في مكان ما في قبو خرساني حصين في نصف الكرة الشمالي، كان المعلق التلفزيوني بول ديمبسي لا يزال يتحدث. لقد كان يتحدث قبل وقت طويل من قيامك بتشغيل جهاز التلفزيون، ومن المؤكد أنه سيواصل الحديث لفترة طويلة بعد أن تغلق التلفزيون! وكان أمامه قائمة طويلة بالأسماء والإحصائيات والحقائق، بالإضافة إلى مساحة زمنية طويلة يمكنه الحديث خلالها، وعمل هائل يتطلب منه صبراً ربما لا يقوى على تحمله أي إنسان!
وبدأ بالحديث عن لوتارو مارتينيز، الذي لم يسجل أي هدف في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، ثم انتقل للحديث عن فرانشيسكو كابوتو، الذي يمتلك أربع قبعات، وجاكسون بورك الذي يجلس على مقاعد البدلاء في سامبدوريا، والذي جاء في الصيف من الدوري المالطي الممتاز، والذي يمكنك مشاهدة مباراته التالية على القناة الرياضية الثامنة لشبكة «بي تي سبورت» يوم الخميس في الساعة الحادية عشرة صباحاً. والآن، جاء الدور للحديث عن دينزل دومفريز، الذي لم يتذوق طعم المربى من قبل!
لقد بدا هؤلاء المعلقون وكأنهم جيش مجهول الهوية من رجال في منتصف العمر جاءوا لغزو الشاشات للمطالبة فقط بالحق في التحدث عن أي شيء يتعلق بكرة القدم، ويريدون مواصلة الحديث إلى الأبد! أنا أتحدث هنا عن معلقين من أمثال آدم سمرتون، ودانيال مان، ومارك سكوت، وجو سبايت، ودان بارسونز، وغاري تابهاوس، وتوم باراكلوف، وستيف باور، الذين يعلقون على المباريات على الشاشة لكن لا يمكن للجمهور أن يتعرف عليهم لو قابل أي منهم في الشارع. ربما لن تلاحظ حتى أنني بدلت اثنين من أسمائهم، لكن الحقيقة أن هؤلاء المعلقين أمضوا وقتاً في التحدث إليك أطول من الوقت الذي تتحدث فيه مع العديد من أفراد عائلتك المقربين!
وفي الوقت نفسه، يبدو أن شيئاً غريباً قد حدث لهذه المهنة النبيلة التي كانت ذات يوم تشع بريقا لا يقاوم. لقد كان موتسون، وديفيز، ومور (ولم يكن هناك أكثر من ثلاثة معلقين على الساحة أبداً)، بمثابة آلهة التعليق، وكانوا يفعلون أي شيء من أجل تقديم المتعة للجمهور الذي ينتظرهم، فكانوا يتحملون حرارة الشمس الحارقة في منتصف النهار في المكسيك، أو برودة الطقس القاسية في فترة أعياد الميلاد، من أجل نقل تفاصيل وأحداث المباريات للجمهور في كل مكان.
في الحقيقة، من الصعب إيجاد مثل هؤلاء العظماء مرة أخرى، ويعود السبب في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ إلى العدد الهائل من المباريات التي تذاع على الهواء مباشرة، فلم يعد الأمر يقتصر على بطولة كبرى تجذب الجماهر من حولها في وقت معين، بل أصبح هناك عدد هائل ولا نهاية له من المباريات، وأصبح المعلقون ينقلون أحداث المباريات من داخل صندوق معدني يوجد في مكان ما في جنوب إنجلترا أمام شاشتين لامعتين وكوب من القهوة يبرد ببطء بسبب انشغال المعلق في الحديث المستمر! وبالتالي، لم يعد من الغريب أن يكون صوت هؤلاء المعلقين مليئاً بالبؤس، وكأنهم سجناء في دولة بوليسية بائسة يحاولون فعل أي شيء مقابل الحصول على حريتهم!
هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التقليل من قيمة التعليق على المباريات، فهي مهمة صعبة لا تتطلب موهبة طبيعية فحسب، بل تتطلب أيضاً قدرة هائلة على تحمل الضغوط والانتقادات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. لقد ظهر معلقو كرة القدم الأصليون في عصر كان فيه التلفزيون لا يزال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالراديو، عندما كانت الصورة غامضة وغير واضحة وكان الجميع بحاجة إلى من يعلق على المباراة لمساعدة الجمهور على التعرف على هذا اللاعب أو ذاك. فهل لا يزال هذا مطلوباً في عصر الشاشات التي تنقل المباريات بتقنيات فائقة الجودة، وأسماء اللاعبين المكتوبة على ظهورهم، والتقدم التكنولوجي المذهل؟
لقد أصبحت التكنولوجيا الحديثة قادرة على تحديد اللاعبين بدقة وسرعة أكبر بكثير من قدرات أي معلق بشري. وفي هذه الحالة، ما الذي يتعين على المعلق أن يفعله خلال تعليقه على المباراة؟ فإذا كنت تبدأ كرة القدم من الصفر، فهل ستسمح لهؤلاء الرجال بأن يتجاذبوا أطراف الحديث في الخلفية؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو الهدف من وجودهم الآن؟
هناك إجابة صادقة وساخرة على هذا السؤال. سوف يزعم أي معلق محترم أن وظيفته ليست مجرد السرد والحكي، وإنما مهمته تتمثل في الحديث عن أشياء معينة وشرح الأسباب في أنها مهمة للجمهور. وتكمن المشكلة في أن هذه ليست الطريقة التي نتفاعل بها مع كرة القدم الآن، حيث يشاهد معظم الناس هذه الأيام المباريات أثناء القيام بشيء آخر: السفر، أو الطهي، أو الترفيه مع الأصدقاء، أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. وبالتالي، أصبحت وظيفة المعلق تتطلب مهارات مختلفة تماماً لجذب الجمهور المشغول بالقيام بأشياء أخرى.
ومع مرور الوقت، ظهرت أنماط مختلفة من التعليق على المباريات، وكلها تتصارع بشدة من أجل جذب اهتمام الجمهور، فأصبحنا نرى المعلقين يستخدمون عبارات رنانة ويتحدثون بصوت مرتفع وبعاطفة جياشة، للحديث مثلاً عن هدف أحرزه ميلان في الدوري الأوروبي، لكن الجمهور العادي ينظر إلى الأمر بكل بساطة على أن هذا هدف جاء في دور المجموعات بالدوري الأوروبي ولا يستحق كل هذا الضجيج والصراخ!
من الواضح أن البعض منكم لا يمل من سماع الأحاديث عن كرة القدم (ورغم كل التقدم الذي تم إحرازه، تظل هذه مهنة مقتصرة إلى حد كبير على الذكور من أصحاب البشرة البيضاء)، ومن الواضح أيضاً أن البعض منكم يشعرون بالراحة وهم يستمعون إلى الأصوات المألوفة للمعلقين، في حين يفضل البعض الآخر الصراخ والصوت المرتفع، ويفضل آخرون الحس الفكاهي. بل ويصل الأمر لدرجة أن البعض منكم يذهب مجدداً إلى موقع «يوتيوب» لإعادة مشاهدة المباريات بتعليق ذلك المعلق الذي لديه مليونا متابع على الموقع!
لكن على مدار عقود من الزمان، كانت كرة القدم التي تنقل عبر شاشات التلفزيون تتجه نحو طريق واحد: المزيد من الحديث، والمزيد من التنظيم، والمزيد من الأصوات. لكن الآن، أصبحت السوق منقسمة إلى حدٍ كبير، لدرجة أن هناك قطاعاً من الجمهور يشاهد المباريات من دون أي تعليق على الإطلاق ويكتفي بمجرد مشاهدة الشاشة وسماع الضوضاء المحيطة بالمباراة، في تجربة هي الأقرب لمشاهدة المباريات من الملعب. لقد أصحبت كرة القدم لعبة مذهلة، وبالتالي فربما حان الوقت لنتركها هي تتحدث عن نفسها!
هل حان الوقت لترك كرة القدم تتحدث عن نفسها؟
بعد أن أصبح الصراخ والمبالغة أثناء التعليق على المباريات سمة من سمات اللعبة
هل حان الوقت لترك كرة القدم تتحدث عن نفسها؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة