«ما يفتقده المهرجان» يقول لي منتج أوروبي يعيش ويعمل في الولايات المتحدة حالياً، «هو الطموح لكي يقود حركة تسويق الأفلام الأجنبية في الشرق الأوسط».
لا يود هذا المنتج الإعلان عن اسمه، لكنه واحد من الذين حضروا سابقاً مهرجانات عربية كبيرة، وتوقع أن يؤدي تواجدها إلى إحداث تطوير بالنسبة للأفلام الأوروبية والآسيوية على الأخص. حين سألته عما يعتقده المشكلة الحقيقية التي تمنع مهرجان القاهرة من الخطو في هذا الاتجاه، قال «يحتاج المهرجان إلى خلق السوق المناسبة في مصر وخارجها. اسمع، السوق العربية تستطيع أن تكون إحدى أهم خمس أسواق عالمية. حالياً هناك ثلاث ولا توجد رابعة أو خامسة».
الأسواق المقصودة هي شمال أميركا وأوروبا وآسيا. تلك الأميركية تعرض ما ينجح سلفاً من أفلام أوروبية في المهرجانات. الأوروبية لا مشاكل تحدّ من عرض أفلام دولها. آسيا سوق كبيرة، لكن اهتمامها بما تنتجه محلياً وبما يرد إليها من هوليوود. الحال نفسه بالنسبة لأميركا اللاتينية وللعالم العربي، مع اختلاف كبير هنا، وهو أن الإنتاجات العربية خارج مصر ليس لها إلا نافذة ضيقة جداً لكي تتسلل منها إلى العروض التجارية في الدول العربية الأخرى.
الدورة الرابعة والأربعون المنعقدة حالياً حتى الثالث والعشرين من الشهر عكست تطوّراً في مجالات كثيرة. التوقيت الملزم بالعروض. حسن الاستضافة. سرعة الاستجابة للطلبات، ندوات فعلية غير مكررة المواضيع. والأهم، أن الجهد المبذول يعكس أيضاً الطموح لما هو أفضل.
في حديث خاص مع رئيس المهرجان حسين فهمي، ذكر قائلاً «رغبتي الأساسية كانت في إطلاق بداية جديدة مختلفة لا تلغي تاريخ المهرجان، بل تستفيد منه. أنا مؤمن جداً بالسينما المصرية وبالطاقة والمواهب الهائلة لعدد كبير من صانعيها، وما أريده من هذا المهرجان هو أن ينقل هذا الطموح وأن يساعد السينما المصرية في بلدها ويساعد السينمات الأخرى على التمتع بفرص نجاح عبر إنتاجات وعروض دائمة».
مشهد من الفيلم السوري «السبّاحتان»
يلتقي ما يقوله مع ما قاله المنتج الأوروبي، ويضيف إليه السعي الجاد لممثل ومنتج وسينمائي لديه خبرة ومعرفة واسعة في شتّى شؤون العمل. هذه المزايا، والمختار من الأفلام داخل المسابقة وخارجها لم تقنع عدداً من الصحافيين والإعلاميين الذين عادةً ما ينقلون نقدهم من رئيس مهرجان إلى آخر. بعض الإدارات السابقة كانت تستحق النقد، لكن المهرجان واجه الانتقاد حتى حين تسلّمته الناقدة ماجدة واصف والناقد سمير فريد، و- لاحقاً - المنتج محمد حفظي. ودائماً قُبيل وخلال انعقاد الدورات، أي وصولها إلى النهايات لكي يتم التقييم الفعلي على أحسن وجه.
الفيلم قبل الأخير
على صعيد الأفلام، استُقبل فيلم رضا الباهي «جزيرة الغفران» استقبالاً جيداً بعد عروضه في المسابقة الرسمية... الكلمة الشائعة هي إنه فيلم يدعو للتسامح بين الأديان عبر العودة إلى أيام ما كان هذا التسامح أمراً واقعياً موجوداً قبل أن تبدأ ولادة تيارات دينية لا تعترف بالآخر.
فيلم رضا الباهي مثل عين مراقِبة تستعين بمفهومها الحاضر لتبخر في الماضي، وحسبما قاله لي «كما تعلم، أنا لست من مواليد جربة، لكن تونس كلها كانت تنعم بعلاقات حسن الجوار. وبعض ما أعرضه في الفيلم موحى إليَّ مما رواه والدي لي».
عن إيحاءات أخرى يقول «حين أنجزت هذا الفيلم كنت أعتقد أنه سيكون آخر أفلامي. لذلك؛ أردت أن أضع فيه ما أستطيع من مشاعري حيال الموضوع وشخصياته. حيال الحياة ذاتها. لكن أقرب أفلامي السابقة إلى هذا الفيلم هو (صندوق عجب) (فيلم بيوغرافي سابق أنجزه قبل عشرين سنة). أشعر بأن أسترجع من الذاكرة الفيلمية العديد مما يرد هنا، وكلا الفيلمين (السابق والحالي) مأخوذ من تجارب شخصية». إلى أن انتهى المخرج من تحقيق هذا الفيلم، كان - وكما ذكر أعلاه - يعتقد إنه سيكون آخر أفلامه. إنه قال أشياء كثيرة من مطلع السبعينات وإلى اليوم. لكن أحد السيناريوهات التي كتبها ولم يستطع تنفيذها واحد وضعه قبل أكثر من ثلاثين سنة وكاد في أحدها أن يُنجز لكن التمويل تراجع في اللحظات الأخيرة.
هو فيلم عن شاحنة تحمل نفايات نووية تبحث عن موقع أفريقي لدفنها فيه «طبعاً تغيّرت الأمور كثيراً ولا تستطيع أن تعود اليوم إلى ما كتبته قبل عقود. لكن الفكرة ما زالت مهمّة وأحداثها حاضرة في يومنا هذا».
معالجة خفيفة لموضوع مهم
بينما مثل «جزيرة الغفران» تونس، مثّل «العايلة» («العائلة) الجزائر. هو فيلم جديد للمخرج مرزاق علوش يحتوي على عودته لسينما بدأ بها بنجاح أفضل هي تلك التي شرّح فيها المجتمع الجزائري من خلال شخصية واحدة تقود هذا النوع من التحقيق.
لكن «العايلة» لا يحمل صفات «عمرو قتلاتو» (أو «عمر قتلته الرجولة». هو دراما خفيفة غير متوازنة الكتابة ولا الهدف. في أحيان يميل إلى الكوميديا وفي أخرى يلتزم بالدراما. يدور حول أزمة عائلة جزائرية تخشى انقلاب الوضع عليها. فالزوج وزير سابق يحمل وزراً من الفساد والحراك الشعبي يطالب الحكومة الجديدة بالتصدّي له ولأمثاله. بين المتظاهرين ابنة الرجل الذي يفرض على العائلة الهرب قبل فوات الأوان للعيش في أوروبا. يعرض المخرج علواش الوضع من خلال المواقف المتباينة، الزوجة لا تريد مغادرة المكان، لكنها تستجيب لطلب زوجها. هذا لا يمنعها من ممارسة سلطتها على رجل الأمن والسائق وكل من يعمل في خدمة الوزير السابق. هي برجوازية التمرّس ولو أن خلفيتها، لحين ارتباطها بزوجها، مختلفة.
يمشي الفيلم على خطى كوميدية إلى ما قبل نهاية الفيلم بنحو عشرين دقيقة. المتابعة تشي سريعاً بأن المخرج لا يود الدخول في تفاصيل الشخصيات (كما فعل في أفلامه خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل). نقده عام والتحديات الفنية محدودة (وأحياناً غير موجودة). معالجة المخرج هنا لا تختلف كثيراً عن معالجات الأفلام التلفزيونية. الإدارة الفنية العامة والإيقاع والتوليف عادي التأثير لأن الفيلم عادي المعالجة كتابة وسرداً.
ما يُثير الإعجاب أمر وحيد تقريباً هو تمثيل حميدة بالحاج التي، رغم سنوات عمرها (تقارب الخمسين) لم يسبق لها أن مثّلت فيلما واحدا من قبل. إعلامية جزائرية أخبرتني أنه فيلمها الأول رغم نحو ثلاثين سنة من التمثيل والإخراج المسرحي.
التحدي الكبير
أفضل منه «السبّاحتان» لسالي إلحسيني. فيلم بيوغرافي عن أحداث حقيقية لشقيقتين تركتا سوريا إلى تركيا ومنها (عبر مركب تتلاعب به الأمواج) إلى اليونان وما بعد. يسرا وسارا مارديني (في الدورين شقيقتان أخريان هما منال ونتالي عيسى) كانتا سعيدتين بالعيش في بلدهما، لكن هذه السعادة انتهت عندما هددهما العنف الدائر. القرار بالهرب من احتمالات الحرب قادهما، وابن عمهما نزار (أحمد مالك) للولوج في مغامرة ليست غريبة اليوم لا عن السمع ولا عن النظر؛ إذ ما زالت الحياة تحفل بمحاولات عرب من بلدان البحر المتوسط البحث عن مواطن أخرى. كون القصّة حقيقية الأحداث يمنح الفيلم بطانة لا بأس بها، خصوصاً أن الفيلم سيسلك الطريق كاملة لتتويج المغامرة في النهاية بذلك النجاح الكبير الذي تحقق لهما بعدما حوّلتا هوايتهما للسباحة إلى احتراف.
في أكثر من شأن، هو فيلم تخرجه البريطانية سالي الحسيني حسب محطات متوقعة. الرحلة ذاتها تحمل الخوف والمخاطر. فيما بعد يمر الفيلم بتلك المراحل التي على الفتاتين التعامل خلالها مع مهربي البشر من حدود إلى أخرى. هذه مرحلة ليست أقل خطورة من الرحلة البحرية. ما ينقذ الفيلم من توليفة معهودة هو حسن إدارة المخرجة لفيلمها وجودة التصوير والصدق البادي في المعالجة والأداء. وهذا الجهد مبذول منذ البداية على نحو ملحوظ مع مشهد يحمل دلالات واضحة عندما تقرر الشقيقتان السباحة إلى جانب المركب لكي لا يتعرض للغرق بسبب عدد من يعتليه.
طبعاً، تقود الحكايات البيوغرافية عادة إلى سرد غير حافل بالمفاجآت، وهذا الفيلم ينتمي إلى هذه الحالة. مع وصول الفتاتين إلى ألمانيا وتدبير أمر حياتهما كلاجئتين بأوراق ثبوتية يصبح لزاماً الانتقال إلى متابعة رغبتهما في الانضمام إلى المباراة الأولمبية للسباحة، وعند هذا الحد ندخل مرحلة من الأحداث مع المدرّب الشكّاك ثم المراقب ثم المتحمس وصولاً لانتزاع النصر الكبير.
ما تلعب عليه المخرجة بنجاح (يتوقف مقداره على كل مشاهد على حدة) هو المسألة العاطفية التي تتضمن إبراز فعل التضحية والتحدي والإيمان بأن المصاعب لا تعني نهاية الرحلة، بل هي مثل الوقود الذي يحتاج إليه المرء لنجاح مهمته.