أتيلا الجبار

«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
TT

أتيلا الجبار

«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
«أتيلا» ملك قبائل «الهان»

أينما ذهب «أتيلا الجبار» قالت عنه الشعوب إنه «وباء الله على الأرض»، بينما انتشرت مقولة أخرى أن الأخضر لا ينمو مرة أخرى تحت أقدام فرس هذا الطاغية، وهكذا استقبلت منطقة وسط أوروبا سيرة هذا الملك الشاب والذي أصبح أحد أسوأ الظواهر الإنسانية على الأرض حتى ذلك التاريخ، فهذا هو «أتيلا» ملك قبائل «الهان Hun»، الذي سيطرت قواته على وسط وجنوب وسط أوروبا خلال منتصف القرن الخامس الميلادي في أحد أسوأ صفحات التاريخ الإنساني المعروف، فهو الرجل الذي كانت أوروبا كلها تخشاه، ومعها أقوى إمبراطوريتين عرفتها أوروبا وهي الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، واللتان وقفتا مكتوفة الأيدي أمام قواته والدمار الشامل الذي كان يلحق بالأرض والشعوب التي مر بها.
واقع الأمر أن أصول قبائل «الهان» يرجع إلى وسط آسيا بالأخص قرب منغوليا وأتت إلى أوروبا ضمن موجات الهجرة المتتالية لكثير من القبائل في هذه المناطق بهدف استيطان وسط وجنوب شرقي أوروبا، بينما ترجع بعض المصادر التاريخية الأخرى أصول الهان إلى قبائل الـScythians والتي اختلطت بكثير من القبائل الإيرانية الشمالية في القرن الثاني الميلادي، وعلى كل الأحوال، فإن قبائل «الهان» لم تلعب دورًا فاعلاً وكبيرًا في التاريخ الأوروبي مثل باقي القبائل الهندية / الأوروبية التي كانت منتشرة إلا في القرن الخامس الميلادي، فأمة «الهان» كان شأنها شأن باقي هذه القبائل تمثل قوة متحركة قوية إلى أن استقرت فيما هو معروف اليوم بالمجر، وعلى الرغم من قوتها فهي كانت محلية الطابع بدرجة كبيرة، ولم تسع مثل قبائل «الجوثس» و«الفيزجوثس» والقبائل «الفراكنية» الأخرى إلى توسيع قاعدتها السياسية بشكل كبير، ولكن هذا كان ليتغير بمجرد أن اعتلى أتيلا الحكم وهو في الأربعين من عمره بعدما توفي عمه، تاركًا الحكم له ولأخيه «بليدا»، وهو ما لم يكن ليستمر طويلاً، فالشاب أتيلا لم يكن على استعداد لتقاسم السلطة لمدة طويلة، فتخلص من أخيه بدس السم له، وخلا له الحكم.
لقد كان هذا الملك الطموح يعرف جيدًا أهمية توسيع رقعة مملكته ليستطيع أن يتغلب على الظروف الصعبة وشظف العيش، فكان سلاحه في ذلك الأمر هو جيشه القوي، الذي وصل إلى قرابة نصف مليون جندي بعد فترة وجيزة، وكان سلاحه الآخر هو الخوف، فلقد أدرك الرجل أن الخوف هو الحل لمواجهة أعدائه، فعمد إلى اتباع سياسة جعلته في التقدير «أول مجرم حرب أوروبي» على مستوى كبير، فلقد قتل وحرق ودمر من المدن ما لا يمكن حصره، فسياسته كانت القضاء المبرم على عدوه حتى يكون عبرة لعدوه التالي، فأينما ذهبت جيوشه كان الدم والخراب والحرق هو النتاج الطبيعي لوجودها، وبهذا ضمن ولاء وخوف كل أعدائه، وقد ساعده في فتوحاته قيامه بتطوير النظام العسكري الذي كانت قبائل الهان تتبعه، فلقد كان عماد هذه القبائل هو الفرس والذي أعطي لجيوشه الحركة السريعة، وكان القوس هو السلاح الفتاك الذي أتقنه هذا الجيش، فيقال إن الفارس منهم كان يستطيع أن يقنص عدوه من على مسافة تصل إلى مائة متر أو أكثر، فالحركة كانت مفتاح سر هذا الجيش الجبار إلى جانب تنظيمه الدقيق.
لقد كانت أوروبا في ذلك الوقت مقسمة سياسيًا ما بين الإمبراطورية الرومانية في الغرب، والإمبراطورية البيزنطية في الشرق، بينما كانت وسط أوروبا تنتشر فيها القبائل القوية التي كانت تهدد هاتين الإمبراطوريتين، وواقع الأمر أن أتيلا بدأ توسيع قاعدة انطلاقاته نحو الإمبراطورية البيزنطية في الجنوب والتي كانت دولة غنية ولكنها لم تعد تملك نفس قوتها السابقة، وهو ما جعلها فريسة سهلة لهذا الرجل الدموي، فهاجم أراضيها بكل قوة وعنف جاعلاً منها صيدًا سهلاً للغاية، فتوغل في ممتلكاتها إلى أن أصبح على مقربة من العاصمة وهو ما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى طلب الصلح معه بعدما حرق مدنًا بالكامل وأبيد قاطنيها عن بكرة أبيهم، فأصبحت هذه الدولة تدفع له جزية سنوية متضاعفة تخطت سبعمائة كيلوغرام من الذهب سنويًا، وهو ما سمح له بالمزيد من الوفرة والتي طور بها جيوشه خلال فترة حكمه القصير والتي دامت ثمانية سنوات فقط.
اتبع أتيلا نفس سياسات جدوده من حيث رفضه الكامل لعوامل التغريب، فلقد رفض المسيحية ورفض التحضر على النحو الروماني أو البيزنطي، فحافظ على الطبيعة البدوية لقبائله على عكس كثير من القبائل القوية الأخرى في وسط أوروبا والتي سرعان ما تأثرت بثقافة ومدنية هاتين الإمبراطوريتين، وقد وضع الرجل نظامًا قويًا لضمان توفير الجيوش اللازمة لفتوحاته المنتظرة، وبالتالي كانت انتصاراته أحد الأسباب الرئيسية لاستقرار فترة حكمه داخليًا بعد انتصاره على البيزنطيين، خصوصا وأنه كان يعاقب بقوة كل من يخرج عليه ويعدمه في تجمع عام ليكون عبرة لكل من تساوره نفسه للخروج عليه.
صار أتيلا على قناعة بأنه استخلص من البيزنطيين أقصى ما يمكن أن يحصل عليه من ذهب وأموال، فوجه جهده نحو الإمبراطورية الرومانية وعاصمتها روما، وكان الرجل في انتظار الفرصة السانحة لفتح جبهته الغربية، وهي الفرصة التي سنحت له بسبب فضيحة لأخت الإمبراطور الروماني والتي أدت لقرار الإمبراطور تزويجها من أحد رجال الساسة، فاستنجدت الأميرة بالملك «أتيلا» حيث عرضت عليه الزواج وتقاسم الإمبراطورية، فاستغل الرجل الفرصة وأرسل لأخيها الإمبراطور يطالب بالممالك الغربية للإمبراطورية كمهر لزواجه المرتقب من أخته، وأرسل جيوشه إلى الغرب في بلاد «الغال» أي فرنسا، ولكن أتيلا لم يكن يتوقع أن القدر سيقف ضده متمثلاً في شخصية رومانية عبقرية هي «فلافيوس أييتس»، ذلك الروماني الفذ والذي عاش صباه صديقًا لأتيلا عندما كان رهينة رومانية لدى قبائل «الهان» ضمانًا لمعاهدة السلام التي وُقعت بين الطرفين، فلقد كان «فلايوس» مدركًا لقوة خصمه وطريقة حياة هذه القبائل وطرق حروبهم، بل يقال إنه كان يمتطي جواده على نفس شاكلتهم، وكان يعرف تكتيكاتهم العسكرية معرفة كاملة، فتحالف هذا القائد الروماني مع بعض القبائل «الجيرمانية» التي كانت تخشى تفشي قوة «الهان» في وسط أوروبا.
في عام 452 شهدت أوروبا بالقرب من نهر «المارن» في فرنسا معركة «شارلونز» الشهيرة، وفي هذه المعركة الدموية التي راح ضحيتها ما يقدر بنحو مائة وخمسين ألفًا، استطاع فلافيوس بتكتيكاته العسكرية أن يوقف هجوم «أتيلا» بعدما كاد قلب جيشه يُهزم، ولكن الإمدادات التي دفع بها «فلافيوس» من الجناحين استطاعت أن تصد جيش أتيلا الجبار بكل قوة، وهو ما دفعه للتقهقر على وجه السرعة، وهكذا أُنقذت أوروبا من دمار محقق، ولكنها لم تكن نهاية الحرب مع هذا الرجل الجبار، فانسحابه كان تكتيكًا إلى حد كبير، إذ سرعان ما استطاع أن يُجمع جيوشه مرة أخرى في العام التالي واستغل فترة الصيف ليصب غضبه على روما ذاتها، فهذه المرة لم يوجه جيوشه إلى الغرب، بل خرج من قاعدته إلى الجنوب مباشرة قاصدًا روما، تاركًا خيطًا من الدمار والقتل والدم لم تشهده أوروبا من قبل، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يدخل روما، وهو ما اضطر الإمبراطور إلى إرسال البابا «ليو» ليتفاوض معه لينسحب.
واقع الأمر أن المصادر التاريخية لم تأت إلينا بما دار في هذا اللقاء التاريخي، ولكن نتيجته كان قرار أتيلا الانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى إلى قواعده، ولكن التحليلات التاريخية تقدم لنا رؤية واقعية للأسباب التي دفعت هذا الملك الجبار إلى التخلي عن أهدافه، فحقيقة الأمر أن الرجل كان بعيدًا عن مركزه في المجر، وكانت إمداداته قد بدأت تتأثر كثيرًا بسبب البعد الجغرافي، إضافة إلى أن جبهته الشرقية ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية كانت في خطر حقيقي، فلو انكسر الصلح مع البيزنطيين كما كان متوقعًا، فإن هذا معناه أنه سيواجه الإمبراطوريتين معًا، ويضاف إلى ذلك أن جيوش الرجل قد تفشى فيها مرض الجدري، وهو ما يعني ضرورة الانسحاب، وبالتأكيد فإن الذهب الروماني كان سببًا آخر في الانسحاب، حيث عرضت عليه الكنيسة والإمبراطور على حد سواء صناديق من الذهب ملأت شهيته مؤقتًا، وهو ما أدى لقراره بالانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى للمجر.
حقيقة الأمر أن الدبلوماسية البابوية قد أنقذت الحضارة الأوروبية بكل تأكيد، فلو أن أتيلا قد استمر في حملته واستطاع تصفية الإمبراطورية الرومانية فإن هذا كان معناه نهاية الحضارة الغربية المعروفة اليوم، فالرجل كان سيهدم كل ما هو روماني من الكنيسة إلى القوانين الرومانية، وكان مصير روما هو الحرق شأنها شأن باقي المدن الأخرى، وقد أدى هذا الصلح أيضا إلى علو شأن الكنيسة والتي نظرت لها الرعية على اعتبارها وسيلة السماء المباركة والتي أجبرت هذا الرجل السفاح على التراجع، وهو ما أعطى الكنيسة دفعة قوية للغاية في أعين الرعية والتي رأت أن الرب راض عنها وبالتالي زاد نفوذها السياسي بشكل ملحوظ بعد ذلك.
لقد كان من الممكن أن يكون مصير أوروبا في العام التالي هو نفس ما حدث وكان من الممكن أن يهدم أتيلا روما والحضارة الغربية تمامًا هذه المرة، لولا أن القدر تدخل مرة أخرى في عام 453، حيث مات الرجل في ليلة زفافه، ومن سخرية القدر أن الرجل مات مخنوقًا بدمائه بعدما تعرض لنزيف خارجي وداخلي في آن واحد أجهز على رئتيه، فمات الرجل في دمائه مثلما أراق دماء الآخرين، ولكن ليس قبل أن يترك لنا بسيرته عددًا من الحقائق أهمها أن الدولة التي تحاصرها الأعداء عندما يضعف جيشها فهي حتمًا إلى زوال.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.