ألف شفق تكشف النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية

صاحبة «قواعد العشق الأربعون» التركية تعود برواية جديدة

ألف شفق
ألف شفق
TT

ألف شفق تكشف النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية

ألف شفق
ألف شفق

عندما سألت ذات مسامرة شاعرنا الكبير محمود درويش في منزله الباريسي، عن أولى قراءاته، أجاب دون تردد: «الشاعر التركي ناظم حكمت». رحم الله شاعرنا الذي وضع قدمي على أول كنز أدبي تركي. منذئذ ما فتئت قدماي تتقدما على هذا الطريق، وتتوغل في أعماق هذا الأدب الذي قطع أشواطا شاسعة المسافات في الإبداع الأدبي شعرا ونثرا حتى بلغت أقلام يشار كمال، وإحسان أنار، وأحمد حمدي تابينار، ومؤخرا أورهان باموق صاحب رائعة «اسمي أحمر»، والحائز على جائزة نوبل، وألف شفق (اسمها من الحرف العربي ألف الذي يكني به الأتراك كل شخص مستقيم كحرف الألف).
اليوم ومع كل إصدار لباموق، أو شفق تتسابق دور النشر العالمية لترجمته بلغات شتى ولتتصدر هذه الأعمال المكتبات في أكبر المدن الغربية. لقد تعرف الغرب على هذه الكاتبة التركية الأصل التي تكتب بلغة شكسبير عبر رائعتها «قواعد العشق الأربعون»، حيث وضعت في متناول القارئ الغربي أجمل لقاء بين صوفيين: شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في قونية العثمانية، وبداية رقصة المولوي التي تربط السماء بالأرض، وتقرب المخلوق من خالقه. ولم تقتصر نجاحات شفق على هذا الإنجاز الأدبي الفريد، بل تعدته أيضا في أعمال أخرى لا تقل إبداعا واتساعا: «لقيطة إسطنبول»، «شرف»، وسواهما. هذه الروائية التي تجمع بين سحر الكلمة، وسلاسة السرد، والتنقيب في زوايا التاريخ العثماني، على غرار كاتبنا أمين معلوف، تخطت عتبة أخرى من الإبداع - وإن يعيب عليها النقاد الأتراك بأنها أنغلوفونية وتكتب بأسلوب يعجب الغرب - في إصدارها الأخير: «صانع المهندس» ترجمة العنوان من الإنجليزية، أو «مهندس السلطان»، الترجمة في النسخة الفرنسية، أو «الفتى المتيم والمعلم» الترجمة بالعربية).
هذه الرواية تحمل القارئ إلى عوالم السلطنة العثمانية في أوج قوتها، وعظمتها، في عهد السلطان سليمان القانوني، وسليم الثاني (السكير)، ومراد الثالث. وبداية المشاريع المعمارية الكبرى التي قام بها يوسف بن خضر بن جلال الدين الحنفي المعروف بمعمار خواجة سنان الذي قام بتشييد أروع الأبنية العثمانية من مساجد، وحمامات، وجسور، وسواها. وكان له آلاف العمال، والصناع، والمهرة، وأربعة تلاميذ: أحمد آغا، وداود آغا، ويتيم بابا علي، وسنان الصغير.
جاهان الصبي الهندي، الذي تدور الرواية حوله، الهارب من زوج أمه الذي يتهمه بقتلها على متن مركب يحمله مع فيل أبيض يروضه كهدية للسلطان العثماني في إسطنبول من قبل المهراجا. هذا الصبي النحيل كقضيب خيزران، بقامة لا تشكو طولا ولا قصرا، ببسمة ساحرة، وغمازة في الخد الأيسر، كإصبع خباز في قرص عجين، توقعت له أمه مستقبلا باهرا، وتهافت الصبايا عليه يسحرهن بابتسامته، وغمازته. نعيش معه قصة فريدة من مروض للفيل في حديقة القصر، إلى معماري نادر المهارات، متتلمذا على يد معمار سنان الكبير، وعاشق متيم بابنة السلطان مهرماه.
تنطلق رواية شفق من النقطة الأكثر مأساوية في تاريخ السلطنة العثمانية، التي باتت عادة متبعة من قبل السلاطين وهي قتل إخوة السلطان مع بداية الحكم، ولكن هذه المرة كانت تحت أنظار جاهان الذي دخل خلسة قاعة القصر التي حدثت فيها جريمة قتل إخوة السلطان مراد الثالث الخمسة بأمر منه كي لا ينازعوه في حكمه، متخفيا وراء ستارة.
شفق جعلت من الصبي الهندي شخصية خارقة قادرة على كل شيء، فهو استطاع أن ينجو مع فيله الأبيض من الغرق بعد أن قذف بهما قبطان الباخرة في البحر، ويعيش على جزيرة نائية في عرض المحيط الهندي، ثم يسعفه الحظ بأن يلتقطه مركب آخر ويوصله إلى إسطنبول، شريطة أن يقوم بالسرقة من تحف وثروات القصر لحسابه، مهددا له بالقتل إن لم يفعل، يتقرب من الأميرة الساحرة مهرماه عن طريق الفيل، ولكن يسرق بخفة وصيفتها، وكل ما يمكن أن تصل يده إليه إرضاء للقبطان الذي يهدده. يشارك مع فيله في حرب السلطان سليمان في مولدافيا ويهاجم أعداءه بشراسة ويظهر شجاعة منقطعة النظير، ويساعد معمار سنان الذي اكتشف السلطان سليمان مواهبه في بناء جسر على نهر كي تمر قواته عليه قبل بدء المعركة الكبرى ضد المولداف. يسر السلطان من فعل الصبي وفيله وكذلك المعمار سنان الذي يكتشف حذاقة وذكاء الصبي الآتي من خلف البحار.
تتابع شفق روايتها وتغلو قليلا في إضفاء صفات خارقة على بطل روايتها، الذي يقهر زعيم الغجر بالبان، ويفحمه بالحجة كي يسفد فيله شوتا فيلته غولبهار. ثم هو الذي يختاره معمار سنان ليكون تلميذه المفضل فيرسله إلى مدرسة القصر ليتعلم الهندسة، ثم يطلب منه المساعدة في بناء مسجد السليمانية أعظم أثر خلفه سليمان القانوني في إسطنبول، وعليه يقع الخيار لزيارة روما والالتقاء بنحات العصر ونابغته مايكل أنجلو. وبقدرة قادر يتعلم الصبي التركية بسرعة كبيرة ليكون قادرا على الحديث وبطلاقة مع الأميرة ميهرماه، والسلطان، ومعمار، والقبطان المهدد، ثم يتعلم الإيطالية بنفس السرعة ليتكلم مع الإيطاليين في روما ومع مايكل أنجلو، وكذلك بالنسبة للفرنسية. لكن قدرة جاهان لا تتوقف بالنسبة للكاتبة عند حد، فهو يناقش السلطان بمزايا بناء قنطرة لقطر المياه في إسطنبول على عكس ما يرى الوزير الأول رستم باشا، صهر السلطان المتزوج من كريمته مهرماه بتدبير من أمها روكسلان، ويتكبد عناء اللحاق بالسلطان في رحلة صيد على فيله ويبحث معه بناء القنطرة، ومصحة، دون أن يأذن له معلمه معمار سنان، أو أن يغضب السلطان من وجوده غير المرغوب فيه في رحلة صيد. فكيف لمروض فيل أن يرتقي بهذه السرعة ليكون أحد متحدثي السلطان دون إذن، والمعروف أن مقابلة السلطان سليمان لم تكن بهذه السهولة، ولا سيما من قبل هذا المروض الذي تسلل من إسطبلات القصر على ظهر فيله، ووصل في الوقت المناسب، الذي تمكن فيه الملك من اصطياد ظبية سقطت مضرجة بدمائها بصدفة أخرى بين قدمي جاهان ليأتي السلطان ويتكلم معه حول مشروع معماري في عز رحلة صيد.
مثل هذه المصادفات والمبالغة في السرد تتكرر مرة أخرى عندما يعلم الباشا رستم بمغامرة جاهان فيأمر بسجنه في القلعة الكبرى، وهناك يلتقي صدفة برئيس الغجر بالبان الذي سجن قبله بتهمة سرقة، فينقذه من موت محتم بعد مرض ألم به، وتتدخل ميهرماه لدى زوجها ليعفو عنه ويخرجه من السجن. مع أن معلمه معمار سنان لم يتدخل البتة لإنقاذ صانعه المدلل من سجنه مع علمه بأنه سجن دفاعا عن مشروعه المعماري. ثم ينقذه مرة ثالثة وبصدفة محضة أيضا بعد أن أوثقه صديقه داود ورماه في كوخ مهجور بعيدا عن إسطنبول بعد أن زور وصية المعلم سنان الذي أوصى بأن يكون جاهان خليفته في منصبة.
ولكن ما نعيبه على الخيال الروائي للكاتبة أنها أقحمت وقائع من محض خيالها ليس لها سند تاريخي. فجعلت جثة سليمان القانوني أشهر وأقوى سلاطين بني عثمان بعد وفاته في موقعة سيكتوار في المجر أن توضع على ظهر الفيل شوتا لإيهام جنود الانكشارية بأن السلطان ما زال حيا تحاشيا لهبوط معنوياتهم وخسارة المعركة. مع أن الواقعة التاريخية الصحيحة هي أن فتح قلعة سيكتوار قد تم قبل وفاته بمرض النقرس وعندها قال جملته الشهيرة: الآن طاب الموت.
الصبي الهندي لم تتوقف مغامراته مع السلاطين، إذ بات أيضا بعلاقة طيبة مع السلطان سليم السكير الذي كان يطيب له اللهو متسكعا مع حاشيته على ظهر الفيل الأبيض في شوارع إسطنبول ليلا بعد سكرة ثقيلة لم يعد أقداحها. وهو الذي ساعد معلمه سنان في بناء مسجد السلطان سليم أيضا ورسم قبته النادرة الجمال في الهندسة المعمارية. وتتوالى هذه المبالغات في الرواية إلى حد يدفع القارئ للتساؤل: لماذا لم يذكر التاريخ شيئا عن هذا الهندي العبقري كما ذكر زوجة السلطان روكسلان؟.
وتدخل الكاتبة جاهان في مغامرة أخرى يقوده إليها رئيس الخدم عندما يصطحبه إلى حمام غسل الأحزان حيث الماء والخمرة والوجه الحسن وتوهمه بائعة الهوى التي اختارها له بأنه قتلها بعد أن دفعها بقوة وسقطت على رأسها فاضطر إلى الهرب ليختبئ لدى صديقه القديم داود الذي بات رئيس المعماريين في السلطنة بعد أن خلف معمار سنان، وليكتشف أنه خانه ليهرب منه مجددا ليستقل مركبا يقله إلى أكرة في الهند بعد أن بلغ من الكبر عتيا ليجد هناك السلطان شاه جيهان يشيد تاج محل ليضم رفات زوجته ممتاز محل التي أحبها حبا جما. يقدم جاهان نفسه للملك كمساعد للمعماري الكبير سنان الذي يطلب من مهندسه أمان الله خان شيرازي بأن يوكل إليه برسم قبة الضريح، ويطلب له زوجة هندية شابة حامل من زوج توفي بعد زواجه مباشرة وتصغره سنا بنحو سبعين سنة. جاهان الذي كان عاشقا لابنة السلطان مهرماه، وحزن حزنا شديدا على موتها، تزوج بعد سبعين سنة بزوجة تخالفها في كل شيء من حيث الجمال والكمال، لكنها كانت رقيقة. وعندما تضع الزوجة طفلها الذي يتبناه جاهان، يعطيه اسم معلمه: سنان.
وهنا تنهي الكاتبة مغامرة فريدة من نوعها لبطل روايتها جاهان.
تعترف الكاتبة بأنها تلاعبت ببعض التواريخ، وكذلك تخيلت الكثير من الأحداث غير الواقعية، وأن فكرة هذه الرواية جاءتها صدفة عندما كانت تركب سيارة أجرة في إسطنبول ومرت أمام الجامع الجديد ورأت طفلا يستند إلى جداره ثم وقع بصرها على مصور للمسجد في أحد الكتب وأمام الصورة فيل أبيض. هذه الصور مجتمعة ألهمتها هذه الرواية التي تميزت بسلاسة سردها المتسلسل للأحداث مع بعض الحبكات بين مقطع وآخر لا تقطع نفس قارئها، بل تسافر معه في إسطنبول في أوج عظمتها، يتعرف على شوارعها، وساحاتها، ومراحل بناء مساجدها، بل وألبستها ومأكولاتها. لكن يبقى لدي كقارئ، قبل أن أكون ناقدا، كيف بقي جاهان هذا العبقري في البناء، والألمعي في التعلم السريع للغات، واختلاطه بالسلاطين، مروضا للفيل ينام في الإسطبل ليلا ويعمل مهندسا معماريا نهارا في أكبر وأعظم الآثار المعمارية التي خلفها معمار سنان؟ ألم يستحق من عظماء السلاطين الذي أسدى لهم كل هذه الخدمات أن يكون له مكانا لائقا، حتى بعد موت الفيل شوتا هرما؟
لقد جاءت هذه الرواية بدرجة أقل إبداعا من الروايات الأخرى التي دفعت بالروائية إلى مقدمة الروائيين الأتراك، ربما لأن شخصية مروض الفيل جاهان لم تكن مقنعة، وإقحامها في التاريخ العثماني وإبرازها كشخصية حقيقية التي قد تخفى على القارئ العادي حقيقة وجودها من عدمه. لكن هذا لا ينتقص من متعة القراءة لرواية تسافر ببطلها وبنا عبر قارات ثلاث، على مدى عمره المديد.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!