أتيلا الجبار

«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
TT

أتيلا الجبار

«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
«أتيلا» ملك قبائل «الهان»

أينما ذهب «أتيلا الجبار» قالت عنه الشعوب إنه «وباء الله على الأرض»، بينما انتشرت مقولة أخرى أن الأخضر لا ينمو مرة أخرى تحت أقدام فرس هذا الطاغية، وهكذا استقبلت منطقة وسط أوروبا سيرة هذا الملك الشاب والذي أصبح أحد أسوأ الظواهر الإنسانية على الأرض حتى ذلك التاريخ، فهذا هو «أتيلا» ملك قبائل «الهان Hun»، الذي سيطرت قواته على وسط وجنوب وسط أوروبا خلال منتصف القرن الخامس الميلادي في أحد أسوأ صفحات التاريخ الإنساني المعروف، فهو الرجل الذي كانت أوروبا كلها تخشاه، ومعها أقوى إمبراطوريتين عرفتها أوروبا وهي الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، واللتان وقفتا مكتوفة الأيدي أمام قواته والدمار الشامل الذي كان يلحق بالأرض والشعوب التي مر بها.
واقع الأمر أن أصول قبائل «الهان» يرجع إلى وسط آسيا بالأخص قرب منغوليا وأتت إلى أوروبا ضمن موجات الهجرة المتتالية لكثير من القبائل في هذه المناطق بهدف استيطان وسط وجنوب شرقي أوروبا، بينما ترجع بعض المصادر التاريخية الأخرى أصول الهان إلى قبائل الـScythians والتي اختلطت بكثير من القبائل الإيرانية الشمالية في القرن الثاني الميلادي، وعلى كل الأحوال، فإن قبائل «الهان» لم تلعب دورًا فاعلاً وكبيرًا في التاريخ الأوروبي مثل باقي القبائل الهندية / الأوروبية التي كانت منتشرة إلا في القرن الخامس الميلادي، فأمة «الهان» كان شأنها شأن باقي هذه القبائل تمثل قوة متحركة قوية إلى أن استقرت فيما هو معروف اليوم بالمجر، وعلى الرغم من قوتها فهي كانت محلية الطابع بدرجة كبيرة، ولم تسع مثل قبائل «الجوثس» و«الفيزجوثس» والقبائل «الفراكنية» الأخرى إلى توسيع قاعدتها السياسية بشكل كبير، ولكن هذا كان ليتغير بمجرد أن اعتلى أتيلا الحكم وهو في الأربعين من عمره بعدما توفي عمه، تاركًا الحكم له ولأخيه «بليدا»، وهو ما لم يكن ليستمر طويلاً، فالشاب أتيلا لم يكن على استعداد لتقاسم السلطة لمدة طويلة، فتخلص من أخيه بدس السم له، وخلا له الحكم.
لقد كان هذا الملك الطموح يعرف جيدًا أهمية توسيع رقعة مملكته ليستطيع أن يتغلب على الظروف الصعبة وشظف العيش، فكان سلاحه في ذلك الأمر هو جيشه القوي، الذي وصل إلى قرابة نصف مليون جندي بعد فترة وجيزة، وكان سلاحه الآخر هو الخوف، فلقد أدرك الرجل أن الخوف هو الحل لمواجهة أعدائه، فعمد إلى اتباع سياسة جعلته في التقدير «أول مجرم حرب أوروبي» على مستوى كبير، فلقد قتل وحرق ودمر من المدن ما لا يمكن حصره، فسياسته كانت القضاء المبرم على عدوه حتى يكون عبرة لعدوه التالي، فأينما ذهبت جيوشه كان الدم والخراب والحرق هو النتاج الطبيعي لوجودها، وبهذا ضمن ولاء وخوف كل أعدائه، وقد ساعده في فتوحاته قيامه بتطوير النظام العسكري الذي كانت قبائل الهان تتبعه، فلقد كان عماد هذه القبائل هو الفرس والذي أعطي لجيوشه الحركة السريعة، وكان القوس هو السلاح الفتاك الذي أتقنه هذا الجيش، فيقال إن الفارس منهم كان يستطيع أن يقنص عدوه من على مسافة تصل إلى مائة متر أو أكثر، فالحركة كانت مفتاح سر هذا الجيش الجبار إلى جانب تنظيمه الدقيق.
لقد كانت أوروبا في ذلك الوقت مقسمة سياسيًا ما بين الإمبراطورية الرومانية في الغرب، والإمبراطورية البيزنطية في الشرق، بينما كانت وسط أوروبا تنتشر فيها القبائل القوية التي كانت تهدد هاتين الإمبراطوريتين، وواقع الأمر أن أتيلا بدأ توسيع قاعدة انطلاقاته نحو الإمبراطورية البيزنطية في الجنوب والتي كانت دولة غنية ولكنها لم تعد تملك نفس قوتها السابقة، وهو ما جعلها فريسة سهلة لهذا الرجل الدموي، فهاجم أراضيها بكل قوة وعنف جاعلاً منها صيدًا سهلاً للغاية، فتوغل في ممتلكاتها إلى أن أصبح على مقربة من العاصمة وهو ما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى طلب الصلح معه بعدما حرق مدنًا بالكامل وأبيد قاطنيها عن بكرة أبيهم، فأصبحت هذه الدولة تدفع له جزية سنوية متضاعفة تخطت سبعمائة كيلوغرام من الذهب سنويًا، وهو ما سمح له بالمزيد من الوفرة والتي طور بها جيوشه خلال فترة حكمه القصير والتي دامت ثمانية سنوات فقط.
اتبع أتيلا نفس سياسات جدوده من حيث رفضه الكامل لعوامل التغريب، فلقد رفض المسيحية ورفض التحضر على النحو الروماني أو البيزنطي، فحافظ على الطبيعة البدوية لقبائله على عكس كثير من القبائل القوية الأخرى في وسط أوروبا والتي سرعان ما تأثرت بثقافة ومدنية هاتين الإمبراطوريتين، وقد وضع الرجل نظامًا قويًا لضمان توفير الجيوش اللازمة لفتوحاته المنتظرة، وبالتالي كانت انتصاراته أحد الأسباب الرئيسية لاستقرار فترة حكمه داخليًا بعد انتصاره على البيزنطيين، خصوصا وأنه كان يعاقب بقوة كل من يخرج عليه ويعدمه في تجمع عام ليكون عبرة لكل من تساوره نفسه للخروج عليه.
صار أتيلا على قناعة بأنه استخلص من البيزنطيين أقصى ما يمكن أن يحصل عليه من ذهب وأموال، فوجه جهده نحو الإمبراطورية الرومانية وعاصمتها روما، وكان الرجل في انتظار الفرصة السانحة لفتح جبهته الغربية، وهي الفرصة التي سنحت له بسبب فضيحة لأخت الإمبراطور الروماني والتي أدت لقرار الإمبراطور تزويجها من أحد رجال الساسة، فاستنجدت الأميرة بالملك «أتيلا» حيث عرضت عليه الزواج وتقاسم الإمبراطورية، فاستغل الرجل الفرصة وأرسل لأخيها الإمبراطور يطالب بالممالك الغربية للإمبراطورية كمهر لزواجه المرتقب من أخته، وأرسل جيوشه إلى الغرب في بلاد «الغال» أي فرنسا، ولكن أتيلا لم يكن يتوقع أن القدر سيقف ضده متمثلاً في شخصية رومانية عبقرية هي «فلافيوس أييتس»، ذلك الروماني الفذ والذي عاش صباه صديقًا لأتيلا عندما كان رهينة رومانية لدى قبائل «الهان» ضمانًا لمعاهدة السلام التي وُقعت بين الطرفين، فلقد كان «فلايوس» مدركًا لقوة خصمه وطريقة حياة هذه القبائل وطرق حروبهم، بل يقال إنه كان يمتطي جواده على نفس شاكلتهم، وكان يعرف تكتيكاتهم العسكرية معرفة كاملة، فتحالف هذا القائد الروماني مع بعض القبائل «الجيرمانية» التي كانت تخشى تفشي قوة «الهان» في وسط أوروبا.
في عام 452 شهدت أوروبا بالقرب من نهر «المارن» في فرنسا معركة «شارلونز» الشهيرة، وفي هذه المعركة الدموية التي راح ضحيتها ما يقدر بنحو مائة وخمسين ألفًا، استطاع فلافيوس بتكتيكاته العسكرية أن يوقف هجوم «أتيلا» بعدما كاد قلب جيشه يُهزم، ولكن الإمدادات التي دفع بها «فلافيوس» من الجناحين استطاعت أن تصد جيش أتيلا الجبار بكل قوة، وهو ما دفعه للتقهقر على وجه السرعة، وهكذا أُنقذت أوروبا من دمار محقق، ولكنها لم تكن نهاية الحرب مع هذا الرجل الجبار، فانسحابه كان تكتيكًا إلى حد كبير، إذ سرعان ما استطاع أن يُجمع جيوشه مرة أخرى في العام التالي واستغل فترة الصيف ليصب غضبه على روما ذاتها، فهذه المرة لم يوجه جيوشه إلى الغرب، بل خرج من قاعدته إلى الجنوب مباشرة قاصدًا روما، تاركًا خيطًا من الدمار والقتل والدم لم تشهده أوروبا من قبل، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يدخل روما، وهو ما اضطر الإمبراطور إلى إرسال البابا «ليو» ليتفاوض معه لينسحب.
واقع الأمر أن المصادر التاريخية لم تأت إلينا بما دار في هذا اللقاء التاريخي، ولكن نتيجته كان قرار أتيلا الانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى إلى قواعده، ولكن التحليلات التاريخية تقدم لنا رؤية واقعية للأسباب التي دفعت هذا الملك الجبار إلى التخلي عن أهدافه، فحقيقة الأمر أن الرجل كان بعيدًا عن مركزه في المجر، وكانت إمداداته قد بدأت تتأثر كثيرًا بسبب البعد الجغرافي، إضافة إلى أن جبهته الشرقية ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية كانت في خطر حقيقي، فلو انكسر الصلح مع البيزنطيين كما كان متوقعًا، فإن هذا معناه أنه سيواجه الإمبراطوريتين معًا، ويضاف إلى ذلك أن جيوش الرجل قد تفشى فيها مرض الجدري، وهو ما يعني ضرورة الانسحاب، وبالتأكيد فإن الذهب الروماني كان سببًا آخر في الانسحاب، حيث عرضت عليه الكنيسة والإمبراطور على حد سواء صناديق من الذهب ملأت شهيته مؤقتًا، وهو ما أدى لقراره بالانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى للمجر.
حقيقة الأمر أن الدبلوماسية البابوية قد أنقذت الحضارة الأوروبية بكل تأكيد، فلو أن أتيلا قد استمر في حملته واستطاع تصفية الإمبراطورية الرومانية فإن هذا كان معناه نهاية الحضارة الغربية المعروفة اليوم، فالرجل كان سيهدم كل ما هو روماني من الكنيسة إلى القوانين الرومانية، وكان مصير روما هو الحرق شأنها شأن باقي المدن الأخرى، وقد أدى هذا الصلح أيضا إلى علو شأن الكنيسة والتي نظرت لها الرعية على اعتبارها وسيلة السماء المباركة والتي أجبرت هذا الرجل السفاح على التراجع، وهو ما أعطى الكنيسة دفعة قوية للغاية في أعين الرعية والتي رأت أن الرب راض عنها وبالتالي زاد نفوذها السياسي بشكل ملحوظ بعد ذلك.
لقد كان من الممكن أن يكون مصير أوروبا في العام التالي هو نفس ما حدث وكان من الممكن أن يهدم أتيلا روما والحضارة الغربية تمامًا هذه المرة، لولا أن القدر تدخل مرة أخرى في عام 453، حيث مات الرجل في ليلة زفافه، ومن سخرية القدر أن الرجل مات مخنوقًا بدمائه بعدما تعرض لنزيف خارجي وداخلي في آن واحد أجهز على رئتيه، فمات الرجل في دمائه مثلما أراق دماء الآخرين، ولكن ليس قبل أن يترك لنا بسيرته عددًا من الحقائق أهمها أن الدولة التي تحاصرها الأعداء عندما يضعف جيشها فهي حتمًا إلى زوال.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.