يفصل ما يقرب من 4 آلاف ميل بين مدينتي ليدز البريطانية وراسين الأميركية، لكن يمكن القول إن القيم التي تعلمها واستوعبها المدير الفني جيسي مارش عندما كان طفلاً في تلك المدينة الأميركية هي التي تجعله يحتفظ بمنصبه حتى الآن كمدير فني لنادي ليدز يونايتد، فسكان هذا الجزء من الولايات المتحدة معروفون بالتواضع الشديد ودماثة الخلق واللطف، ويبدو أن مارش يجسد كل تلك الصفات، على الأقل بعيداً عن ملاعب كرة القدم!
لقد تحلى المدير الفني لليدز يونايتد بالهدوء الشديد والصبر في مواجهة التساؤلات والشكوك الكثيرة المحيطة بمستقبله غير المستقر، وهي الصفات التي جعلت المديرين التنفيذيين للنادي يصبرون على المدير الفني الأميركي الذي تولى قيادة الفريق خلفاً لمارسيلو بيلسا. ولن نبالغ على الإطلاق عندما نقول إن هذه الصفات الرائعة لمارش بعيداً عن الملعب هي التي منحته وقتاً إضافياً في قيادة الفريق رغم سوء النتائج. وقاد مارش ليدز يونايتد للفوز على ليفربول في معقله بملعب «أنفيلد» بهدفين مقابل هدف وحيد، ليكون هذا أول فوز يحققه ليدز يونايتد في الدوري الإنجليزي الممتاز في تسع مباريات تحت قيادة مارش، كما جاء هذا الفوز لينهي سلسلة من أربع هزائم متتالية للفريق. وتنقسم الآراء حول ما إذا كان مارش سيئ الحظ أم أنه غير مناسب من الأساس لقيادة الفريق.
يقول المدير الفني الأميركي: «نحن من نتسبب في خسارتنا. لقد كانت كل المباريات السابقة متوازنة، لكن عندما ترتفع مستويات التوتر لدى اللاعبين، تقل مستويات تركيزهم. وعندما تسنح لنا الفرص، فإننا لا نستغلها». من المؤكد أن أي مدير فني آخر كان سيفقد أعصابه وتركيزه في مثل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها مارش، لكن المدير الفني الأميركي لا يزال محافظاً على هدوئه ورباطة جأشه إلى حدٍ كبير. وخلال السنوات التي قضاها في دراسة التاريخ في جامعة برينستون، اكتسب مارش مستوى من الثقة بالنفس يمكن أن يتخطى أحياناً الحدود البسيطة الفاصلة بين الثقة والغرور.
وقد ساعدته هذه الثقة كثيراً خلال مسيرته كلاعب خط وسط في نادي شيكاغو فاير، ثم كمدير فني لنيويورك ريد بولز وريد بول سالزبورغ، ثم خلال ولايته الأقل نجاحاً مع نادي لايبزيغ. يقول المدير الفني، الذي يبلغ من العمر 49 عاماً هذا الشهر: «لم أخسر هذا العدد من المباريات في حياتي المهنية بأكملها. أنا غاضب بشدة، وقد سئمت ومللت من أن نكون الفريق الأفضل ثم نخرج من دون أي نقاط. لكنني تحدثت كثيراً مع مجلس الإدارة وهو يدعمني بشدة».
حظي مارش بثقة مسؤولي ليدز رغم النتائج السيئة (أ.ف.ب)
ورغم أن مارش لا يزال يعتمد على طريقة الضغط العالي على حامل الكرة في جميع أنحاء الملعب، فإنه ليس من نوعية المديرين الفنيين الذين يلتزمون بطريقة لعب واحدة ويرفضون التغيير. وعلاوة على ذلك، كشف مارش مؤخراً عن أنه ستكون هناك العديد من التعديلات، والتي كان من أبرزها الاعتماد بشكل أكبر على اختصاصي علم النفس في قاعدة التدريب الخاصة بنادي ليدز يونايتد، وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً بأن وقوفه الدائم بجوار خط التماس لتوجيه التعليمات للاعبيه ربما أدى في بعض الأحيان إلى تشتيت انتباه اللاعبين وعدم الانضباط داخل الملعب، وهو ما كلف الفريق غالياً في كثير من الأحيان. وهناك مشكلة أخرى تتعلق بتدني ثقة اللاعبين في أنفسهم، وهو الأمر الذي يفسر الأسباب وراء إهدار باتريك بامفورد لتسع فرص محققة هذا الموسم، بشكل غير مألوف من اللاعب، الذي كان يجيد استغلال أنصاف الفرص أمام المرمى.
وبعدما ابتعد بامفورد عن الملاعب الموسم الماضي بسبب الإصابة، أصبح اللاعب قريباً من استعادة لياقته البدنية بالكامل. لكن رغم أن اللاعب يتحرك بشكل ممتاز داخل المستطيل الأخضر، فإنه لم يستعد بعد خطورته الكبيرة في إنهاء الهجمات، وهو ما يتسبب في مشاكل كبيرة للفريق، خاصة أنه المهاجم الوحيد الذي أظهر من قبل كفاءة كبيرة في تحويل أنصاف الفرص إلى أهداف. من الواضح أن بامفورد يبدو متوتراً للغاية في الوقت الحالي، وهو الأمر الذي ظهر من خلال عادته الأخيرة بالنزول إلى نفق الملعب، ربما للذهاب إلى المرحاض، قبل وقت قصير من مشاركته كبديل. ومع ذلك، فإن مارش ليس وحده الذي يعتقد أنه بمجرد أن يسجل بامفورد هدفه الأول ويخفف الضغط من على كاهله، فإنه سيحرز المزيد من الأهداف بعد ذلك.
من الممكن أن تكون الأرقام خادعة، لكن مسؤولي النادي المملوك بنسبة 44 في المائة من قبل شركة «سان فرانسيسكو 49 إنتربرايزيس» المهووسة بالإحصاءات، لاحظوا أن ليدز يونايتد يأتي في المرتبة السابعة بين جميع أندية الدوري الإنجليزي الممتاز فيما يتعلق بإحصائية «الأهداف المتوقعة»، وينطبق الشيء نفسه على متوسط استحواذ الفريق على الكرة في المباريات، والذي يصل إلى 52.5 في المائة. ورغم بعض الأخطاء الفردية الكارثية، فإن خط دفاع الفريق يعمل بشكل جيد للغاية، وخير دليل على ذلك أن ستة أندية فقط في الدوري الإنجليزي الممتاز تعرضت لتسديدات على المرمى أقل من التسديدات التي تعرض لها مرمى ليدز يونايتد. يقول مارش عن ذلك: «نعلم أننا متماسكون في الخط الخلفي».
ورغم أن ليدز يونايتد أنفق 99 مليون جنيه إسترليني على التعاقد مع لاعبين جدد - أبرزهم لاعبو خط الوسط برندن آرونسون، وتايلر آدامز، ومارك روكا - فإنه استعاد 97.5 مليون جنيه إسترليني من بيع عدد من اللاعبين، وخسر أفضل لاعبين كانا لديه، وهما نجم خط وسط المنتخب الإنجليزي كالفين فيليبس، والجناح البرازيلي رافينيا. يعرف مارش أنه أخطأ بشدة عندما لم يتعاقد مع مهاجم جيد ليكون بديلا لبامفورد، لكنه قال عن ذلك بكل هدوء ومن دون أن يوجه أصابع الاتهام لأحد: «لن أنظر إلى الماضي وأقول إنه كان يتعين علي القيام بهذا الأمر أو ذاك، أو أن أحمل أي شخص آخر المسؤولية». ويجب الإشارة إلى أن مارش مقرب للغاية من مدير كرة القدم بالنادي، فيكتور أورتا، ويدرك جيداً أنه يجب توفير الأموال لإعادة تطوير ملعب «إيلاند رود».
لقد وضع أورتا مارش على رأس قائمة تضم 39 مديراً فنياً آخر تم اختيارهم في قائمة طويلة ليكون أحدهم خليفة لبيلسا، ويبدو أنه لا يرغب في الإطاحة بمارش، حتى في ظل التقارير التي تشير إلى رغبة النادي في التعاقد مع رافائيل بينيتيز. والأهم من ذلك، أن لاعبي الفريق، الذي سيخوض مباراة هامة على ملعبه أمام بورنموث يوم السبت المقبل، لا يزالون مقتنعين تماماً بمارش وفلسفته التدريبية. وقال قائد الفريق، ليام كوبر: «نحن ندعم المدير الفني تماماً، ونثق بجيسي. نحن من خذلنا أنفسنا».
قد يسخر البعض من تصريحات كوبر، لكنه في الحقيقة معروف بإخلاصه الشديد، ويبدو - كما هو الحال مع معظم زملائه في الفريق - أنه يستمتع بالعمل مع المدير الفني الأميركي الذي يشعر بالسعادة وهو يجري مناقشات مع لاعبين تتعلق بالخطط الفنية والتكتيكية، كما يتبادل النكات مع لاعبيه عبر تطبيق «واتساب» ويعاملهم على أنهم رجال ناضجون.
لقد شاهد مارش والده وهو يعمل في نوبات العمل الليلية على خط التجميع في مصنع للجرارات في مدينة راسين الأميركية، وكتب رسالة من 117 صفحة عن الوعي بالزلزال في كاليفورنيا، واصطحب زوجته وأطفاله الثلاثة في رحلة لمدة ستة أشهر في جنوب شرقي آسيا والشرق الأوسط، وكانت مصر محطته المفضلة خلال تلك الرحلة. لقد جعلته كل هذه التجارب المتنوعة للغاية بارعاً في التواصل مع الأشخاص من جميع الخلفيات. إن هذه المواهب والصفات الشخصية المميزة هي التي جعلته يحظى بدعم كبير من جانب مجلس الإدارة واللاعبين والجمهور، في الوقت الحالي على الأقل. وقال مارش: «لم أكمل عملي بعد. لكنني لست غبياً، فأنا أدرك تماماً أنه إذا لم نحقق الفوز فإنني أضع مجلس الإدارة في موقف صعب».