ثمة اعتقاد راسخ لدى طيف واسع من المؤرخين والباحثين بأن الحملة الفرنسية على مصر تعد بداية نهضة الفكر المصري الحديث. لكن الباحث والمؤرخ د.أحمد زكريا الشلق في كتابه «من النهضة إلى الاستنارة» يختلف مع هذا الاعتقاد ويؤكد أن مصر خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر لم تكن في حالة انحطاط ثقافي ولم تعانِ فراغا ثقافيا وعلميا كبيرين إلى أن جاء الغزو الفرنسي عام 1798 ليملأ هذا الفراغ بالعلم الحديث. وانتقد أولئك الذين يتخذون من ذلك التاريخ بداية لتحديث مصر معتبرا أنهم لم ينتبهوا إلى أن البلاد تميزت قبل الغزو الفرنسي بثقافة حية كانت كفيلة بأن تجعلها إذا سارت في نموها الطبيعي قادرة على إنجاز عملية التحديث بنفسها.
ويرى المؤلف أنه يكفي القراءة الواعية لكتابات الشيخ «حسن العطار» التي كانت تصب في اتجاه التحديث وكتابات عدد من أترابه ومعاصريه من المصريين وهو ما لم يحفل به أحد على نحو جاد. وانتهى إلى نتيجة عكسية مؤداها أن حملة الغزو الفرنسي قد أضرت بالطبقة الوسطى المصرية وبالثقافة العقلانية التي كانت تفرزها وخلص إلى ضرورة مراجعة هذه المقولة الشائعة عن الفرنسيين ودورهم في تحديث مصر.
وتأكيدا لأطروحته، يؤكد «الشلق» في كتابه، الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة، أن المجتمعات يمكن أن تتطور وفق سياق تاريخي مختلف عن نظيره الغربي وأن لكل ثقافة حداثتها الذاتية، وأنه يجب مراجعة استنتاجات المستشرقين وتهافتها في دراساتهم عن مصر وعن مدى تطورها. ومن ثم يجب دراسة الثقافة الوطنية العربية الإسلامية التي تنطوي على مقومات هذا التطور الذي أعاق قدوم الغرب مجراه.
وتساءل المؤلف: من أين استطاع الاقتصاد المصري في مطلع القرن التاسع عشر أن يوفر كل تلك الموارد إذا كان اقتصادا راكدا؟ وكيف تجاوب المجتمع مع إصلاحاته إذ كان مجتمعا يفتقد القابلية للتطور؟ وكيف استطاع الفتية الذين تعلموا في ظل النظام الأزهري التقليدي أن يتجاوبوا مع التعليم الحديث ويتابعوا الدراسة في المعاهد والكليات الأوروبية إذا كانوا نتاج تعليم متخلف عاجز؟
في هذا السياق، يتضح أن «حسن العطار» الذي ولد قبل مجيء الغزو الفرنسي بنحو 30 عاماً كان من دعاة الاجتهاد وقد ارتبط ذلك باهتمامه بالعلوم العقلية منذ تفتح وعيه وصار له إنتاج فكري، ثم ازداد وضوحا مع دراسته في فترة وجوده في إسطنبول خاصةً عندما درس الطب والعلوم والمنطق وأدب البحث على نطاق واسع وظهر أثر ذلك فيما كتبه وما ألفه في أصول الدين فاتسمت كتاباته بنظرة متفتحة ولغة جديدة وبدا هذا واضحا عندما عاد إلى مصر عام 1815 وطفق يدرس كتاب «الطوالع» للبيضاوي وما كتبه تلميذه «الإيجي» في علم الكلام فكان واضحا أن العطار يقدم فكرا جديدا يحفل بالتحليل والمنطق أكثر من اهتمامه بحشد المعلومات وتراكمها فضلا عن أنه عمل على تحديد المصطلحات الرئيسية في مذهبه الذي يعتبر الاجتهاد فرضاً على المؤمن.
وظهرت تحليلات العطار في حاشيته على كتاب «جمع الجوامع» في أصول الفقه وكانت اجتهاداته تنطوي على نظرية نقدية لتراث القرن الثامن عشر وما قبله وكان ذلك في حد ذاته يمثل جرأة غير معهودة في زمنه.
ويذكر المؤلف أن كتابات العطار تقع في قلب التراث العقلاني لمصر في القرن التاسع عشر فقد شارك في الصحوة التي شهدها علم المنطق خلال فترة الإصلاح في ذلك الوقت. والمعروف أنه كتب ثلاثة أعمال وعدداً من المقالات في المنطق، ورغم النقد الذي وجه إلى كتاباته في هذا المجال فإنه عبر عن اقتناعه بأن المنطق ليس علما دينيا وليس أيضاً من الفلسفة. كما عالج تراث علم الكلام وقضاياه استنادا إلى العقل وكان يفعل ذلك داخل حدود الشريعة. وقد خلقت حاشية العطار على «شرح التهذيب» للخبيصي صيتا ذائعا له في مصر وخارجها وصارت جزءا من منهج التعليم العالي شأنها شأن حاشيته على «شرح الأزهرية» في النحو.
دراسة تاريخية: نهضة الفكر المصري سبقت «حملة بونابرت»
دراسة تاريخية: نهضة الفكر المصري سبقت «حملة بونابرت»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة