الفلسفة في السعودية ورؤية محمد عابد الجابري

الطلاب السعوديون على موعد مع دراسة مادة الفلسفة في المدارس والجامعات (غيتي)
الطلاب السعوديون على موعد مع دراسة مادة الفلسفة في المدارس والجامعات (غيتي)
TT

الفلسفة في السعودية ورؤية محمد عابد الجابري

الطلاب السعوديون على موعد مع دراسة مادة الفلسفة في المدارس والجامعات (غيتي)
الطلاب السعوديون على موعد مع دراسة مادة الفلسفة في المدارس والجامعات (غيتي)

حتى الآن، لم يدخل قرار تدريس مقرر الفلسفة في المدارس والجامعات السعودية حيّز التنفيذ. ولكننا نكاد نتحسس أهم التحديات والإشكالات التي تواجه تطبيقه في التعليم النظامي. ومن أبرز التحديات أمام هذا التحوّل الواعد في المملكة هي: بعض التيارات الاجتماعية، والمنهج التعليمي، والأستاذ القيّم على تدريس مادة يختلف مقررها عن بقية المقررات التربوية المعهودة... وهذه تشكّل معاً ركائز التعليم السليم. ولعلّه من الضروري أن يعاد تعريف ‏الفلسفة في المجتمع وإلقاء حمولة هذا المصطلح السلبية تاريخياً، وأن تؤَسس الطرائق التعليمية بعيداً عن نخبوية الطرح اللصيق دائماً بشخصية الفيلسوف لا بموضوع الفلسفة، وتبيان الحاجة الملحة لربط هذه المادة بحياتنا ‏المعاصرة والاستفادة ‏منها قدر الإمكان والتعويض عمّا فات.
وعلى الرغم من أن التعريفات تعددت بتعدد الأزمنة والثقافات، يتلخّص تعريف الفلسفة في أنها تلك اليقظة الفكرية المتأنّية التي ظاهرها الجدل والاختلاف وباطنها فن المعرفة ومهارة اختبار المفاهيم والكشف عن صميم الإشكاليات داخل التجربة الإنسانية. حيث يتيح المناخ الفلسفي ميزة التفكير النسبي الذي بدوره يقضي على الحدّية والإقصاء والتطرف. ذلك أن هدف الفلسفة هو إدراك الذات. كما أن الفلسفة هي تاريخ قدرة الإنسان على توسيع المدارك والانفتاح والمرونة وصنع الأسئلة. فكانت الفلسفة الدواءَ الذي انتصر به العقل على الخوف والجهل.
كانت الفلسفة وما زالت الأم الرؤوم التي تناسلت منها العلوم. فقد استقلت الرياضيات عن الفلسفة بموضوع الكَمّ، ثم لحقتها الفيزياء في القرن السابع عشر، ثم الكيمياء، فعِلم الأحياء (البيولوجيا) في القرن التاسع عشر. بعد ذلك تفرّعت منها العلوم الاجتماعية والاقتصاد وعلم النفس ثم علم الاجتماع. والقرن العشرون كان قرن العلوم الإنسانية بامتياز. كل تلك الأغصان أينعت من الفلسفة التي تميزت عن العلم في أنها تتعايش وتنمو تاريخياً. أما في العلوم فالنظرية الجديدة تظهر لتدحض ما قبلها.
ومنذ الحضارة الإغريقية حتى القرن السابع عشر، كانت العلوم تلازم الفلسفة ملازمة وثيقة، لتستقل عنها متى ما وجدت معملاً لتجريب نتاجاتها، في عملية تراتبية، تراكمية وتفسيرية.
لقد عُرف عن أفلاطون تمكّنه من الرياضيات، وعن أرسطو معرفته بالطبيعيات، وابن سيناء اضطلاعه في علم الفلك والرياضيات، غير الطب الذي اشتهر به. وبحّر الفارابي في الموسيقى والفيزياء، وابن رشد في الطب والقضاء. وعُرف عن ديكارت فهمه لعلم الجبر واختصاصه بالموسيقى، وعن كانط إحاطته بالفيزياء والإنسانيات، وعن روسو تأثيره في علم النبات وتصميم الرقصات ونقد الموسيقى.
بالعودة إلى السعودية، على الرغم من تعالي الأصوات المطالبة بتدريس الفلسفة بشكل متكرر والتفكير النقدي من المثقفين والمهتمين، شكّل القرار الذي صدر عن وزارة التعليم مفاجأة جميلة ومتميّزة، وسيكون نقلة نوعية في تطور مناهج التعليم بالمملكة.
ولمواجهة التحديات التي تطرحها هذه المسألة الحسّاسة وتيسير معالجتها كانت الحاجة لأن نوضحها وهي:
- المجتمع: تشكّل بعض الانتماءات الفكرية في المجتمع عائقاً وسبباً أساسياً في تعطيل المنهج لما يحمله من انطباعات قَبلية وتصورات محسومة وأحكام جاهزة حول الفلسفة، ما قد يطوّر مناعة مضادة لدى النشء، مثلما حدث مع الفنون سابقاً، حيث يشغل التراث في وعينا حيّزاً مُغَالًى فيه فتتقدّم مسألة التاريخ دائماً على الحداثة والتغريب والتغيير.
- المنهج: الفلسفة وإن كانت علماً، تظلّ في الحقيقة نشاطاً وممارسة قبل أن تكون درساً. فقد أثبتت التجارب إمكان تحويل هذا العلم إلى منهج دراسي وجلبه من الفضاء التخصّصي إلى قوالب تعليمية وقواعد تربوية تلائم السياق التدريبي. فيصار إلى تنظيمها بطريقة مبّسطة تيسّر للطالب المبتدئ استيعابها. وهذا الإجراء المُجرّب يطلق عليه تسمية «النقل الديداكتيكي»، وتكون نتائجه ملموسة وواضحة عندما يطبّق على الرياضيات والفيزياء مثلاً. لكنه يصبح أكثر صعوبة في مجال الفلسفة، إذا لم يسلم من الاجتزاء أو تلبيس المفاهيم معاني أخرى تعكّر ماهيتها.
- الأستاذ: من التحديات أيضاً إيجاد الأستاذ أو المدرّس المناسب، فكثير من مدرسي مادة الفلسفة ورغم اجتهادهم ومكانتهم العلمية، قد لا يستطيعون تحقيق الأهداف الأساسية من تدريس مادة الفلسفة. وذلك إما بسبب شرح المادة بطريقة الإلقاء والإخبار، أي بالتلقين، وإما بسبب انطلاق كل منهم من نظرته للفلسفة التي لا ترى فيها سوى نصوص للحفظ وعبارات تُجتر وتُكرر بلا طائل. وثمة من يتبنى آراءً سطحية منتزعة من سياقها، بسبب ضعف تكوينه المعرفي العام خارج التخصص، بعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والاقتصاد. كل هذه التحديات موجودة نسبياً في تجارب موازية ولها مكانتها. كما أن لكل تجربة تحدياتها وإفرازاتها المختلفة، وهو الأمر الذي يسهل المهمة. ومن زاوية مغايرة، يمكن القول إن من حسن الحظ أن تحريم تدريس الفلسفة في الماضي حرسها من تجارة المدّعين وأبقاها منطقة بكراً، فلم تُمتهن كدور المثقف ورجل الدين في مجتمعنا. إلا أن المواضيع الفلسفية لم تكن غائبة تماماً، كانت تعوم حيناً وتغوص أحياناً، فتُطرح في المنتديات مستترة بأثواب مواضيع أخرى كالآداب وعلوم الاجتماع.
وتطلّ في التعليم في دروس اللغة العربية أو في حصص العقيدة أو علم النفس أو النقد، حتى ولو كانت تنتهي برفضها. ويمكننا اليوم أن نلحظ أنماط تفكير مختلفة ولافتة من خلال الإنتاج الفكري والأدبي في المكتبات أو من خلال منصات مواقع التواصل الاجتماعي التي تشير إلى أن المشاركين نهلوا من الفلسفة والعلوم الاجتماعية المختلفة. ويرشدنا هذا الاتجاه المجتمعي المتنوع إلى أن ثمة قبولاً ضمنياً للفلسفة يناسب انفتاح وحماس المجتمع على الأقل في الوقت الحالي، الذي يشهد اتساعاً فكرياً وتَقبُّلاً للآخر وازدهاراً اقتصادياً... يجعل من البيئة السعودية حاضنة لصناعة الأفكار الجديدة وممارستها، وهذا بالضبط ما تُعنى به الفلسفة.
لقد كانت الفلسفة ولا تزال تستبق المعرفة وتستشرفها وسنجد أنه رغم تباعد الزمان والمكان يمكن أن تتشابه فلسفتان من دون جذر أو اشتقاق، مثلما حدث لأفلاطون اليوناني ويامنغ مينغ الصيني حين اتفقا من دون اتصال على وجود «المعرفة الفطرية» وكذلك لأرسطو وكونفشيوس في أن «الفضيلة هي أعلى هدف يسعى الإنسان لتحقيقه».
ولطالما كان للفلاسفة دور في حركة التاريخ، وقلما تجد حضارةً لم تُبنَ على فلسفة أو مؤثراً لم يكن مصدر إلهامه فيلسوفاً. فالإسكندر المقدوني كان معلمه أرسطو، والثورة الفرنسية كانت ترجمة لأفكار فولتير وروسو وآخرين. وكانت ملكة السويد كريستينا تتبنى أفكار ديكارت، وكان لمكيافيلي في عصر النهضة دور كبير في التنظير للفكر السياسي البراغماتي والتمهيد لما سيغدو لاحقاً مدرسة الواقعية السياسية الأنغلوساكسونية التي سوف تنتهج نهج مكيافيلي المبكر في الفصل بين الأخلاق والسياسة. ونهل هتلر من شوبنهاور وأخذ من أفكار نيتشه، وجمال عبد الناصر كان من قرّاء عبد الرحمن بدوي، وميشيل عفلق كان قد تأثّر بالفرنسي برغسون، وبورقيبة بأوغست كونت.
واليوم نشاهد أثر الفيلسوف بول ريكور واضحاً على دبلوماسية ماكرون، ونلمس أثر أفكار ألكساندر دوغين على صمود الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الصيني شي جينبينغ ما زال يردد حِكم كونفوشيوس.
نجد أن أكثر المؤثرين اليوم لديهم أمنيات وأفكار لا تبتعد عن الفلسفة ومدارسها. فالفلسفة في مضمونها هي طلب الحكمة وليس حيازتها. يذكر ستيف جوبز، مؤسس «أبل»، في أحد اللقاءات أنه مستعد للتنازل عن جميع خبراته التكنولوجية مقابل قضاء أمسية مع سقراط! ويقال إن جاك دورسي، مؤسس «تويتر»، أحد المعجبين بالمذهب الرواقي، بل إنه يُلقب (برواقي وادي السيليكون) والأمثلة غيرهم كثيرة.
ينقل الفيلسوف والباحث الموريتاني السيد ولد أباه عن أن المفكر المغربي محمد عابد الجابري أنه قال له إنه يتوقع أن تشرق شمس الفلسفة عربياً من السعودية. فهل تتحقق رؤية الجابري؟
* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

السعودية تطلق خدمة التأشيرة الإلكترونية في 7 دول

أطلقت السعودية خدمة التأشيرة الإلكترونية كمرحلة أولى في 7 دول من خلال إلغاء لاصق التأشيرة على جواز سفر المستفيد والتحول إلى التأشيرة الإلكترونية وقراءة بياناتها عبر رمز الاستجابة السريعة «QR». وذكرت وزارة الخارجية السعودية أن المبادرة الجديدة تأتي في إطار استكمال إجراءات أتمتة ورفع جودة الخدمات القنصلية المقدمة من الوزارة بتطوير آلية منح تأشيرات «العمل والإقامة والزيارة». وأشارت الخارجية السعودية إلى تفعيل هذا الإجراء باعتباره مرحلة أولى في عددٍ من بعثات المملكة في الدول التالية: «الإمارات والأردن ومصر وبنغلاديش والهند وإندونيسيا والفلبين».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق «ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

«ملتقى النقد السينمائي» نظرة فاحصة على الأعمال السعودية

تُنظم هيئة الأفلام السعودية، في مدينة الظهران، الجمعة، الجولة الثانية من ملتقى النقد السينمائي تحت شعار «السينما الوطنية»، بالشراكة مع مهرجان الأفلام السعودية ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء). ويأتي الملتقى في فضاءٍ واسع من الحوارات والتبادلات السينمائية؛ ليحل منصة عالمية تُعزز مفهوم النقد السينمائي بجميع أشكاله المختلفة بين النقاد والأكاديميين المتخصصين بالدراسات السينمائية، وصُناع الأفلام، والكُتَّاب، والفنانين، ومحبي السينما. وشدد المهندس عبد الله آل عياف، الرئيس التنفيذي للهيئة، على أهمية الملتقى في تسليط الضوء على مفهوم السينما الوطنية، والمفاهيم المرتبطة بها، في وقت تأخذ في

«الشرق الأوسط» (الظهران)
الاقتصاد مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

مطارات السعودية تستقبل 11.5 مليون مسافر خلال رمضان والعيد

تجاوز عدد المسافرين من مطارات السعودية وإليها منذ بداية شهر رمضان وحتى التاسع من شوال لهذا العام، 11.5 مليون مسافر، بزيادة تجاوزت 25% عن العام الماضي في نفس الفترة، وسط انسيابية ملحوظة وتكامل تشغيلي بين الجهات الحكومية والخاصة. وذكرت «هيئة الطيران المدني» أن العدد توزع على جميع مطارات السعودية عبر أكثر من 80 ألف رحلة و55 ناقلاً جوياً، حيث خدم مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة النسبة الأعلى من المسافرين بـ4,4 مليون، تلاه مطار الملك خالد الدولي في الرياض بـ3 ملايين، فيما خدم مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي بالمدينة المنورة قرابة المليون، بينما تم تجاوز هذا الرقم في شركة مطارات الدمام، وتوز

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

بحث الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، اليوم (الخميس)، الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف في السودان، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين السودانيين والمقيمين على أرضه. وأكد الأمير فيصل بن فرحان، خلال اتصال هاتفي أجراه بغوتيريش، على استمرار السعودية في مساعيها الحميدة بالعمل على إجلاء رعايا الدول التي تقدمت بطلب مساعدة بشأن ذلك. واستعرض الجانبان أوجه التعاون بين السعودية والأمم المتحدة، كما ناقشا آخر المستجدات والتطورات الدولية، والجهود الحثيثة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.