تحوّل جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، إلى نجم بارز من نجوم نهائيات كأس العالم قبل حتى أن تنطلق مبارياتها في قطر. فقد اختار الرجل الذي يرأس «فيفا» منذ عام 2016، عشية انطلاق كأس العالم أن يشنَّ هجوماً عنيفاً على الغرب ويتهم دوله بـ«ازدواجية المعايير». خطاب إنفانتينو، الذي جذب اهتماماً عالمياً وأثار كثيراً من الجدل واللغط، جاء رداً على انتقادات الغرب لاستضافة قطر نهائيات كأس العالم بحجة سجلها في حقوق الإنسان. غير أن إنفانتينو، حامل الجنسية المزدوجة؛ السويسرية والإيطالية، رد بغضب على سيل من الانتقادات الغربية الفردية والمؤسساتية. واتهم الغرب بـ«النفاق»، داعياً الأوروبيين إلى الاعتذار، قائلاً: «لقد تعلمنا العديد من الدروس من الأوروبيين والعالم الغربي... أنا أوروبي، ولكن بسبب ما كنا نفعله منذ 3000 عام حول العالم، يجب علينا أن نعتذر لنحو 3000 سنة مقبلة قبل إعطاء دروس في الأخلاق». ثم تابع رئيس «فيفا» قائلاً إنه يجد «صعوبة في فهم النقد»، وإن «الكثير من الأشياء ليست مثالية، غير أن الإصلاح والتغيير يستغرقان وقتاً. ولم يتردد إنفانتينو في اتهام الدول التي تنتقد استضافة قطر لكأس العالم، بالدول (المنافقة) التي تنتقد قراراً اتخذ قبل 12 سنة»، قبل أن يضيف متسائلاً: «لماذا لا يدرك أحد التقدم الذي تحقق هنا؟».
قد تساعد خلفيه جياني إنفانتيو «التعددية» ثقافياً على فهم خطابه التي أثار كثيراً من الجدل في قطر عشية انطلاق كأس العالم، حول شعوره بأنه «عربي وأوروبي وأفريقي وعامل…»؛ فهو وُلِد لأبوين من إيطاليا، ويحمل الجنسية المزدوجة الإيطالية والسويسرية. ثم إنه متزوّج من سيدة لبنانية هي لينا الأشقر، التي التقى بها في لبنان أثناء زيارة عمل عندما كان في الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، وهي تعمل في الاتحاد اللبناني لكرة القدم. وهو أيضاً متعدد اللغات، إذ يتكلّم بطلاقة 5 لغات هي الإيطالية والفرنسية والإسبانية والألمانية والإنجليزية، بجانب العربية التي اكتسبها من زوجته وبناتهما الأربع.
أكثر من ذلك، استثمر إنفانتينو الكثير للمساعدة في إنجاح كأس العالم في نهائياتها الحالية؛ إذ انتقل إلى الدوحة مع عائلته قبل أشهر للتأكد من حسن سير التنظيم واكتمال التحضيرات في الوقت المناسب، مع أن انتقاله عرّضه لانتقادات شكّكت بحيادية الاتحاد الذي يتّخذ من مدينة زيوريخ السويسرية مقراً له. ومن ثم، سلط هذا الجدل الضوء على رجل يصفه عارفوه بأنه «مُدمن عمل» وذو طموح لا محدود، وهاتان صفتان أكسبتاه حتى الآن ولايتين على رأس «فيفا»، وما يبدو أنها ولاية ثالثة قريباً في انتخابات الاتحاد في مارس (آذار) المقبل التي لم يترشح فيها أحد غيره.
النشأة والبدايات
تشير بدايات جياني إنفانتينو، المولود في بلدة بريغ بسويسرا عام 1970 لوالدين إيطاليين، إلى رجل مثابر دؤوب يعرف ما يريد. وهو رغم حبه لكرة القدم منذ الطفولة، لم يكن لاعباً مميزاً. بل أدرك باكراً أنه لن يلمع كلاعب كرة رغم شغفه باللعبة، فاختار طريقاً آخر يوصله إليها؛ إذ درس الحقوق وتخصص بالقانون الذي يحكم لعبة كرة القدم في جامعة فريبور المرموقة. ونظراً لعجز والديه - فينشنزو وماريا - عن تغطية تكاليف دراسته الجامعية، اضطر للعمل في السكك الحديدية بالتوازي مع الدراسة.
بعد التخرّج، عمل إنفانتينو لفترة مستشاراً قانونياً لأندية في إيطاليا وإسبانيا وسويسرا. ثم عمل في المركز الدولي للدروس الرياضية بجامعة نوشاتيل السويسرية، حتى أصبح المدير العام. وعام 2000، انتقل إلى الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (اليويفا) ليُعيّن بعد 4 سنوات مديراً للقسم القانوني ورئيس القسم المعني بإعطاء التصريحات للنوادي. ومن ثم، واصل صعوده داخل الاتحاد حتى أصبح نائب الأمين العام عام 2007، ثم الأمين العام بعد سنتين من ذلك. وخلال الفترة التي أمضاها إنفانتينو في «يويفا»، كان مسؤولاً عن توسيع هذا الاتحاد ليضم 24 فريقاً. ومما يُسجّل له هنا تثبيته دور «يويفا» كاتحاد محترم ومقدّر على الصعيد الأوروبي، بعد إدخاله إصلاحات مالية ومواجهة العنصرية والتمييز في اللعبة.
في «فيفا»
وصل إنفانتينو إلى رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بعد الفضيحة التي هزّته عام 2015، ودفعت برئيسه السابق جوزيف بلاتر إلى الاستقالة. وبالفعل، انتخب إنفانتينو الذي تعهد بإدخال إصلاحات على الاتحاد، وترأسه بعدما كان عضواً في لجنة الإصلاحات التابعة له. وبعد سنتين من ترؤسه «فيفا»، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إن «الكلمات الدافئة والإحساس الجيد الذي رافق انتقال إنفانتينو من مقر (يويفا)، بالقرب من جنيف، ليدير (فيفا)، تبخّرت. وفي الأشهر الماضية تسبب إنفانتينو بانزعاج كبير لأقرانه وزملائه وحتى بعض مؤيديه، بسبب مساعيه لإدخال تعديلات كبيرة على اللعبة، واقتراحه بطولات جديدة تعيد ترتيب الجدول الدولي». وتابعت أن الرجل «المدمن على العمل، الذي أشرف على إصلاح أخطر المشكلات المالية والتنظيمية لـ(فيفا)، أثار باندفاعه الكبير لتغيير الهيكل الأساسي للرياضة، ضيق كثيرين لدرجة أن إعادة انتخابه لولاية ثانية باتت مهددة».
أيضاً أشارت الصحيفة لمحاولات إنفانتينو إقناع مجلس «فيفا»، إبّان اجتماعه بالعاصمة الكولومبية عام 2018، بزيادة عدد المنتخبات المشارك في نهائيات كأس العالم إلى 40 دولة، كما كان وعد خلال حملته الانتخابية. وكانت غايته رفع دخل «فيفا» وإجبار القنوات التي تنقل المباريات على دفع مبالغ إضافية لضمان حقوق نقل عدد أكبر من المباريات. ويومذاك، اقترح إنفانتينو أيضاً إطلاق بطولتين جديدتين تموّلان من مبلغ 25 مليار يورو حصل عليها كتبرعات من دون أن يكشف عن الطرف المموّل، بحسب الصحيفة، لكن المجلس رفض اقتراح إنفانتينو لتمسكه برفض الكشف عن مصدر التمويل.
إرث فضائح بلاتر
في حينه، اشتكى راينهالد غريندل، رئيس الاتحاد الألماني الفيدرالي لكرة القدم، من أن إنفانتينو «بالكاد تكلّم معه»... وأنه «ما كان يريد سماع أي آراء». ولكن الصحيفة نقلت عن إنفانتينو نفسه - الذي زوّدها بإجابات عبر البريد الإلكتروني - قوله عن عقد من الفضائح في ظل إدارة سلفه جوزيف بلاتر: «بغض النظر عن الوقت الذي أمضيته أستعد لمواجهة مناخ من التردّد، فإن مستوى عدم الثقة التي واجهته في (فيفا)، وضمن المنظمة، غير معقول». وتابع: «في ذلك الوقت، كانت سمعة المنظمة في الحضيض، وأي شيء يتعلق بـ(فيفا) كان يغرق بقرينة الذنب، وأي شيء يصار إلى اقتراحه أو قوله يواجه بالريبة. لم يكن من السهل تحقيق شيء في مناخ كهذا. ولأشهر طويلة، بعدما تسلمت منصبي، شكل ذلك عقبة ضخمة ودائمة. وما زال، إلى درجة معينة».
من ناحية ثانية، بينما يعتبر إنفانتينو أن الخلافات داخل «فيفا» في منظمة بهذا الحجم طبيعية، يرفض منتقدوه ذلك، ويقولون إنهم يختلفون معه، لا سيما أنه فاز برئاسة الاتحاد بعد حملة وعد فيها بمضاعفة الأموال التي يصرفها «الفيفا» على المنتخبات بأربعة أضعاف. ووفق راينهارلد غريندل «قدّم إنفانتينو الكثير من الوعود من دون أن يكون لديه التمويل اللازم... وبالنسبة إليه فإن دورات وبطولات إضافية يمكن أن تجلب هذه الأموال، لكن هذا الطريق خطأ».
في أي حال، ظل إنفانتينو متمسكاً بفكرة زيادة عدد المنتخبات المشارك في نهائيات كأس العالم، لكنه عدل الرقم من 40 إلى 48 منتخباً، مع العلم أن 32 منتخباً يشاركون في نهائيات قطر حالياً. وحقاً، نجح بتمرير فكرته التي ستُطبق في النهائيات المقبلة التي ستستضيفها 3 دول بشكل مشترك للمرة الأولى هي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
أيضاً، حتى بعد قرار الزيادة، استمرت الانتقادات الموجهة لإنفانتينو. وطلب «اليويفا» منه تغيير موقفه وإعادة النهائيات لعدد المنتخبات الأصلية، ورأى «اليويفا» أن عدد المباريات حالياً «كبير جداً لدرجة غير مقبولة، لأنه ينهك اللاعبين. كذلك اعتبر أن قرار رئيس «الفيفا» بزيادة عدد المنتخبات المشاركة قرار «سياسي لا علاقة له بالرياضة، بل هدفه إرضاء قاعدته التي انتخبته». ونقلت صحيفة «ماركا» الإسبانية التي تُعنى بأخبار الرياضة، عن خافيير تيباس، رئيس رابطة الدوري الإسباني (لا ليغا) - آنذاك - قوله إن «صناعة كرة القدم تموّل نفسها من الأندية والروابط وليس من (الفيفا)». وانتقد يواكيم لوف، مدرب المنتخب الألماني - آنذاك - القرار، قائلاً إنه سيقلل من قيمة البطولة «لأن اللاعبين سيكونون عندها قد وصلوا إلى حدودهم الجسدية والعقلية». ومن المنتقدين أيضاً لقرار زيادة المنتخبات مَن يقول إنها «تخلق ظروفاً غير ملائمة بشكل تلقائي لبعض الدول التي لن تكون لديها البنية التحتية اللازمة لاستضافة بطولة بهذه الضخامة»، وبأنها «تفرض حكماً بطولات تستضيفها أكثر من دولة كما سيحصل في عام 2026».
نجاحات وإخفاقات
الواقع أن إنفانتينو لم ينجح في كل ما سعى لتحقيقه عندما ترأس «الفيفا»، وتعهد أيضاً بجعله منظمة «حديثة موثوق بها ومهنية» في أعقاب فضيحة الرشى التي هزت الاتحاد قبل انتخابه. وفعلاً، بُعيد انتخابه، عيّن إنفانتنينو ميغيل مادورو - القادم من محكمة العدل الأوروبية - رئيساً لقسم الحوكمة في «الفيفا» كي يشرف على لجنة أحد أهدافها التدقيق في المسؤولين الكبار الذين يعينون في وظائف داخل الاتحاد. ولكن خلال الأشهر التي تلت، ووفق تقارير صحافية، اشتكى مسؤولون داخل المنظمة من أن «لجنة مادورو» رفضت إعطاء الموافقة على السماح لنائب رئيس الوزراء الروسي فيتالي موتكو بإعادة الترشح لمجلس «الفيفا». وتسببت «اللجنة» أيضاً بجدل داخل الاتحاد الآسيوي لكرة القدم لطلبها زيادة أعداد النساء في الوظائف العليا داخل الاتحاد، في حين تضايق مسؤولون في أفريقيا عندما علموا أن «اللجنة» تريد فتح تحقيق في انتخابات داخل مجلس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم بسبب شكها في صدقية الانتخابات.
وفي نهاية المطاف، لم يصمد مادورو في منصبه 8 أشهر قبل أن يُطلب منه الاستقالة. وعلى الأثر اتهم مادورو رئيسه السابق بعد الاستقالة بأنه «اتخذ قراراً سياسياً لإنقاذ نفسه»، وأن القرار خاطئ. لكن صحيفة «الغارديان» البريطانية كتبت آنذاك أن مهمة إنفانتينو «ليست بسيطة»، وهو «ورث منظمة بحاجة إلى إصلاحات كبيرة... والمقاومة من الداخل ليست بسهلة».
وحسب مصادر مطلعة، كان إنفانتينو - على ما يبدو - متخوفاً من أثر منع إعادة ترشح فيتالي موتكو لمجلس «الفيفا» عام 2017 على نهائيات روسيا في العام التالي، وأيضاً ربما على فرص إعادة انتخابه بعد سنتين، إلا أنه عاد فضمن إعادة انتخابه لولاية جديدة تنتهي العام المقبل. ويرجح أنه نجح أيضاً بضمان انتخابه لولاية ثالثة في أبريل (نيسان) 2023 بعد إعلان «الفيفا» أن لا مرشحين غيره للمنصب.
جياني إنفانتينو... رئيس «الفيفا» الطامح لمكافحة الفساد وتوسيع قاعدة المشاركة
شخصية تجسّد التخصص القانوني والتعددية الثقافية
جياني إنفانتينو... رئيس «الفيفا» الطامح لمكافحة الفساد وتوسيع قاعدة المشاركة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة