لم يدر في خلد مصممي العلم الفيدرالي الأميركي عام 1860 أن هذا العلم سيصبح مثار جدل وسببا لتفرقة الأميركيين فكريًا، وموضوعا شائكا للمتنافسين على الرئاسة الأميركية بعد نحو 150 عاما من تصميمه.
ويمثل هذا العلم حقبة كونفدرالية الولايات الجنوبية الأميركية، التي تشكلت خلال الحرب الأهلية الأميركية بين 1861 و1865، والتي رفضت تحرير العبيد والمساواة في الحقوق المدنية. وكانت تلك العوامل سبب اندلاع الحرب التي خسرتها الولايات الجنوبية.
حتى الآن، ما زال العلم الأحمر الذي يتوسطه شريطان أزرقان متقاطعان يحملان 13 نجمة، يرمز إلى ولايات الجنوب التي رفضت إلغاء العبودية في ذلك الوقت، مرفرفا في كثير من المدن والمنظمات والمباني الحكومية، وكذلك من قبل الأفراد كتقليد تتبعته بعض الولايات الجنوبية، للإشارة إلى الهوية الجنوبية والحقبة المهمة من تاريخ الجنوب الأميركي، رغم ارتباط العلم تاريخيًا بالعبودية، والعنصرية، ورغم الجدل المتعلق به الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين.
وأصبح الجدل في أوجه على الساحة الأميركية بعد الهجوم على كنيسة شارلستون في ولاية ساوث كارولينا الأسبوع الماضي الذي أقدم خلاله شاب من البيض يدعى ديلان روف (21 عاما) على إطلاق الرصاص وقتل تسعة من المصلين السود. وظهر القاتل في عدة صور له على الإنترنت محرقا العلم الأميركي وملوحا بالعلم الكونفدرالي الذي يحمل دلالات عنصرية وكرها للسود، وهو الأمر الذي أكده القاتل في تصريحاته المعادية للسود، مما أدى بالشرطة إلى الإقرار بأن الجريمة تحمل طابع جريمة كراهية، وأنها عمل إرهابي يحمل دوافع عنصرية.
وعلى أثر هذه الحادثة، أصبح تعليق العلم على المباني الحكومية محل انتقادات شديدة من قبل محاربي العنصرية والمطالبين بالعدالة الاجتماعية، مما دعا حاكمة ولاية ساوث كارولينا، نيكي هالي، لمناشدة المشرعين إزالة علم الكونفدرالية من مبنى المجلس التشريعي للولاية، وتم قبول طلبها. وفي حديثها للصحافيين أوضحت هالي أنه حان الوقت لإبعاد العلم من ساحة المجلس لأنه رمز للموقف المؤيد للعبودية في الجنوب خلال الحرب الأهلية الأميركية. وأضافت: «هذه لحظة يمكننا أن نقول فيها إن العلم وإن كان جزءا لا يتجزأ من ماضينا، فإنه لا يمثل مستقبل دولتنا العظيمة، وبإزالة هذا الرمز الذي يفرق بيننا، آمل أن نخطو معًا إلى الأمام».
تعد ولاية ساوث كارولينا الولاية الوحيدة التي ما زالت تستعمل العلم بشكله الأصلي، بينما تستوحي أعلام كثير من الولايات الجنوبية تصميمها منه، مثل ولايات أركنساس، وجورجيا، وميسيسيبي، وتينيسي، وألاباما، وكارولينا الشمالية، وفلوريدا. إلا أنه من منذ إدلاء الحاكمة هالي بكلمتها مطلع هذا الأسبوع، والجدل حول العلم الكونفدرالي لم يتوقف في كثير من وسائل الإعلام الأميركية وفي نقاشات المذيعين ونقاشات الحملات الانتخابية للمتسابقين على الرئاسة من الحزب الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، كما تبع نهجها عدد من حكام الولايات الآخرين، فيما سبقها آخرون لذلك.
ففي حين قام الجمهوري جيب بوش، الحاكم السابق لولاية فلوريدا، بإزالة العلم الكونفدرالي منذ 14 عاما، عمل حاكم ولاية ألاباما روبيرت بتلي على إزالة العلم من مبنى المجلس التشريعي في ولايته، ومنع حاكم فرجينيا وضع صورة العلم على لوحات تسجيل السيارات في الولاية. بينما تجنب مايك هاكابي وريك سانتوروم، وهما مرشحان من الحزب الجمهوري، اتخاذ أي قرار بشأن العلم، وذلك تجنبًا لإثارة حساسية بعض الناخبين الجمهوريين ممن يشكل البيض المحافظون النسبة العظمى منهم، كما حدث عام 1998 عندما خسر الحاكم الجمهوري ديفيد بيسلي إعادة انتخابه لولاية ساوث كارولينا بعد مطالباته بإزالة العلم.
أما المرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة، هيلاري كلينتون، فطالبت الأميركيين بالقضاء على ما من شأنه تأجيج الانقسامات العرقية بينهم. وقالت إن العلم الكونفدرالي «رمز لماضينا العنصري الذي ليس له مكان في حاضرنا ومستقبلنا، ولذا يجب أن لا يرفف في أي مكان».
وأبدى كثير من الناشطين السود امتعاضهم من عدم اتخاذ إجراءات حاسمة بشأن منع العلم الكونفدرالي وتأييد بعض المسؤولين للإبقاء على العلم. وعبر مطرب الهيب هوب الأميركي والناشط في حقوق السود كيلير مايك عن امتعاضه من العلم، قائلا: «رغم تفهمي لكونه يمثل ماضي الجنوب، فإنه استخدم من قبل عنصريين، يعملون على إخافة السود والتنكيل بهم، وكذلك من قبل أعضاء من النازيين الجدد، فهل نعمل على الإبقاء عليه؟». فيما ذهب لويس فرخان زعيم التنظيم السياسي والديني «أمة الإسلام» إلى القول إنه «يجب إنزال العلم الأميركي وليس العلم الكونفدرالي وحده، فقط طالنا جحيم من المآسي بسبب هذا العلم، فمن الذين نحاربهم اليوم؟ هم أناس يحملون العلم الأميركي». ولعل تلك المطالبات هي التي أكدت مخاوف المذيع الأميركي رش ليمبي، اليميني المتشدد، من أن حظر العلم الكونفدرالي هو البداية فقط لطريق يسعى لحظر العلم الأميركي والمطالبة بإنزال من كل المباني الحكومية. كما عبر في برنامجه الإذاعي: «لقد رفرف العلم الأميركي فوق كثير من الولايات وفوق كثير من معاقل القتال أكثر من العلم الكونفدرالي». وأضاف: «مسألة العلم الكونفدرالي هي محاولة من الليبراليين للقضاء على معقل المصوتين المحافظين، وهو الجنوب».
إلا أن هناك من السود المحافظين من لا يكترث بالتصويت ويؤيدون العلم الكونفدرالي لأنه جزء من تراث يعتزون به؛ مثل الطالب الأميركي الأسود بايرون توماس من جامعة ساوث كارولينا الذي عاد إلى سجل النقاشات هذا الأسبوع بعد أن كرر مطالبته بالإبقاء على العلم. وأثار توماس الجدل عام 2011 بعد أن ربح قضيته ضد جامعته لمنعه من تعليق علم الكونفدرالية من شباك غرفته في السكن الجامعي، وظهر توماس على الساحة مره أخرى مؤخرا معارضا لقرار إزالة الأعلام، ومعللا ذلك بأن العلم هو مصدر للفخر بالهوية الجنوبية وبمشاركه أجداده في الحرب الأهلية من خلال إعداد الطعام للمحاربين وتجهيز العدة للمقاتلين البيض.
وفي السياق نفسه، تفاوتت آراء الأميركيين حول العلم الكونفدرالي حسب استطلاعات الرأي؛ فبحسب ما قال جون ديفز، الطالب في كلية المجتمع بشمال فيرجينا، لـ«الشرق الأوسط»: «العلم الكونفدرالي يشكل جزءا من تاريخنا، ولكن ذلك لا يعني موافقتنا على ما حصل فيه وعلى أنظمة العبودية حاليا، ولكني مع الإبقاء عليه لتذكير المجتمع المحلي بما يجب القيام به للنهوض بالحقوق المدنية للسود». وخالفه تود (25 عاما) العامل في إحدى محلات الكتب في فيرجينيا، إذ ذكر أن «الأحداث الأخيرة في شارلستون، وقبلها باليتمور ونيويووك وفيرغسون.. كلها تؤكد وجود عنصرية وعنف تجاه الأميركيين السود، والإبقاء على العلم في المباني الحكومية فيه تعزيز لهذه الممارسات وتعزيز لتفوق العنصر الأبيض في المجتمع، وهذه الثقافة يجب إيقافها».
وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «يوغوف» عام 2013، أن نحو 44 في المائة من الأميركيين يؤمنون بأن العلم رمز للعنصرية، مقابل 24 في المائة يرون أنه عنصري تماما. وأبدى 20 في المائة رأيهم بأن العلم يمثل رمزا للعنصرية ومصدر فخر للولايات الجنوبية في الوقت نفسه، واتفق 38 في المائة على رفض رفع العلم في المباني الحكومية أو العامة. وأظهر استطلاع آخر أجرته مؤسسة «بيو» عام 2011 أن 30 في المائة من الأميركيين يحملون مشاعر سلبية تجاه العلم الكونفدرالي، في حين رحب 9 في المائة فقط به وأظهروا مشاعر إيجابية تجاهه، بينما 58 في المائة لم يظهروا أي مشاعر تجاهه.
على الصعيد التجاري، قامت شركة «أبل» في الآونة الأخيرة بحذف كل الألعاب القتالية المستوحاة من الحرب الأهلية الأميركية والتي تحمل علم الكونفدرالية، من متجرها الإلكتروني، منضمة بذلك إلى قائمة الشركات التي سحبت الأعلام الكونفدرالية من قائمه مبيعاتها وتوقفت عن بيع أي منتجات أو سلع أو ملابس تحمل العلم الكونفدرالي، ومن تلك الشركات عمالقة المتاجر الأميركية «وولمارت» و«سيرز» و«كاي مارت» وموقعا «إي باي» و«أمازون»، وذلك تعاطفًا منها مع ضحايا وردود الفعل على جريمة شارلستون. ومع ذلك، ما زال العام الكونفدرالي الأميركي يصارع من أجل البقاء.
«العلم الكونفدرالي» في قفص الاتهام.. بعد مذبحة شارلستون
يرمز لولايات جنوبية رفضت إلغاء العبودية خلال الحرب الأهلية الأميركية
«العلم الكونفدرالي» في قفص الاتهام.. بعد مذبحة شارلستون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة