سطح «الترفيه» العميق

السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية  (الشرق الأوسط)
السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية (الشرق الأوسط)
TT

سطح «الترفيه» العميق

السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية  (الشرق الأوسط)
السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية (الشرق الأوسط)

الكتابة عن «الترفيه» متعة في حد ذاتها، خاصة أن عبقرية اللغة العربية تقود الأفكار بسلاسة.
المصدر «رفه» في معاجم اللغة، يشير إلى الإمتاع والتسلية واللعب والتنفيس والاستجمام والراحة والرفاهية، ويتجلى في العديد من الأنشطة التي يمارسها الإنسان – والجماعة - بكامل إرادته، في الزمان والمكان المناسبين، ويتحدى الملل والرتابة وضغوط الحياة؛ حتى يستعيد لياقته الذهنية والوجدانية والجسدية.
هذه المعاني والدلالات قلما نجدها «مجتمعة» في لغة أخرى غير لغة الضاد، التي تشير بوضوح إلى أننا كبشر نستحق «الترفيه»، أو قل: أن ننعم «بحق التمتع»، ومن ثم فإنها تأخذ «الترفيه» على محمل «الجد»، وهي أحدث صيحة في العالم اليوم.

(1)
ارتبط الترفيه باللعب منذ البداية، حيث ظهر تعبير «الإنسان اللاعب» في مقابل الإنسان العاقل، مع المؤرخ والفيلسوف الهولندي يوهان هويزنجا في دراساته المختلفة: اللعب هو «مركز» الحضارة، ويسبق الثقافة ويشكل أساسها، ولا يفارق الطفل داخلنا مهما تقدم بنا العمر، ففي اللعب تكمن حرية الإنسان وقدراته ومتعته أيضاً.
تتبع هويزنجا في كتابه «الإنسان اللاعب» – صدر عام 1949 - هذه الظاهرة بدءاً من أفلاطون وحتى أوائل العالم الحديث، بينما كشف نيتشه في كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، أن هيرقليطس هو أول من ربط بين «اللعب» و«الفن» و«الترفيه» و«الحياة»، فقد فهم الوجود والعالم باعتباره ظاهرة جمالية محورها «اللعب»، وكما يلعب الطفل ويبدع أشكالاً من الرمال على شاطئ البحر، يلعب الرسام بالألوان والنحات مع الحجر.
أهمية هيرقليطس – كما يقول نيتشه – في كونه لم يسقط في شباك اللغة، على عكس من جاء بعده من الفلاسفة؛ لأنه قال في براءة ما رآه ببساطة: في «لعبة المصارعة اليونانية»، يكمن «سر» تفسير «الصراع» في الطبيعة، وفي لعبة الديمقراطية السياسية أيضاً.
هذه الشذرة العبقرية تعيش معنا إلى اليوم، ومن السهل أن نتعرف على «نظام الفكر» في أي عصر من العصور من خلال اللعب (الألعاب) الأكثر شيوعاً. وحديثاً كشف لنا بسكال بونيفاس عن الوشائج بين كرة القدم والعولمة، التي وحّدت الأذواق في العالم وحافظت في الوقت نفسه على الهويات الوطنية، فقد انتشرت في أركان العالم الأربع أكثر من شبكة الإنترنت، ناهيك عن أن قرارات منظمة «فيفا» أكثر احتراماً وإلزاماً للدول من قرارات هيئة الأمم المتحدة!

(2)
الألعاب الرقمية لا تقل جاذبية ومتعة عن الألعاب التقليدية. وخلال ثلاثة عقود اكتسبت أهمية متزايدة بفضل التطورات المذهلة للكومبيوتر الذي تفوق على الاختراعات الأخرى بالقدرة على معالجة أي شيء يمكن رقمنته، من الحروف والأرقام وحتى الأصوات والصور، وما يستجد.
وبفضل هذه الثورة الرقمية تغلغل الترفيه في كل مسام حياتنا تقريباً، من شبكات التواصل عبر الإنترنت إلى الملاهي ومن وسائل الإعلام والاتصال، إلى الميادين والشوارع والمتاجر (والمدن الحضارية الذكية) والمتنزهات العامة وقاعات الأفراح والفنادق والسفن العائمة العملاقة (كروز)، ناهيك عن أنه ألغى «الحدود» بين الفنون المختلفة والأعمال التي تشبه الفنون، والثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة، وأزال الفوارق بين الواقع الأصلي والواقع الافتراضي، وصار «ساحة ألعاب كبيرة» محببة للناس، ناهيك عن أن الترفيه أصبح أهم «سلعة» جاذبة لأكبر عدد من المستهلكين حول العالم، استثمارات وأرباح بالمليارات سنوياً.
لقد أعاد بناء وظيفة الواقع نفسه، ووجدنا في فن «العمارة الترفيهية» على سبيل المثال، مكان واحد تتزاحم فيه: عجائب الدنيا السبع مع القلاع والقصور والكاتدرائيات والمساجد والمعابد (المنتشرة في دول العالم المختلفة).
وصارت الأماكن التي تجسد المستقبل وتلضم في خيط واحد ما هو تاريخي وفني، افتراضي وواقعي، ومادي وغير مادي، هي الأكثر إمتاعاً وجاذبية عند الجمهور.
أضف إلى ذلك، أن «المفاهيم الحديثة»، لا تمتحن مصداقيتها إلا عبر مجالات «الترفيه»، مثل، «الحوسبة في كل مكان» – إنترنت الأشياء، «الواقع المعزز» - اندماج الواقعي والافتراضي، و«الميتافيرس» كما صاغه نيل ستيفنسون في روايته الشهيرة «تحطم الثلج» عام 1992.

(3)
أحد المعاني الذهبية لكلمة «الترفيه»: «تجاوز» الروتين والرتابة والملل في الواقع الحقيقي؛ لذا سعى صناع الترفيه إلى توظيف نظام «ترانسميديوم» والألعاب الرقمية والواقع المعزز وغيره، ليس بغرض «تلطيف الواقع وتوسيع مجاله» فقط، وإنما من أجل الرغبة في تجربة «عوالم أخرى بديلة» غير «الحياة اليومية المعتادة» للفرد، بل والانغماس والتفاعل الإنساني الكامل مع هذه العوالم غير المسبوقة.
لم يعد الترفيه اليوم متعة سلبية يمارسها الإنسان عبر الفرجة خلف شاشة للعرض أو لوح زجاجي أو حتى في قاعة للمسرح أو السيرك فقط، وإنما ممارسة تفاعلية يشعر فيها بالمغامرة في الأجواء الطبيعية وربما «المخاطرة» مع انسحاب الجاذبية الأرضية تحت قدميه أو مقاومة جسده للضغط الجوي، سواء في الفضاء الخارجي أو في أعماق المحيطات.
إنها حالة مغايرة وواقع مختلف يتماهى فيه ما هو حقيقي وما هو افتراضي؛ ما جعل من الترفيه المعاصر (يوتوبيا رقمية – وربما ما بعد رقمية - لم تعهدها الحداثة).
فقد أدى انحصار اليوتوبيا في أماكن خيالية لا يمكن وطئها بالأقدام، وإخفاقها في الوقت نفسه عن أن تتحقق «هنا» و«الآن»، إلى وصول اليوتوبيا التي شيدتها «الحداثة» إلى نهايتها.
وصار الترفيه أشبه بـ«حصان طروادة» المستقبل، وأعاد «اختراع مفهوم الجغرافيا» وهو «حدث» في حد ذاته، لا يقل أهمية عن الكشوف الجغرافية قبل أكثر من 500 سنة.
التطور «ما بعد الحداثي» يعني أننا تجاوزنا «الأماكن الواقعية» الخالصة، وأصبحنا نعيش ما يسميه ديفيد تشالمرز «الواقع» وهو عنوان كتابه الجديد 2022.
في المقابل، ظهرت – بالتزامن والتوازي - انتقادات عديدة لهذا الدمج بين «ما هو واقعي» و«ما هو افتراضي»، من قبل فلاسفة كبار، مثل امبرتو إيكو الذي رأى أن هذه «الواقعية المفرطة»، حسب تعبيره - ستكون «أكثر واقعية من الواقع» وهي «الزيف المطلق».
ووصف جان بودريار ما نحياه بـ«المحاكاة» و«السيمولاكر»، حيث لم يعد هناك أي واقع حقيقي، وإنما «ديستوبيا» (على العكس تماماً من «اليوتوبيا» التي يعدنا بها البعض).
الطريف، أن هذه الانتقادات وغيرها مع ميشيل فوكو وآلان تورين وفريدريك جيمسون وكتيبة الماركسيين لم تنصب على الترفيه أو المتعة في حد ذاتها، وإنما نظرت إلى ما حدث ويحدث، من زاوية العناصر الرأسمالية والليبرالية الجديدة والنزعة الاستهلاكية لا من زاوية «الحتمية التكنولوجية».

(4)
«تعزيز الوعي الإنساني» ونشر النموذج الغربي وتعميمه من خلال «الترفيه»، تسبب أيضاً في «قلق» بعض الدول، لا سيما أن العالم يزداد ترابطاً وانكماشاً في آن معاً، وبات النقل الثقافي الأفقي، أشبه بالفيروس أو «العدوى»، التي تنتشر في لحظة عبر الميديا والإنترنت!
بعض الدول قامت بعملية «فرز» لمجالات الترفيه مثل سنغافورة، حيث قام فريق من الباحثين بمحاولة دمج «الترفيه» والفلسفة، عبر تصميم فلاسفة افتراضيين تفاعليين**؛ ما جعل نصوص الفلسفة التقليدية أكثر ملاءمة للإنسان المعاصر الذي يمتلك مستوى أعلى من المعرفة الرقمية. وأدى التفاعل المباشر بين الجمهور والفلاسفة عبر العصور، باستخدام تقنية الذكاء الصناعي والهاتف المحمول، إلى ازاحة صعوبة الفلسفة لتصبح نشاطاً ترفيهياً ممتعاً. اللافت في هذه المحاولة: أن الفلسفة ليست مثل الفيزياء أو الرياضيات، تملك إجابات محددة ودقيقة لكل تساؤلات المستخدمين، وهنا تجلت براعة الفريق السنغافوري.
على النقيض، أثار انتشار «تلفزيون الواقع» ومحتواه الليبرالي الغربي في الصين منذ عام 2015 - أعلى نسب مشاهدة حالياً - مخاوف السلطات؛ نظراً لتعارض ما يقدمه، سواء في الشكل أو المضمون مع التقاليد الشرقية وقيم النظام الاشتراكي. لذا؛ خضعت منصات «الترفيه» الصينية للرقابة بالتزامن مع تنامي النزعة القومية داخل المجتمع الصيني.
على الضفة الأخرى، نشط بعض الباحثين في الغرب لرصد وقياس مدى تأثير «المحتوى الليبرالي» على علاقات القوى في الوضعين السياسي والاجتماعي الصينيَين، من خلال تحليل: التفاعلات والانفعالات والمشاعر بين الجمهور والمتسابقين والمشاهير.
لقد جرت مياه كثيرة ما بين رواية نيل ستيفنسون «تحطم الثلج» عام 1992، وكتاب ديفيد تشالمرز «الواقع» عام 2022، وأصبح التنافس والصراع على أشده في تطوير مجالات الترفيه - لا سيما تطبيقات «ميتافيرس» - بين شركات التكنولوجيا الرقمية في العالم.
لم تعد «الأفكار» قاصرة على المتعة داخل كوكب الأرض، وإنما امتدت إلى الكواكب الأخرى التي يمكن أن تصل الحياة إليها، فهل يقودنا «الترفيه» إلى مغامرة يوتوبية كونية جديدة؟

* باحث مصري
**https://dl.ifip.org/db/conf/iwec/icec2012/WangTSIN12.pdf



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي