للفن قدرة هائلة على التوغّل في القطاعات كافة، وهو ما يبدو جلياً لزوار مركز الملك عبد الله المالي «كافد» في الرياض، فمنذ أن تغيب الشمس ويعم الليل؛ تعانق مبانيه وأبراجه الشاهقة التراكيب الفنية المشاركة في احتفالية «نور الرياض 2022»، المقامة حالياً في العاصمة السعودية، بما يجعل الزائر يشعر بحالة وجدانية كثيفة في أثناء تجوّله بين أروقة وممرات المركز المالي، حيث يرفع رأسه تارة لرؤية ناطحات السحاب، ويخفضه تارة أخرى ليتأمل الأعمال الفنية الموزّعة على الأرض، والتي تجعل ليل «كافد» نهاراً مشرقاً بالبهجة والحيوية.
وحيثما يولي الزائر وجهه يجد فناً يستوقفه، في المكان الذي يعد من أبرز الوجهات الرائدة للأعمال وأساليب الحياة الحديثة، فهو مجتمع نابض بالحياة في قلب العاصمة، يمثّل بذلك مدينة داخل مدينة تضم الكثير من المباني الاستثنائية المستوحاة من مزايا الطبيعية المحلية، والتي تعيد صياغة الأفق العمراني للرياض، ليبدو اليوم بحلّة فنية باهية، بالنظر لاختيار «كافد» كأحد المواقع الـ40 لمواقع «نور الرياض».
عمل الياباني تاداشي كواماتا «أعشاش في الرياض»
أفق لا ينتهي
البداية مع عمل فني بأحرف مضيئة، عنوانه «أفق لا ينتهي، حنين إلى المستقبل للحفاظ على الحاضر حياً»، صنعه الفنان جويل أندريانوميريسوا، المولود بمدغشقر عام 1977، خصيصاً لاحتفالية «نور الرياض 2022» باستخدام مصابيح النيون والمعدن، ويتحدث فيه عن الحب والأمل والأحلام، مستخدماً كلماته: علامة، ونور، وقصيدة.
وتستند فلسفة الفنان في هذا العمل إلى أن «الأفق دائماً نصب أعيننا، ولكن الأهم من ذلك أحلامنا، وهنا يكمن مسرح عواطفنا والأهم من ذلك كله، آمالنا”. كما يبدو الضوء هو العنصر الأساسي في هذا العمل ذي الحجم الكبير، بما يسمح للمتلقي بأن يحلم بعوالم أخرى، في أوقات أخرى، حيث يدعو أندريانوميريسوا للتساؤل عبر عمله، حول الزمن، والعواطف والرغبات.
«تحضر الشمس مؤتمر الضوء» لأسعد بدوي
أعشاش في الرياض
الفنان الياباني تاداشي كاواماتا تمكّن هو أيضاً من إثارة فضول المتجولين في «كافد» عبر عمله «أعشاش في الرياض»، الذي يلفت أنظار المارة من الأرض، لتتجه أعينهم نحو مكان مرتفع قام بتعليق الأعشاش فيه بتوظيف الأعمدة الإسمنتية، وتكمن قصة العمل في حالة التناقض ما بين المساكن الصغيرة المصنوعة من ألواح خشب الصنوبر المُجمَّعة وناطحات السحاب المدهشة في الرياض والهندسة المعمارية الحديثة.
ووفق هذه المفارقة يستند كاواماتا في إيجاده للمواد الطبيعية بين المباني التي صنعها الإنسان، ليبدو عمله «أعشاش في الرياض» أشبه بتذكير بالحاجة إلى التفكير والسكن في المدن الحديثة بطريقة جماعية وبيئية. الأمر الذي ينسجم مع نهج الفنان الذي يشتهر بأعماله التي يصممها في الموقع، ويعمل على تجميعها من بين عدة أشياء من الألواح الخشبية والكراسي والبراميل، ليقدم من خلالها نظرة أخرى مختلفة عن الأشياء، في إطار ذهني يدعو الجمهور إلى إعادة النظر حول ما يحيط به.
الياردانغ
تُعرف «الياردانغ» بأنها كتل صخرية تكونت وتشكلت بسبب عوامل التعرية بفعل الرياح في البيئة الصحراوية، وهو ما بدا عليه شكل العمل الفني الذي حمل ذات الاسم، ويتوسط موقعاً مهماً في «كافد»، بوزن يقدَّر بـ3 أطنان، وهذا العمل عبارة عن نحت تجريدي مكون من قوالب عاكسة للمناظر من حوله تظهر كأنها صورة داخل صورة، بتكرار لامتناهٍ من الانعكاسات.
استلهم الفنان الفرنسي جان ميشيل أوتونيل فكرة عمله هذا من الأشكال العشوائية المتفرقة الموجودة في الصحراء. والعمل الذي شد الكثير من الزوار لالتقاط الصور معه؛ لا يبرز فقط اهتمام الفنان بالهندسة المعمارية، بل أيضاً يُشكل مناظر بلورية كالمرآة عملاقة الحجم التي تعكس المباني من حولها مئات المرات وتعيد بناء هذه المناظر بأشكال متعددة.
تحضر الشمس
عندما نعرف تفسير ظاهرة اختفاء الشمس في الأفق كل يوم وأن الأرض تتحرك حول الشمس، يختفي فينا شعور الدهشة والذهول، فيصبح الأمر مسلَّماً به وننسى كيف أن هذا المشهد يعد لغزاً كبيراً بالنسبة للطفل، الذي لا يسعه إلا أن يفترض أنها قد غرقت في البحر. ووفق هذه الرؤية يستند الفنان أسعد بدوي في عمله «تحضر الشمس مؤتمر الضوء»، الذي يتوسط مساحة عشبية في «كافد».
يقدم هذا العمل ذو الشكل الكروي قراءة لنظرة الطفل تجاه الحركة الكوكبية، باستخدام أشكال من الألياف الزجاجية ذات الألوان الزاهية. ويمثل العمل الأرض كقبة زرقاء مدرجة اللون، والشمس ككرة صفراء مضيئة. كما يخلق العمل محاكاة ساكنة لرحلة الشمس إلى جانب مواقعها «الظاهرة» و«الحقيقية».
وكلما اقترب الزوار من المنحوتة للنظر من خلال فتحة برتقالية موجودة على الجانب، وأصبحوا قادرين على التحديق من خلال الفتحة، تعكس لهم مرآة بالداخل شكل الكرة الصفراء، فيرون الشمس من أعماق هذه الفتحة. وهذا المشهد غير المتوقَّع للشمس هو تجربة حسّية تتحدى حقائق مرحلة البلوغ، وتثير ذكريات الطفولة وتجلبها لدى المتلقي بشكل عميق.