جرائم الحرب اليوغوسلافية في عيون مترجمي المحكمة الجنائية الدولية

ما لم يُحكَ سابقاً في وثائقيّ من إنتاج مجلة «نيويوركر»

أحد المترجمين في المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا (نيويوركر)
أحد المترجمين في المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا (نيويوركر)
TT

جرائم الحرب اليوغوسلافية في عيون مترجمي المحكمة الجنائية الدولية

أحد المترجمين في المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا (نيويوركر)
أحد المترجمين في المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا (نيويوركر)

أن تكون مترجماً فورياً في محكمة لجرائم حرب، يعني أنك ستنطق بكلامٍ كثير، وأنك في المقابل ستبتلع مشاعر أكثر. ليست معاناة المترجمين موضوعاً متداولاً، لكنَّ مجلة «نيويوركر» الأميركية اختارت أن تطرق أبواب مترجمي المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وتسجّل شهاداتهم. في وثائقيّ من 20 دقيقة، يتحدث ثلاثة مترجمين عن تجاربهم. أصعب ما في الأمر أن المترجم، كما الصحافي، عليه أن يتجرّد من أحاسيسه وانفعالاته خلال أدائه عمله.
في ما يشبه جلسات البَوح في عيادات العلاج النفسي، ومن خلف زجاج غرف الفندق في لاهاي حيث مقر المحكمة، يشارك المترجمون رواياتهم. يقول أحدهم ويدعى نيناد: «عليك أن تبدو هادئاً. يجب ألا يعلم أحد بما يدور داخل قلبك. أنا في أمان داخل فقاعتي، خلف زجاج غرفتي العازلة. ثم تأتي شهادة أحدهم لتخترق فقاعتي وتعود إلى البيت معي».
لم تكن شهادات عادية تلك التي نُطق بها داخل محكمة يوغوسلافيا بين عامَي 1993 و2017: إبادات جماعية، جرائم ضد الإنسانية، تطهير عرقي، اعتداءات جنسية وحشية... قائمة لا تنتهي من الفظائع التي تؤرّخ للصراع الأوروبي الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية. صراعٌ أدى إلى مقتل 140 ألف شخص، حسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية.
لا يَعرض الفيلم الوثائقي أياً من مشاهد ذلك الأرشيف الدامي، لكنّ المعاناة الواضحة على وجوه المترجمين وفي أصواتهم، كافية لاختصار هَول ما حدث. «التروما» حقيقية هنا، فعندما تُترجَم المأساة بواسطة الكلمات، تنتقل بطريقة أو بأخرى إلى المترجم نفسه. يعلّق نيناد على هذه النقطة قائلاً: «كل كلمة تنطق بها الأفواه مهمة. فجأة تصبح أفكار الشهود أفكاري أنا».

يفصح أحدهم، واسمُه بسمير، عن أنه أمضى شهراً وهو يتعاطى الكحول يومياً بسبب حكاية مؤلمة ترجمها ولم يتخطاها: «أردتُ استحضار طاقة ذاك الطفل الذي ذُبح ظلماً»، يقول. ويضيف: «أردت أن أشعر بأني مدمّر من أجله لأنه لم يكن لديه أحد سواي ليبكي عليه».
بدأ بسمير مهمته مع محكمة يوغوسلافيا في الـ19 من عمره. رافق علماء الآثار وعمّال الحفر في رحلة اكتشاف مقبرة جماعية قرب سريبرينيتسا. نفّرته رائحة الجثث بدايةً، لكنه في اللحظة التي أدرك فيها أن جسده كاد يكون واحداً منها، تأقلم مع الموضوع. يقول في شهادته: «لو كنت مولوداً أبعد من مسقط رأسي بـ12 ميلاً، لكنت انتهيت داخل تلك المقبرة. عندما فكرت في الأمر، ما عادت رائحتهم مسيطرة عليّ».
أبعد من أنوفهم بكثير يبصر المترجمون، فحكايات المحكمة انتقلت إلى مناماتهم وسَكنتهم. هكذا حصل مع إحداهم وتُدعى ألما. هي كانت المحفّز الذي دفع بمخرجة الوثائقي إليان إستر بوتس إلى خوض التجربة. فالمخرجة الهولندية المقيمة في لاهاي التقت ألما صدفة، واستمعت إلى تفاصيل رحلتها مع ترجمة جرائم الحرب. حتى ذلك اللقاء، لم تكن بوتس قد فكرت يوماً بأنها ستصوّر هكذا قصة. لكنها فور الجلسة الأولى مع ألما، بدأت تشاهد أرشيف المحكمة الممتد ساعاتٍ وساعات.


المترجمة ألما تشارك تجربتها
خلال سنوات عملها الـ25 ترجمت المحكمة ملايين الوثائق إلى أكثر من 5 لغات، وحققت في جرائم حرب وقعت ضمن مناطق ينطق سكّانها 7 لغات مختلفة هي البوسنية، والصربية، والكرواتية، والألبانية، والمقدونية، إضافةً إلى الفرنسية والإنجليزية. أما المتمكنون من كل تلك اللغات، فكانوا حتماً من أبناء المنطقة الذين عايشوا تلك الحقبة الدامية وشهدوا على العنف، أو حتى كانوا أنفسهم ضحايا. في فيلمها القصير، تضعهم المخرجة بوتس تحت الضوء بعد أن أدّوا عملهم معزولين داخل غرف زجاجية. كانوا مجرّد أصوات مرغمة على الحياد، أما في الوثائقي فأضيفت وجوههم وانطباعاتهم ومشاعرهم إلى أصواتهم. هم ما عادوا مجرّد جسرٍ ناطقٍ بين المتّهمين والضحايا، بل صاروا هم الحكاية.
تسترجع المترجمة ألما ذلك اليوم الذي زارت فيه زوجَين متقدمَين في السن، ضمن نطاق مهمة موكلة إليها. «لا يمكنني أن أنسى صورة ابنَيهما المعلّقة على الحائط»، تبوح ألما. «اقتيد الولدان إلى معتقل لأسرى الحرب ثم اختفيا. خلال حديثي مع الوالدَين، فهمت أنهما كانا يعتقدان بأن الصبيين ما زالا على قيد الحياة، رغم مرور 8 سنوات على اختفائهما. كانا في انتظار عودتهما. هذه الحادثة حطّمت قلبي»، تقول ألما والدموع تخنق صوتها.
حتى داخل المحكمة، شعر المترجمون بأن صوتهم يهرب منهم لهَول ما سمعوا. يخبر أحدهم كيف أنه شعر بالاختناق خلال ترجمته الفورية، فأعطى الميكروفون لزميله لأنه أراد البكاء: «علمت في تلك اللحظة أنني إذا تفوّهت بكلمة واحدة، ستنهمر الدموع من عيني وستصدر أصواتٌ مختنقة وغير مفهومة من حنجرتي». يبوح المترجم ذاته بأنه لم يستطع الالتزام بقواعد الحياد: «مرات عدة سمحت لنفسي بالنظر إلى الضحية، حتى أشعر بها وأتعاطف معها».
أما أصعب ما اختبره المترجمون، فكان اضطرارهم إلى ترجمة كلام المجرمين. حسب إحدى الشهادات الممتزجة بالدموع: «لم يعجبني أبداً أن يكون لدي أي اتصال بالمتهمين. هذا لم يُشعرني بالارتياح لأنني سبق أن التقيت ضحاياهم وعملت معهم، ثم فجأة وجدت نفسي مرمية في وحدة الاحتجاز لأترجم كلام الأشخاص المسؤولين عن عذاباتهم. أنا تعذبت خلال الحرب وأتفهم جيداً معاناة الناس الذين أتوا للإدلاء بشهاداتهم».
فاز الوثائقي القصير بجائزة «كالف» الذهبية في مهرجان الفيلم الهولندي الشهر الفائت، كما أنه حاز تقييم 7.5 على منصة «IMDB». يأتي «In Flow of Words» (في فيض من الكلام) من ضمن مجموعة الوثائقيات التي فاق عددها الـ130، والتي تواظب «نيويوركر» على إنتاجها منذ عام 2019، ولهذه الأفلام القصيرة منحت المؤسسة الإعلامية العريقة عنواناً عريضاً هو: «وجهات نظر غير مألوفة حول قضايا تهمّنا الآن».


مقالات ذات صلة

السودان: مبعوث الأمم المتحدة يرى انفتاحاً أكبر من طرفي الصراع على المحادثات

العالم السودان: مبعوث الأمم المتحدة يرى انفتاحاً أكبر من طرفي الصراع على المحادثات

السودان: مبعوث الأمم المتحدة يرى انفتاحاً أكبر من طرفي الصراع على المحادثات

قال مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان لوكالة «رويترز»، اليوم (السبت)، إن الطرفين المتحاربين في البلاد منفتحان بشكل أكبر على المفاوضات، وأقرا بأن الصراع الذي اندلع منذ أسبوعين لا يمكن أن يستمر. ويمثل هذا بصيص أمل حتى في ظل تواصل القتال. وقال المبعوث فولكر بيرتس، إن الطرفين رشحا ممثلين عنهما للمحادثات التي اقتُرحت إقامتها إما في جدة بالسعودية أو في جوبا بجنوب السودان، لكنه استطرد قائلاً إن ثمة سؤالاً عملياً حول إذا ما كان بوسعهما الذهاب إلى أي من المكانين «للجلوس معاً فعلياً». وأضاف أنه لم يُحدد جدول زمني لإجراء محادثات. وبدت احتمالات إجراء مفاوضات بين زعيمي الطرفين واهية حتى الآن.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
العالم «إف بي أي» يعمل مع شركات الهاتف الأميركية لجمع أدلة جرائم الحرب في أوكرانيا

«إف بي أي» يعمل مع شركات الهاتف الأميركية لجمع أدلة جرائم الحرب في أوكرانيا

يعمل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي أي)، بالتعاون مع شركات الهاتف المحمول الأميركية والحكومة الأوكرانية، على جمع معلومات وأدلة على جرائم حرب ارتكبتها روسيا خلال حربها المستمرة، مثل تحديد الموقع الجغرافي ومعلومات من الهواتف المحمولة. وقال مسؤولون أميركيون كبار، الثلاثاء، إن أوكرانيا تجمع المعلومات الرقمية من ساحات القتال والبلدات الأوكرانية التي دمرتها الحرب منذ غزو روسيا للبلاد في فبراير (شباط) 2022 الماضي، بحسب وكالة «رويترز».

العالم العاصمة السودانية تشهد هدوءاً نسبياً في الساعات الأخيرة

العاصمة السودانية تشهد هدوءاً نسبياً في الساعات الأخيرة

شهدت مدن العاصمة السودانية الثلاث الخرطوم وبحري وأم درمان هدوءا نسبيا في الساعات الأخيرة باستثناء بعض المناطق في الخرطوم التي لا يزال قاطنوها يسمعون دوي الانفجارات وأصوات الاشتباكات لا سيما في الأحياء الواقعة وسط وجنوب الخرطوم بجانب أحياء في أم درمان. وكان الجيش السوداني وقوات الدعم السريع قد وافقا على هدنه لمدة ثلاثة أيام بوساطة أميركية، تنتهي غدا الأحد.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
العالم بعد فيديو لقطع رأس أسير مفترض... زيلينسكي يدين «الوحوش» الروس

بعد فيديو لقطع رأس أسير مفترض... زيلينسكي يدين «الوحوش» الروس

أدان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اليوم الأربعاء، ما وصفهم بـ«الوحوش» الروس، بعد نشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهر عملية قطع رأس رجل يُعتقد أنه أسير حرب أوكراني، في حين دعا «الكرملين» إلى «التحقق من صحة» التسجيل، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية». ونُشر تسجيل الفيديو على تطبيق «إنستغرام»، وهو يُظهر، وفقاً لكييف، جندياً روسياً يقطع رأس أسير أوكراني بسكّين. وقال زيلينسكي، في مقطع فيديو نُشر على «إنستغرام»: «كم يقتل هؤلاء بسهولة!».

«الشرق الأوسط» (كييف)
العالم مؤسسة خيرية: استعادة 31 طفلاً أوكرانياً من روسيا

مؤسسة خيرية: استعادة 31 طفلاً أوكرانياً من روسيا

أعيد 31 طفلاً أوكرانياً إلى بلادهم بعدما نُقلوا إلى روسيا بطريقة «غير شرعية» من مناطق أوكرانية ضمّتها موسكو، حسبما أعلنت مؤسسة خيرية، اليوم (السبت). وقال رئيس مؤسسة «أنقذوا أوكرانيا» ميكولا كوليبا على شبكات التواصل الاجتماعي: «نستقبل اليوم (السبت) 31 طفلاً إضافياً أخذهم الروس بشكل غير قانوني من أراضٍ محتلة». وأُخذ الأطفال من منطقتَي خاركيف (شمال شرق) وخيرسون (جنوب)، بحسب المنظمة التي تحارب ما تقول إنه «عمليات ترحيل غير قانونية لأطفال أوكرانيين». وأفادت المنظمة، أمس (الجمعة)، بأن الأطفال وأقاربهم عبروا الحدود حتى باتوا في الأراضي الخاضعة لسيطرة كييف، وأظهرت مشاهد نُشرت في اليوم نفسه، عبور أطفال

«الشرق الأوسط» (كييف)

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».