب 20 ألفاً، متجاوزاً بذلك عدد المهاجرين التونسيين الذين كانوا دائماً يحتلون المرتبة الأولى.
الأرقام الحقيقية للمهاجرين
في سياق متصل، تقود فرنسا راهناً حملة أوروبية تهدف إلى «كشف الأرقام الحقيقية» لأزمة الهجرة، كما جاء في تصريح للناطق بلسان الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران، وتفنيد مزاعم حكومة ميلوني بأن إيطاليا تتحمل وحدها عبء الهجرة غير الشرعية الوافدة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. وتستند هذه الحملة إلى بيانات المرصد الأوروبي «يوروستات»، التي تفيد أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى إيطاليا منذ بداية هذا العام حتى نهاية الشهر الفائت، بلغ ضعفي الذين وصلوا خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، في غياب أي استراتيجية للتنسيق مع بلدان المنشأ والعبور، والتركيز على استهداف المنظمات غير الحكومية وسفن الإنقاذ التابعة لها، التي أنقذت 10 آلاف مهاجر من أصل 100 ألف تقريباً وصلوا منذ مطلع العام الحالي.
كذلك، تذكّر الحملة بأن سياسة إغلاق الموانئ في وجه سفن الإنقاذ ليست كافية وحدها لمعالجة الأزمة، لأن وجود هذه السفن في عرض البحر ليس الدافع الأساسي وراء تدفق المهاجرين إلى السواحل الأوروبية، بل الأوضاع الاقتصادية والسياسية في بلدان شمال أفريقيا والعمق الأفريقي. وعليه، فإن فكرة «خطة مارشال» أوروبية لمساعدة البلدان الأفريقية يجب أن تكون هي الأساس لأي سياسة مشتركة من أجل معالجة أزمة الهجرة في الأمد الطويل.
وفي مقابل ذلك، نبهّت باريس إلى أن تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر «طريق البلقان» بلغت 128 ألفاً العام الماضي، أي ما يقارب نصف التدفقات الإجمالية التي بلغت 275 ألفاً، وأكثر من تلك التي وصلت إلى سواحل إيطاليا. وتذكّر الحكومة الفرنسية بأن معظم المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى أوروبا يطلبون اللجوء لاحقاً في بلدان أوروبا الوسطى؛ خصوصاً ألمانيا وفرنسا والنمسا. وبالتالي، فإن أي خطة مشتركة يجب أن تأخذ في الاعتبار أن «طريق البلقان» هي البوابة الرئيسة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وليست إيطاليا. ثم إن الغالبية الساحقة من المهاجرين ينتهي بهم الأمر لاحقاً في بلدان أوروبا الوسطى والشمالية. إلى جانب ذلك، ذكّرت المفوضية الأوروبية أخيراً بأنه مع وصول الموجات القاسية الأولى من الشتاء، وتفاقم أزمة الطاقة الخانقة في أوكرانيا بعد القصف الروسي المركز على منشآت إنتاج الطاقة وتوزيعها، من المتوقع أن ينزح نحو 3 ملايين أوكراني إضافي إلى أوروبا في الأسابيع والأشهر المقبلة.

ماتاريلا

حلم «المجر الكبرى» عند فيكتور أوروبان
* في حين يستبعد المسؤولون في المـؤسسات الأوروبية أن يكون التوتر الحاصل في العلاقات بين باريس وروما، والفتور الذي يعتري علاقة إيطاليا بألمانيا وإسبانيا، ثمرة استراتيجية مدروسة لإرضاء فئة معينة من الناخبين في هذه البلدان. ومع ترجيح هؤلاء أن يكون نتيجة خطأ في الحسابات الإيطالية، ناجم عن قلة خبرة رئيسة الحكومة الإيطالية الجديدة جيورجيا ميلوني، وتواضع تمرسها في العلاقات الدولية، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن باريس لن تفوّت هذه الفرصة للمضي في خطة توجيه الرسائل إلى الحكومات والقوى اليمينية المتطرفة في الاتحاد، وتحديد قواعد المواجهة معها.

أوربان

ويشير هؤلاء إلى أن القيادة الفرنسية تعتمد على دعم محدود زمنياً من كل من ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا، وكذلك في الفترة الأخيرة، من البلدان المجاورة للمجر، بعد استحضار رئيس وزراء المجر اليميني المتطرف فيكتور أوروبان فكرة «المجر الكبرى» التي تشكّل الأساس العميق لمشروعه السياسي.
وكان أوروبان قد ظهر أخيراً في مباراة ودية لكرة القدم بين المجر واليونان، وهو يرتدي وشاحاً يحمل خريطة لبلاده، تضمّ بعض المناطق من البلدان المجاورة كانت قد خسرتها المجر عند سقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية في الحرب العالمية الأولى. ولقد سارعت رومانيا إلى التنديد بما وصفته «استفزازاً غير مقبول، يتعارض مع الواقع الحالي والاتفاقات المعقودة بين البلدين». وبادرت أوكرانيا إلى استدعاء السفير المجري في كييف، معتبرة «أن هذا التصرف، في مثل هذا الوقت بالذات، لا يساعد على حسن سير العلاقات الثنائية، بل يتعارض مع مبادئ السياسات الأوروبية».

ماكرون

هذا، وعلّق رئيس الوزراء المجري على ردود الفعل الأولى للدول المجاورة بالقول: «المنتخب الوطني المجري هو لكل المجريين حيثما كانوا». تجدر الإشارة إلى أنه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، اقتُطع من المجر ثلثا أراضيها، وتوزّعت المناطق المقتَطعة على رومانيا وسلوفاكيا وصربيا وأوكرانيا والنمسا وكرواتيا وسلوفينيا وبولندا. الأمر الذي أدّى إلى وجود جاليات مجرية كبيرة في هذه البلدان... وبالأخص، رومانيا التي يبلغ عدد المجريين فيها 6 في المائة من السكان. كما يزيد عدد المجريين على نصف مليون نسمة في كل من صربيا وكرواتيا.
وفي أول ردة فعل أوروبية على هذه الحادثة، دعا ناطق بلسان المفوضية إلى «الامتناع عن أي تصرفات من شأنها تعكير الاستقرار الأوروبي وتوجيه رسائل تتعارض مع مبادئ حسن الجوار».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.