ماريا عريضة تستحضر الفرح والنور في عز العتمة

بريشة ملونة حولتها إلى مجهر يبرز تفاصيل لوحاتها

معرض ماريا عريضة في غاليري «ميشين آرت»
معرض ماريا عريضة في غاليري «ميشين آرت»
TT
20

ماريا عريضة تستحضر الفرح والنور في عز العتمة

معرض ماريا عريضة في غاليري «ميشين آرت»
معرض ماريا عريضة في غاليري «ميشين آرت»

تأتي المعارض التشكيلية التي تشهدها بيروت في الفترة الأخيرة بمثابة رحلات سفر مختلفة. فالزوار يقصدونها من دون تردد كي يتخلصوا من ندبات انفجارات وأزمات تسكنهم، فيهربون معها إلى فسحات مضيئة ومساحات تنبض بالأمل.
مع معرض ماريا عريضة في غاليري «ميشن آرت» (Mission Art) في منطقة مار مخايل تعيش تجربة فنية ممتعة. فما أن تطأ قدماك أرض الحدث حتى تشعر وكأنك انتقلت من عالم إلى آخر. فالعتمة المخيمة على شوارع بيروت تصبح من الماضي، بعد أن تبهرك لوحات عريضة بألوانها الزاهية والجريئة. وبنظرة أولية تجول بها على اللوحات المعروضة تسرقك تلك الضخمة منها التي تزودك بالإيجابية وبفسحة من الرجاء. بعدها تتعرف إلى ماريا عريضة لتتفاجأ بشخصيتها المستقلة التي تعبر عنها بريشة حرة. تسألها «الشرق الأوسط» عن أسباب نشرها كل هذا الفرح في ظل واقع أسود وترد: «هذا لا يعني بأني لا آبه بما يجري اليوم في بلدي أو بما يعانيه الناس. كما أني لا أهرب من واقع سيئ، لكني أحاول تجميله على طريقتي. فأنقل كل ما تلتقطه عيني من جمال طبيعة وأخلده في لوحاتي ليس أكثر».
ورود وزهور وحبات ثمر استوائية ملونة وتخيلات سوريالية ترسمها ماريا بريشة حولتها إلى مجهر، يراها مشاهدها عن قرب وهي تتفتح براعمها أو كباقات مغمورة، فتسرقه من حالة الوعي التي يعيشها إلى ذروة جمالية تشبه الجنة.
تقول ماريا إن الجمال الذي تراه هنا وهناك لا تنقله كما تلتقطه العين المجردة أبداً بل من خلال أحاسيس تجتاحها. وتوضح: «حبات العنب هذه التي ترينها هنا بأحجام كبيرة أتخيلها هكذا مكتنزة ومليئة بعصير العنب العذب. فتفتح شهيتي على تطويرها وتلوينها بأسلوبي».

ترسم ماريا عريضة لوحاتها لتبدو وكأنها تحت المجهر (الشرق الأوسط)

العنب كما الورود والزهور والطبيعة، تعني الحياة بكل تفاصيلها. هكذا تشرح عريضة مشهدية لوحاتها العابقة بالألوان. «الألوان تستهويني كثيراً حتى عندما أقوم بالتسوق تلفتني الأزياء أو الإكسسوارات ذات الألوان الفاقعة. بعدها أدرك أن هذه الحقيبة أو ذلك القميص قد لا أستطيع ارتداءهما لأنهما لا يتناسبان مع أزيائي اليومية. فالألوان تجذبني لا إرادياً، وهو أمر يسكنني ويشعرني بالفرح».
لا تستطيع الرسامة اللبنانية تفسير سبب تكبيرها أحجام رسومها وكأنها تدور تحت عدسة مجهر. وتعلق: «هو أمر أستسيغه ويسليني فكلما رأينا الأشياء عن قرب اكتشفنا تفاصيل صغيرة نجهلها. هذا يغذي شغفي بالرسم، بدءاً من الأحجام الكبيرة والغريبة، وهو ما يبني هذه الخصوصية في أعمالي».
تلوم ماريا نفسها مرات كثيرة لاعتمادها لوحات من أحجام كبيرة، لأن بيوت اللبنانيين أصغر من أن تستوعبها. لذلك تعيد اليوم حساباتها انطلاقاً من هذا الأمر. «أعتقد أنه بات عليّ اليوم التفكير بطريقة اقتصادية أكثر».
لا تنكر تأثرها بلبنان من نواحٍ كثيرة، تقول إن كل شيء يصادفها يترك انطباعاً معيناً عندها. فكما بسطات الخضار والفواكه في الأسواق، كذلك فإن طبيعة لبنان الخلابة في الجبل وعلى الساحل تلفتها. «إنها تدفعني إلى التقاط صور فوتوغرافية لها. لوحتي هنا التي سميتها (زهور من قريتي) كان والدي قد زرعها منذ زمن. وهي بقيت شاهداً من أثره حتى بعد رحيله متزينة بألوان تنبض بالحياة تماماً كالألوان التي استخدمتها باللوحة. فهذه أيضاً واحدة من الأشياء التي رغبت في تخليدها».
تتجول في أقسام المعرض لتستوقفك مجموعة لوحات منمنمة وصغيرة وأخرى تجريدية تميل إلى الغموض. يتراءى لناظرها بأنها تمثل شخصيات لا يمكن تحديدها. وتوضح لـ«الشرق الأوسط»: «أحببت كسر مبدأ الأحجام وعملية تحديدها، هي لوحات استوحيتها من فن الخمسينات في أميركا ومن فنانين اشتهروا بالفن التجريدي، فرحت صوب دروب ومناطق فنية مجهولة، وهو أمر زودني بالحيوية وبلذة اكتشاف الغموض».

لوحة «زهور قريتي» تخلد فيها عريضة ذكرى والدها الراحل (من الغاليري)

أما لوحاتها الصغيرة، فهي كناية عن مسودات انطلقت منها لوضع بنية لوحاتها الأساسية. «أحب أن أصورها على الورق قبل البدء بها على القماش. ومن هناك تبدأ رحلتي الحقيقية مع اللوحة. فريشتي كما أي شيء آخر، بمتناول يدي، يخدمني في التعبير، لا أتوانى عن استخدامه».
تتنقل ريشة ماريا عريضة على لوحاتها ضمن آفاق واسعة وكأنها تطير مرات أو ترقص وتغني. فخطوط لوحاتها تبدو كنوتات موسيقية تعزفها بريشتها غير آبهة بالأشكال. تولد بعفوية من حبر الأكريليك وبلمسات الزيت اللماعة والباستيل و«الميكسد ميديا» الذين يؤلفون مجتمعين تقنيتها بالرسم.
ومع «باقة الورد» و«الفاوانيا الوردي» و«فاكهة الجنة» و«حديث مع العصافير» أسماء بعض لوحاتها، تغادر معرض ماريا عريضة على مضض. فتتمنى لو كان الواقع في الحقيقة زهرياً وزاهياً تماماً، كما تصوره بريشتها.



مصطفى الرزاز يستحضر الذكريات والفولكلور المصري عبر «رزق البحر»

جانب من معرض «رزق البحر» يُظهر مجموعة أعمال (إدارة الغاليري)
جانب من معرض «رزق البحر» يُظهر مجموعة أعمال (إدارة الغاليري)
TT
20

مصطفى الرزاز يستحضر الذكريات والفولكلور المصري عبر «رزق البحر»

جانب من معرض «رزق البحر» يُظهر مجموعة أعمال (إدارة الغاليري)
جانب من معرض «رزق البحر» يُظهر مجموعة أعمال (إدارة الغاليري)

استحضر الفنان المصري مصطفى الرزاز عناصر ورموزاً من الأساطير والفولكلور الشعبي المصري، واستدعى مَشاهد وذكريات مرَّ بها لسنوات طويلة، ثم مزج ذلك كله بفرشاته وخطوطه وخاماته المختلفة على مسطح أعماله؛ ليقدم مجموعة جديدة من اللوحات، والمنحوتات تنبض بالحياة، وتدعو إلى الاستمتاع بها.

في معرضه «رزق البحر» المُقام في «قاعة الزمالك للفن»، يترك الرزاز للمتلقي الفرصة للانغماس مع عالمه الذي جسَّده في أعماله، متنقلاً ما بين البحر والصيد والمرأة والأسماك؛ وخلال ذلك تتشبَّع عين الزائر بجماليات أعماله، ويتزوَّد وجدانه بدفء حكاياته.

الصياد وشِباك السمك (إدارة الغاليري)
الصياد وشِباك السمك (إدارة الغاليري)

يضمّ المعرض نحو 60 لوحة كبيرة، و64 لوحة صغيرة، فضلاً عن 45 قطعة نحتية، تتميّز بأنَّ «البطولة المطلقة» فيها للأسماك في المقام الأول؛ فهي ليست مجرّد عنصر رمزي، أو مفردة من البيئة تزدان بها الأعمال، لكنها ذات حضور طاغٍ، فتلتقيها على مسطّح اللوحات محمولة بعناية بين الأيدي، أو عروس للبحر، أو في صورة فرس البحر الذي يبدو صديقاً حميماً للإنسان، ورمزاً لحمايته، كما جاء في الحضارة المصرية القديمة، وغير ذلك من مَشاهد تُعزّز مكانتها.

عمل نحتي برونزي يُبرز احتفاء الإنسان بالسمك (إدارة الغاليري)
عمل نحتي برونزي يُبرز احتفاء الإنسان بالسمك (إدارة الغاليري)

اللافت أنَّ الفنان لم يتخلَّ عن احتفائه بعناصر العصفورة والهدهد والنبات في أعماله؛ في رمز للسلام والنماء، والتماهي مع البيئة المصرية. وبدا واضحاً أنّ لإقامته طويلاً في حي المنيل المطلّ على النيل بالقاهرة بالغ الأثر في أعماله بالمعرض؛ فقد قدَّم مَشاهد حياتية يومية عن قرب لمناظر الصيد والمراكب. يقول الفنان لـ«الشرق الأوسط»: «عندما تُشرق الشمس في صباح كل يوم، أحبُّ النظر إلى نهر النيل حيث جمال المنظر والحضارة والتاريخ».

ومن أكثر المَشاهد التي استوقفته في الصباح الباكر، حركة المراكب والاستعداد للصيد. لذلك استخدم «النظارة المُعظمة» ليتأمّلها عن قرب، فإذا به يكتشف أنَّ مَن يقُمن بالصيد في هذه المنطقة نساء.

لوحة المرأة الفلسطينية ترمز إلى نضال غزة (إدارة الغاليري)
لوحة المرأة الفلسطينية ترمز إلى نضال غزة (إدارة الغاليري)

يواصل الفنان المصري حديثه: «وجدتُ أنهن قبل الصيد يُحضّرن الفطور، ويتناولنه مع أطفالهن وجاراتهن بشكل جماعي يومياً قبل التوجه إلى العمل».

أثار ذلك اهتمام الرزاز، فتوجَّه إلى نقطة تجمعهن، والتقى معهن، ومن خلال حديثه معهن، اكتشف أنّ الرجال لا يشاركونهن الصيد في هذا المكان؛ فيقتصر الأمر عليهن لانشغال أزواجهن بالعمل في مجالات أخرى.

كما اكتشف الفنان أنّ المراكب التي يخرجن للصيد بها هي بيوتهن الدائمة؛ حيث يقمن بها، ولا مكان آخر يؤوي هذه الأسر.

«عروس البحر»... حلم قد يراود الصياد (إدارة الغاليري)
«عروس البحر»... حلم قد يراود الصياد (إدارة الغاليري)

استهوته هذه الحكايات الإنسانية، وفجَّرت داخله الرغبة في تجسيد هذا العالم بفرشاته. يقول: «كانت تجربة غنية ومفيدة جداً بالنسبة إليّ؛ مثلت منبعاً للإلهام. من هنا جاء اهتمامي بتناول البحر والأسماك والصيد في عدد من معارضي؛ منها هذا المعرض الجديد، ولا أعني هنا البحر والصيد فيه وحده، إنما نهر النيل كذلك؛ إذ إنَّ كلمة البحر في اللغة المصرية الدارجة تشير إليهما معاً».

واتخذ الرزاز قراراً بتخصيص المعرض كله للصيد، من دون الاقتصار على تجربة الصيادات الإنسانية؛ فثمة قصص أخرى للصيد في الوجه القبلي، وفي المناطق الساحلية حيث يقتصر الصيد على الرجال.

من أعمال الفنان في المعرض (إدارة الغاليري)
من أعمال الفنان في المعرض (إدارة الغاليري)

ويتابع: «سافرت إلى الإسكندرية (شمال مصر) وشاركتهم رحلة للصيد، وتأثّرت جداً بعملهم، فتشرَّبت تفاصيل حياتهم، وطريقة عملهم، وصوَّرتهم فوتوغرافياً، إلا أنني تركتها جانباً، ورسمت التكوينات من خيالي، حتى تختلف عن الرؤية المباشرة أو التسجيل».

لقطة من معرض «رزق البحر» (إدارة الغاليري)
لقطة من معرض «رزق البحر» (إدارة الغاليري)

ويرى الرزاز أنه عندما يرسم الفنان الواقع كما هو، يُفقده جمالياته وحرّيته في التعبير. لكن لماذا يمثّل البحر والصيد كل هذا الاهتمام من جانب الدكتور مصطفى الرزاز؟ يجيب: «البحر بالمفهوم الذي أشرت إليه هو نصف الدنيا، وهو مختلف تماماً عن اليابسة، وأكثر غموضاً، وسحراً، بالإضافة إلى اختلاف الكائنات التي تعيش فيه عن الأرض».

ويؤكد الفنان المصري أنّ «لمهنة الصيد خصوصيتها؛ ونموذج حقيقي لسعي الإنسان؛ فالصياد يتوجَّه إلى البحر على وجه الكريم، من دون أن يحظى براتب، ولا يمكن أن يعرف حجم أرباحه التي سيجنيها، ويرمي نفسه في البحر طوال النهار، وربما لأيام، وقد يعود بما يرضيه، وقد لا يرجع بشيء على الإطلاق».

علاقة الإنسان بالبحر تشغل الفنان (إدارة الغاليري)
علاقة الإنسان بالبحر تشغل الفنان (إدارة الغاليري)

ومن هنا، فإن حلم الصياد أن يجني سمكة ضخمة، أو سمكة تُكلّمه، أو تكون في صورة امرأة جميلة، أو داخلها «خاتم سليمان) يحقّق له كل ما يتمناه. لذلك أيضاً، كان للسمك نصيب كبير في الأساطير والحكايات الشعبية؛ فكانت هناك «أم الشعور»، و«عروسة البحر»، وغيرهما مما يُعدّ فانتازيا علاقة الإنسان بالسمك، وفق الرزاز الذي يرى أن هذه العلاقة هي مصدر إلهام للفنان، ومنبع حكايات تحفّز أي شخص على الانطلاق والسعي في الحياة.

الفنان لم يتخلَّ عن احتفائه بالمرأة والعصفورة رمزاً للجمال والسلام (إدارة الغاليري)
الفنان لم يتخلَّ عن احتفائه بالمرأة والعصفورة رمزاً للجمال والسلام (إدارة الغاليري)

وربما لم تُنافس الأسماك في أعمال المعرض -المستمر حتى 15 مارس (آذار) الحالي- سوى المرأة الجميلة بعيونها الواسعة وملابسها المزدانة بالموتيفات والنقوش الشعبية؛ انعكاساً لاهتمام الفنان بمكانتها والفولكلور المصري في أعماله من جهة، ومن جهة أخرى تعبيراً عن قوة الوطن.

فتأتي على سبيل المثال لوحة المرأة الفلسطينية التي تطلّ علينا بزيها التقليدي، حاملة صينية الأسماك الطازجة فوق رأسها، كأنها جاءت للتوّ من رحلة للصيد، تضامناً مع أهل غزة. يقول الرزاز: «يرمز هذا العمل إلى أنّ أهل القطاع المعروفين بالصيد سيستمرّون في مهنتهم، وسيبقون في مدينتهم، ولن يستطع أحد أن يغيّر شيئاً من هذا الواقع».