غموض حول «مفاوضات سرية» بين واشنطن وموسكو

أوكرانيا تعلن الحصول على أنظمة دفاع جوي غربية... وروسيا تنفي تقارير عن تكبدها خسائر فادحة

مدفع أوكراني على جبهة باخموت في منطقة دونيتسك (رويترز)
مدفع أوكراني على جبهة باخموت في منطقة دونيتسك (رويترز)
TT

غموض حول «مفاوضات سرية» بين واشنطن وموسكو

مدفع أوكراني على جبهة باخموت في منطقة دونيتسك (رويترز)
مدفع أوكراني على جبهة باخموت في منطقة دونيتسك (رويترز)

مع تواصل المعارك الضارية حول خيرسون، وتباين المعطيات التي تصدر عن الجانبين الروسي والأوكراني حول حجم تقدم كييف في المنطقة، سعت موسكو، الاثنين، إلى تأكيد استعدادها لمواصلة المفاوضات السياسية مع الجانب الأوكراني، مع احتفاظها بالشروط السابقة التي قدمتها لإحراز نجاح فيها. لكن القيادة الروسية رفضت، في الوقت ذاته، تأكيد صحة تقارير غربية تحدثت عن إجراء جولات من الحوار خلف أبواب مغلقة، بين مسؤولين بارزين في روسيا والولايات المتحدة.
وبعد مرور يومين على إعلان موسكو عن إطلاق عملية واسعة لإجلاء المدنيين من أجزاء واسعة من منطقة خيرسون، بهدف تعزيز خطوط الدفاع عن المنطقة التي تشهد هجوماً قوياً من جانب أوكرانيا، برز تباين في التقارير الروسية والأوكرانية حول حجم التقدم الأوكراني. وفي مقابل تأكيد البيانات التي أصدرتها وزارة الدفاع الأوكرانية على مواصلة الهجوم المضاد، أكدت وزارة الدفاع الروسية أنها نجحت في صد محاولات كييف للتقدم. في الوقت ذاته، أقرت السلطات الانفصالية في المنطقة باتساع جبهة الهجوم على المدينة الاستراتيجية، وأعلنت خدمة الطوارئ في منطقة خيرسون عن انقطاع التيار الكهربائي، الاثنين، في أكثر من 10 تجمعات سكنية نتيجة ما وصف بأنه «عمل إرهابي استهدف خط الإمداد بالكهرباء».
وأوضح ممثل خدمة الطوارئ أن «هجوماً إرهابياً استهدف طريق بيريسلاف ـــ كاخوفكا السريع، ونتيجة لذلك تضررت ثلاث دعامات خرسانية لخطوط الطاقة عالية الجهد، ما تسبب بحرمان أكثر من 10 تجمعات سكنية في المنطقة من كهرباء».
وكان الجيش الأوكراني عزز هجماته على محوري خيرسون ونوفايا كاخوفكا بضربات صاروخية، هدفت إلى تقويض قدرة العسكريين الروس والوحدات الانفصالية الموالية لهم على استخدام جسر أنتونوفسكي الذي يربط ضفتي نهر «دنيبر».
وخلال الأسبوع الماضي، حاولت القوات المسلحة الأوكرانية استهداف الميناء البحري الذي يستخدم لإجلاء المدنيين، لكن موسكو قالت إن قوات الدفاع الجوي صدت الهجوم.
وكان قائد القوات الروسية المشتركة في منطقة العملية الخاصة، الجنرال سيرغي سوروفيكين، حذر من احتمال توجيه ضربة صاروخية قوية لسد كاخوفسكايا الكهرومائي، واصفاً الوضع في العاصمة الإقليمية خيرسون بأنه «خطير وصعب للغاية».
وقامت سلطات خيرسون بنقل المدنيين إلى الضفة اليسرى من نهر دنيبر، وفقاً للحاكم الموالي لموسكو فلاديمير سالدو، الذي أعلن عن خطط لإجلاء ما يصل إلى 70 ألف شخص.

منظومة صواريخ «ناسامس» التي أعلنت كييف الحصول عليها الاثنين (إ.ب.أ)

وفي السياق ذاته، أفادت وزارة الدفاع الروسية، الاثنين، في إيجاز لحصيلة العمليات خلال اليوم الأخير، بأن قواتها قضت على «أكثر من 300 جندي أوكراني ومرتزق أجنبي أثناء التصدي لهجمات العدو على ثلاثة محاور أساسية للقتال». وقالت إنه «تم صد كل الهجمات الأوكرانية بنجاح، وبلغت خسائر العدو أكثر من 110 قتلى على محور نيكولايف - كريفوي روغ (خيرسون)، وما يصل إلى 100 جندي على محور كوبيانسك (شمال لوغانسك)، إضافة إلى نحو 120 قتيلاً و130 جريحاً على محور كراسني ليمان (شمال دونيتسك)».
وأشار البيان إلى إصابة 7 نقاط قيادة و72 وحدة مدفعية في مواقع إطلاق نار وقوات ومعدات عسكرية في 186 منطقة خلال اليوم الأخير، فضلاً عن تدمير محطتي رادار لأنظمة الصواريخ المضادة للطائرات الأوكرانية من طراز «إس 300» ومنصة إطلاق ذاتية الحركة تابعة لمنظومة صواريخ «بوك» الأوكرانية المضادة للطائرات.
وفي المقابل، أعلنت أوكرانيا، الاثنين، أنها تسلمت أنظمة دفاع جوي جديدة من دول غربية. وكتب وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف عبر «تويتر»: «وصلت أنظمة الدفاع الجوي (ناسامس) و(اسبيد) إلى أوكرانيا»، معرباً عن شكره «لشركائنا في النرويج وإسبانيا والولايات المتحدة».
وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أعلن، في وقت سابق، أن واشنطن تعمل على تسليم أوكرانيا منظومتي دفاع جوي «ناسامس» خلال الشهر الجاري.
وحذر محللون عسكريون روس من أن تسليم واشنطن هذه المنظومات إلى كييف، يعني «تورط الناتو المباشر في المواجهة مع روسيا في أوكرانيا؛ حيث لا يمكن استخدامها من دون مساعدة أقمار صناعية غربية».
إلى ذلك، نفت وزارة الدفاع الروسية صحة معطيات تداولها عدد من المدونين الروس تحدثت عن تكبد القوات الروسية «خسائر فادحة» في الهجمات الأخيرة التي استهدفت منطقة دونيتسك. وأعلنت الوزارة، في بيان، أن المعطيات عن مواجهة جنود اللواء 155 من مشاة البحرية الروسية «خسائر فادحة وغير مبررة في الأشخاص والمعدات، لا أساس لها».
وقالت الوزارة إن وحدات اللواء 155 «تجري على مدى الأيام الـ10 الأخيرة عمليات هجومية فعالة ضد الجيش الأوكراني والمرتزقة الأجانب في اتجاه مدينة أغليدار»، مضيفة أن اللواء تحرك إلى الأمام في منطقة مسؤوليته لعمق 5 كيلومترات في المواقع الدفاعية الأوكرانية.
«مفاوضات سرية»...
سياسياً، رد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف على أنباء نشرتها وسائل إعلام أجنبية عن «مفاوضات سرية جرت بين مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي جيك سوليفان ومسؤولين روس كبار»، وقال إن «وسائل الإعلام الغربية تنشر الكثير من الأخبار الكاذبة».
وأوضح بيسكوف: «ليس لدينا ما نقوله عن هذه المنشورات. هناك الكثير من الأكاذيب تنشرها الصحف الأنغلوسكسونية. لذلك في هذه الحالة، يجب طلب المعلومات من الصحيفة أو البيت الأبيض».
في الوقت ذاته، قال الناطق الرئاسي الروسي إن بلاده «ما زالت منفتحة على المفاوضات مع أوكرانيا، إلا أنه ليست هناك فرصة لمواصلة هذه المفاوضات حتى الآن». وزاد خلال إفادة صحافية الاثنين: «لقد قلنا مراراً وتكراراً إن الجانب الروسي يظل منفتحاً لتحقيق أهدافه من المفاوضات، لكننا كذلك لفتنا انتباه الجميع أكثر من مرة إلى حقيقة أننا في الوقت الراهن لا نرى مثل هذا الاحتمال؛ حيث تم إغلاق هذا الملف من قبل كييف، وتم سن قوانين تؤكد عدم استمرار أي مفاوضات مع الجانب الروسي».
وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» كتبت أن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أجرى اتصالات من وراء الكواليس مع كبار المسؤولين الروسيين، في محاولة لتقليل فرص نشوب صراع أوسع حول أوكرانيا، وتحذير روسيا مجدداً من مخاطر استخدام أسلحة نووية.
ووفقاً للصحيفة، فإن سوليفان كان على اتصال مع يوري أوشاكوف، مساعد السياسة الخارجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونيكولاي باتروشيف، رئيس مجلس الأمن الروسي، بهدف «التقليل من مخاطر التصعيد وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة»، وليس مناقشة تسوية سلمية للصراع الأوكراني. وأشار مسؤولون إلى أن نية الولايات المتحدة، هي تجنب تصعيد الحرب في أوكرانيا، بينما تعمل روسيا على نشر جزء من ترسانتها النووية، وأن هذه المحادثات تأتي وسط مخاوف من أن يلجأ الرئيس بوتين إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في أوكرانيا، بعد سلسلة من الانتكاسات العسكرية وتقدم القوات الأوكرانية، واستعادة بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها القوات الروسية.
وجاء التقرير عن المحادثات بين سوليفان وأوشاكوف وباتروشيف، بعد يوم من نشر صحيفة «واشنطن بوست» أن إدارة بايدن كانت تشجع كييف بشكل خاص، على الإشارة إلى استعدادها للتفاوض مع الروس لإنهاء الحرب. وقالت الصحيفة إن الهدف لم يكن دفع أوكرانيا إلى طاولة المفاوضات، ولكن للمساعدة في ضمان احتفاظها بدعم الحكومات الأخرى.
ويؤكد مسؤولو الإدارة في تصريحات علنية للصحافيين، على موقف «لا شيء بشأن أوكرانيا من دون أوكرانيا»، وأنه لن يتم اتخاذ أي قرارات تؤثر على أمنها ومستقبلها دون مشاركتها ودعمها. وأشارت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أن سوليفان «لم يلعب فقط دوراً رائداً في تنسيق سياسات واشنطن بشأن النزاع الأوكراني، لكنه شارك في الجهود الدبلوماسية، وزار كييف الأسبوع الماضي للقاء الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي».
ووفقا للصحيفة، فإن مستشار الأمن القومي «حضّ القيادة الأوكرانية على أن تشير علناً إلى أنها مستعدة لحل النزاع... لا تصر واشنطن على عودة كييف إلى طاولة المفاوضات، لكنها تريدها أن تظهر للعالم أنها تحاول إنهاء الأعمال العدائية».
وكان الرئيس الأوكراني زيلينسكي قد استبعد إجراء مفاوضات بعد قيام روسيا باستفتاء لضم أربع مناطق أوكرانية في سبتمبر (أيلول) الماضي بشكل غير قانوني. وقال إنه «قد يتفاوض مع رئيس روسي جديد وليس مع فلاديمير بوتين».
وتدور مناقشات مكثفة داخل البيت الأبيض حول كيفية المضي قدماً في معالجة الأزمة الأوكرانية بعد مضي أكثر من ثمانية أشهر على المعارك العسكرية؛ حيث أصر سوليفان على إبقاء خط الاتصال مع روسيا مفتوحاً، على عكس كبار مسؤولي البيت الأبيض الآخرين، الذين يشعرون بأن التواصل مع موسكو «لن يكون مثمراً في هذه المرحلة». وخلال الشهر الماضي، أجرى كبار المسؤولين العسكريين، مثل الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة، اتصالات مع فاليري جيراسيموف، رئيس الأركان العامة الروسية، بينما تحدث وزير الدفاع الجنرال لويد أوستن ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عبر الهاتف، مرتين في غضون ثلاثة أيام، بعد أن زعمت موسكو أن أوكرانيا «كانت تخطط بمساعدة الولايات المتحدة لتفجير قنبلة قذرة وإلقاء اللوم على القوات الروسية». ونفت الولايات المتحدة تلك المزاعم، وحذرت من أنها «قد تكون ذريعة روسية للقيام بمثل هذا الاستفزاز بنفسها».
والعلاقات الدبلوماسية محدودة بشكل عام في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وكان آخر تواصل بين الرئيس جو بايدن وبوتين جرى في فبراير (شباط) الماضي، وجرى فيه التحذير من «متابعة خطط للغزو».


مقالات ذات صلة

تقرير: روسيا ابتكرت مسيرة «غير قابلة للتشويش» تشبه الهاتف اللعبة

أوروبا جندي روسي يطلق طائرة مسيرة صغيرة خلال المعارك في أوكرانيا (لقطة من فيديو لوزارة الدفاع الروسية)

تقرير: روسيا ابتكرت مسيرة «غير قابلة للتشويش» تشبه الهاتف اللعبة

قالت صحيفة «تلغراف» البريطانية إن روسيا ابتكرت طائرة من دون طيار «غير قابلة للتشويش» تشبه الهاتف اللعبة تغير مسار الحرب في أوكرانيا.

أوروبا وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن (أ.ب)

أوستن يطالب حلفاء أوكرانيا بـ«ألّا يضعفوا»

طالب وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الخميس التحالف الدولي الذي يقدّم دعماً عسكرياً لأوكرانيا بـ«ألّا يضعف»، في وقت تخشى فيه كييف من أن تفقد دعم بلاده الأساسي.

أوروبا جندي أوكراني يقود مركبة أرضية مسيرة إلكترونياً خلال معرض للمعدات العسكرية والأسلحة (رويترز)

بريطانيا: تحالف دولي سيرسل 30 ألف مسيّرة لأوكرانيا

أعلنت وزارة الدفاع البريطانية، الخميس، أن تحالفاً دولياً تقوده بريطانيا ولاتفيا لإمداد أوكرانيا بمسيّرات سيرسل 30 ألف مسيّرة جديدة إلى كييف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا رجال الإطفاء يعملون في موقع مبنى إداري تضرر جراء الغارات الجوية والصاروخية الروسية في زابوريجيا (رويترز) play-circle 00:36

13 قتيلاً بضربة روسية على زابوريجيا الأوكرانية

قُتل 13 شخصاً اليوم (الأربعاء) في ضربة روسية على مدينة زابوريجيا الأوكرانية، وفق ما أعلن حاكم المنطقة، في حصيلة تعد من الأعلى منذ أسابيع لضربة جوية واحدة.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الخليج الأمير محمد بن سلمان والرئيس فولوديمير زيلينسكي (الخارجية السعودية)

محمد بن سلمان وزيلينسكي يبحثان جهود حل الأزمة الأوكرانية - الروسية

بحث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، جهود حل الأزمة الأوكرانية - الروسية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟