كان رودريغو بينتانكور في الرابعة من عمره عندما توفيت والدته، ويرتدي القميص رقم 30 تخليدا لذكرى ميلادها. وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره، رحل عن بلدته الصغيرة في أوروغواي ليلتحق بأكاديمية بوكا جونيورز للناشئين في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وعندما كان في التاسعة عشرة من عمره، أتيحت له الفرصة للانتقال إلى أوروبا، وهو الأمر الذي أصابه بالخوف الشديد. وقال اللاعب الأوروغواياني الشاب عن ذلك في وقت لاحق: «عندما تحدثوا معي عن إمكانية الانتقال إلى يوفنتوس، أصبت بالذعر. كنت سعيدا للغاية، لكنني أيضا كنت خائفا جدا».
بينتانكور (يسار) وفرحة الفوز على بورنموث بهدفه في الوقت القاتل (د.ب.أ)
إنني أود من خلال كل ما أشرت إليه سابقا أن أشير إلى أنه عندما تواجه كل هذه الصعوبات والتحديات وتتغلب عليها، فربما ستكون أكثر هدوءا واسترخاء عندما تجد الفريق المنافس يتفوق عليك عدديا في خط الوسط من خلال الاعتماد على ثلاثة لاعبين، بينما يعتمد فريقك على لاعبين اثنين فقط! لقد علمت الحياة بينتانكور أن يتطور ويتحسن بسرعة، وأن الشجاعة هي خط الدفاع الحقيقي والوحيد ضد الشدائد والتحديات. قد يفسر كل هذا النضج الكبير الذي يتحلى به لاعب خط الوسط الأوروغواياني داخل المستطيل الأخضر، والجدية التي جعلته واحدا من أكثر لاعبي خط الوسط إثارة للإعجاب في الدوري الإنجليزي الممتاز، بل وربما أفضل لاعب في توتنهام هذا الموسم، مع الاعتذار لهاري كين!
وخلال معظم الأشهر التسعة التي قضاها في كرة القدم الإنجليزية، تمكن بينتانكور من القيام بواجباته بهدوء شديد بعيدا عن الأضواء. انتقل بينتانكور إلى توتنهام في نفس اليوم الذي وقع فيه ديان كولوسوفسكي للسبيرز في صفقة استحوذت على القدر الأكبر من الاهتمام، ويلعب في المنتخب الأوروغواياني مع نجوم من الطراز العالمي يخطفون منه الأضواء؛ مثل لويس سواريز وأدينسون كافاني وفيديريكو فالفيردي، ولا يحرز أو يصنع الكثير من الأهداف، أو يمتلك مهارات فذة تجعل الجمهور يُعد مقاطع فيديو له على موقع يوتيوب مثل النجوم الآخرين الذين يبهرون عشاق كرة القدم بفنياتهم الهائلة. وحتى الآن، غالبا ما تتجه الأنظار إلى شريكه الآخر في خط وسط توتنهام بيير إميل هويبيرغ، الذي لا يتوقف عن الركض داخل الملعب، ويبدو دائما متعرقا وكأنه رجل تطارده الكلاب!
وبالتالي، يمكن لأولئك الذين لا يشاهدون المباريات بإمعان ألا يلاحظوا ما يقوم به بينتانكور، خاصة في خط وسط توتنهام الذي غالبا ما يبدو مرهقا ومضغوطا أمام الفرق المنافسة، وفي ظل اعتماد الفريق على الهجمات المرتدة السريعة وفق الخطة التي يلعب بها المدير الفني الإيطالي أنطونيو كونتي. لكن من الخطأ أن تعتقد أن بينتانكور هو ضحية للطريقة التي يلعب بها كونتي، لكنه على العكس تماما هو اللاعب الذي يجعل هذه الطريقة تنجح في تحقيق أهدافها.
ولكي ندرك مدى أهمية بينتانكور لتوتنهام يجب أن نعرف أن شباك الفريق تستقبل هدفا كل 96 دقيقة عندما يكون اللاعب الأوروغواياني على أرض الملعب، وهدفا كل 56 دقيقة عندما لا يكون في الملعب. وكان الأسبوع الماضي جيدا للغاية وبشكل استثنائي بالنسبة للاعب البالغ من العمر 25 عاما، حيث قدم مستويات استثنائية في المباراة التي فاز فيها توتنهام خارج ملعبه على مارسيليا بهدفين مقابل هدف وحيد في دوري أبطال أوروبا، وسط أجواء جماهيرية مشحونة، بينما كانت آمال الفريق في الصعود للأدوار الإقصائية للبطولة الأقوى في القارة العجوز على المحك، وقبلها كانت رأسية بينتانكور كافية لمنح توتنهام التعادل في الدقائق الأخيرة أمام سبورتنغ لشبونة. وقبل ذلك، أحرز بينتانكور هدف الفوز القاتل في الوقت المحتسب بدلا من الضائع أمام بورنموث ليقود فريقه للفوز بثلاثة أهداف مقابل هدفين. ورغم أن بينتانكور نادرا ما يسجل الأهداف، فإنه أحرز ذلك الهدف بطريقة رائعة للغاية، حيث تسلم الكرة وهو محاط بعدد كبير من لاعبي الفريق المنافس، لكنه احتفظ بهدوئه ووضع الكرة ببراعة داخل الشباك بعيدا عن سيقان وأجسام لاعبي بورنموث.
إن أكثر ما يميز بينتانكور عن غيره من اللاعبين هو الهدوء الشديد تحت الضغط، والقدرة الفائقة على استخلاص الكرات وإفساد الهجمات والتمرير الدقيق بقدميه، والركض بلا كلل أو ملل في جميع أنحاء الملعب. وعلاوة على ذلك، فإنه يمتلك العديد من الأسلحة الأخرى، إن جاز التعبير، مثل جرأته الشديدة وعدم خوفه من الدخول في أي موقف، وقدرته على مفاجأة المنافس بأشياء غير متوقعة، والشراسة والقوة في الالتحام، وتسخير جهوده بالكامل من أجل مصلحة الفريق ومساعدة زملائه في عملية الضغط الجماعي على حامل الكرة. وفي مرحلة المجموعات بدوري أبطال أوروبا، كان بينتانكور واحدا من بين أفضل خمسة لاعبين من حيث المسافة التي ركضها اللاعبون داخل الملعب، وكانت هذه الإحصائية تشمل اللاعبين الذين لعبوا 500 دقيقة على الأقل. وكانت سرعته القصوى أعلى من سرعة كولوسوفسكي وريتشارليسون. وكشف ريان سيسينيون هذا الأسبوع أن بينتانكور لديه أقل نسبة دهون في الجسم مقارنة بأي لاعب آخر في توتنهام.
وبالتالي، فإن السؤال المطروح الآن هو: لماذا سمح يوفنتوس للاعب بهذه الإمكانيات أن يرحل مقابل 15 مليون جنيه إسترليني فقط في يناير (كانون الثاني) الماضي؟ ربما يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى أن النادي الإيطالي مثقل بالديون، وكان بحاجة ماسة إلى المال من أجل التعاقد مع دوسان فلاهوفيتش من فيورنتينا. لكن كان هناك أيضا شعور في يوفنتوس بأن بينتانكور بدأ يفقد بريقه تحت قيادة ماسيميليانو أليغري، وأنه بدأ يرتكب بعض الأخطاء. ومع ذلك، فإن التطور الملحوظ الذي طرأ على مستوى بينتانكور منذ رحيله عن يوفنتوس يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك خللا وظيفيا في النادي الإيطالي، خاصة أن بينتانكور من نوعية اللاعبين الذين افتقر إليهم يوفنتوس في خط الوسط منذ رحيل ميراليم بيانيتش في عام 2020.
ربما يرى أنطونيو كونتي أن بينتانكور يمتلك بعض الصفات الشخصية التي يتحلى بها هو شخصيا، فهو لاعب خط وسط شجاع للغاية، ويمتلك طاقة هائلة، ولا يتوقف عن الركض داخل الملعب، ويجيد التمرير الدقيق، ويقاتل بكل شراسة داخل الملعب، وهي الصفات التي يريدها المدير الفني الإيطالي من لاعبيه. وقد يكون أكثر اللاعبين شبها به في الآونة الأخيرة هو موسى ديمبيلي، الذي لم يكن يحصل على ما يستحقه من الإشادة والتقدير رغم المجهود الهائل الذي كان يبذله مع السبيرز تحت قيادة المدير الفني الأرجنتيني ماوريسيو بوكيتينو. ربما كان أكثر شيء يفتقده توتنهام هو القدرة على التحول من الدفاع للهجوم بأقصى سرعة ممكنة وبأقل قدر من المخاطرة، وهو الشيء الذي كان يجيده بدرجات متفاوتة جيوفاني لو سيلسو وتانغي ندومبيلي وهاري وينكس.
يقدم توتنهام مستويات جيدة خلال الموسم الجاري، الذي يحتل فيه المركز الرابع في جدول ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز، لكنه يعطي انطباعا أنه قد وصل إلى أقصى حدوده وإمكانياته، وأنه لا يمكنه الوصول إلى مستويات أعلى. فرغم وجود مدير فني جيد للغاية من الناحية الخططية والقدرة على تحفيز اللاعبين، لكن من الواضح أن الفريق يفتقر إلى العمق والتماسك اللذين يتمتع بهما المنافسون المباشرون. ويمكن القول إن بينتانكور، وليس هاري كين أو هويبيرغ، هو الذي يساعد على تماسك الفريق بهذا الشكل!